بعض المفارقات "المتشابهة" حين يصنع القوم وراء البحر،في غربهم "الكافر" ،طائرة بآخر المواصفات،يطلقونها كي تجوب الفضاء،كي تبرهن على قدرتهم وتفوقهم ونبوغهم.يصدر "الشيخ" هنا،في عالمنا العربي والإسلامي،آخر فتوى سرعتها تفوق سرعة الطائرة النفاثة بآخر مواصفاتها،ومن سرعتها تجوب العالم كله عبر الفضائيات ومواقع الأنترنيت قبل أن تلامس عجلات الطائرة أرض المطار من جديد. حين يطلق علماءُ الفضاء الأمريكان مركباتهم المجهزة بآخر أصناف العتاد المعلوماتي،سعيا منهم لاستكشاف الكواكب الأخرى ومعرفة مدى توفر ظروف الحياة على سطحها،والإطلاع على مكوناتها وأسرارها.فإن "الشيخ" العالم المفرد، والعلامة الأوحد وحيد زمانه وفريد أوانه الذي بز أقرانه وفاق إخوانه ،وقهر شيطانهم وشيطانه،يركب رأسه،يطوف العالم من أقصاه إلى أقصاه،يحدد للعلم حدوده،ويضع للتقدم قيوده،كي لا يغتر المغترون،ولا يتطاول علينا الجاهلون.فنحن،يشهد بذلك العالم كله،المتفوقون الأولون.لأن علومهم تسوقهم ،في نهاية المطاف، للضلال. وعلومنا،حقا وصدقا، تهدينا إلى النور.فكيف يتساوى الأحياء بيقينهم مع الأموات في غياهب القبور؟ وحين يتبارى الساسة والحقوقيون والمثقفون للمطالبة بمزيد من الحرية لشعوبهم الغربية،ومن سار على دربهم من باقي شعوب العالم،لأنهم يعرفون أن الإنسان كلما زاد حرية كلما زاد إبداعا،وكلما تحرر من القيود التي تحجب العقل وتكبل الإرادة وتعرقل مسيرة النماء،كلما ساهم في بناء مجتمع قوي وسلطة سياسية متوازنة ،تملك الإدارة ولا تملك الإرادة،تحكم بالقانون ولا تحكم بالظنون .حينها ينبري لهم "الشيخ" الوارث لعشرة قرون ونيف من فقه الدولة السلطانية،والمؤمن حتى النخاع بخضوع الرعية،يناطحهم ويقارعهم بكل الحجج وبطول هذه "القرون" : لا يشترط في طاعة الحاكم أن يكون عادلا أو صالحاً أو فاضلا، فطاعة الإمام تهدف إلى حفظ البلاد وحماية الأمة من الشقاق والتفرق وليست مشروطة بتحقيق المصلحة الشخصية للفرد وتمكينه من مطالبه .فالفرد مطالب ،طاعة لله ،أن يسمع ويطيع،سواء ضرب الحاكم ظهره،أو فقأ عينه،أو فعل به ما يشاء. إن الفرد في نهاية المطاف مجرد رأس وسط قطيع،ومجرد واحد من الرعية التي تسمع فقط وتطيع.وبداية الهلاك السؤال.وهذا قدر لا مفر منه.أيناطح الواحد من القطيع قدره ؟ أيناقش العبد الضئيل سيده ؟ أيجرؤ العبد الضعيف أن يرفع رأسه؟ وحين تفتح الدول المتقدمة في الغرب لكل مواطنيها باب الإبداع ومسالك التعبير عن الرأي ،كل في مجال تخصصه،بحيث لا يتدخل عالم الذرة في شؤون عالم الاجتماع.ولا يرد عالم الإحياء على الاقتصادي في شؤون الاقتصاد.ولا يتعالم الفلكي بمنظاره،على الطبيب بمجهره.ولا هذا يتذاكى على ذاك.بل تخصصات متباينة،والإلمام ببعض الأبجديات التي هي من الثقافة العامة لا يخل بحرمة التخصصات وأن يقول كل متخصص في مجاله ما يراه صوابا،فله وحده القول الفصل والكلمة الأخيرة. هنا يجن "الشيخ " جنونه،يرفع بالصراخ عقيرته :الإسلام أحاط بكل شيء وأنا أتكلم باسم الإسلام.فيفتي في الحيض والنفاس،وفي الفلك والاقتصاد.وفي العلوم والفنون.وفي أحوال الناس الدنيوية وأحوالهم الأخروية،دون أدنى احترام لشيء إسمه التخصص .ودون إلمام بتفاصيل أي موضع أو حدود أية قضية. هذا النوع من التفكير المشدود إلى الزمن البعيد،ينم عن مدى عزلة كثير من هؤلاء الشيوخ عن العالم الذي نعيش فيه اليوم.وكلما تسارعت الاختراعات والاكتشافات،وتعددت التخصصات،بدل أن يرسم هذا "الشيخ"لنفسه حدودا معينة لا يتجاوزها،يحس أن علمه أيضا اتسع وثقافته "تضخمت" ومعارفه كثرت فلا حدود لها.ومن حقه أن يرسم للناس الصراط المستقيم في كل تخصص، بدل أن يترك المتخصصين يرسمون مساراتهم ويختارون لشعوبهم أفضل السبل. وهذا ليس غريبا،لماذا نسعى إلى رفع الإنتاج وطرق أبواب التصنيع ،إن اللحوم ذات المصدر الحيواني إذا نفدت من السوق أو وقع نقص في الإنتاج أو مرض ما ،فإن العوض ممكن وذلك باستيراد لحم الجن ... فإنه حلال .. حلال ... حلال أرض الله طاهرة،لكن لا بأس من الصلاة على صور السيد الرئيس ... قتل الجيش والأمن للمتظاهرين هو وأد للفتنة ودفاع عن الشرعية ودعم لمحور الممانعة والمقاومة...قالها شيخ وكلام الشيخ مبني على أساس ديني متين ... أقتلوا الأطفال والشيوخ والنساء ... دماؤهم هي السد المنيع لكل اختراق من طرف العدو لحدودنا الآمنة.وكل نقطة دم تبعد نار الفتنة كي لا تحرقنا ... وتحرق لحانا وسبحاتنا ،فنصبح بعد المشيخة مسخرة،وبعد المقاومة مجرد مقاولة،تجري وراء رؤوس الأموال بطعم الطائفية. لماذا دفن جثث النساء المتزوجات ؟،من قال إن إكرام الميت دفنه ؟ نحن عندنا نقص في النساء وفائض في الفحولة والقوة الجنسية،فممارسة الجنس على كل جثة قبل دفنها،هو حل لمشكل العنوسة ...!!! لماذا فتح قنوات الحوار مع العلمانيين والحداثيين ؟ بدل ذلك فإن "الشيخ" يدعو الله أن يجمد الدماء في عروقهم،ويسلط عليهم سرطانا ينهش خلاياهم.إنه يدود عن الحق،ومن حقه أن يشتم الخصوم ويسلط عليهم دعاءه "الاستئصالي" لأنهم تجرؤوا على أن يقولوا بوجهة نظر أخرى لا ترضي عمنا "الشيخ"... ما هو أصل المشكل ؟ بداية،لقد تعود كثير من أشباه هذا الشيخ أن يصوروا انتقاد الناس لهم ومناقشتهم لأقوالهم،ورد ما يصطدم مع العقل والنقل وما توصلت إليه المعارف الحديثة.تعودوا أن يصوروا هذا هجوما على الإسلام ،ونيلا من قدسيته ،وتعديا صارخا على ثوابته.وهنا مكمن الخطإ في التحليل،وأصل الخلل في التقييم. الإسلام دين الله،ومهما تشبع بقيمه شخص والتزم بمبادئه،فلن يكون هو الإسلام.بل هو واحد من المسلمين في أحسن الأحوال.وقد آن الأوان أن تقف كثير من الزعامات عند حدها.لقد انكشفت هذه الزعامات وأميط اللثام عن وجهها الحقيقي.فكثير منها يسعى وراء مصلحته الشخصية،وفي أحسن الأحوال وراء مصلحته الحزبية والطائفية والمذهبية.أما دين الله فهو رحمة للعالمين.رحمة للبشرية كلها،ولكل الخلائق التي هي أمم مثلنا.لكن يبدو أن هذا الأفق الرحب لم يعد يغري "الشيوخ" بالصعود إليه.حسبهم أن يرضى عنهم الحاكم أو زعيم الحزب أو شيخ العشيرة أو الأب الروحي للمذهب. وهذه ليست جرأة في حق أي أحد،لأن انتقادنا موجه لمن يريدون باسم الإسلام أن يقمعوا مخالفيهم ويكمموا أفواههم،وباسم الإسلام يريدون الإفتاء في كل شيء،دون احترام العقل الإنساني الذي أصبحت له فتوحات في شتى ميادين المعرفة.فأصبح من الالتزام بالدين احترامُ العقل وتقديرُ جهوده.كما أنه من الالتزام بالعقل احترام الدين وعدم الزج به في كل قضية ومعركة.لأن الأمر يتعلق بتراكم معرفي كبير،وبنتائج عقول جبارة جعلت الحقيقة هدفها،وبحقائق بُنيت على الموضوعية وفق مناهج عقلية مبنية على أصول وقواعد تدحض كل أسباب الشك. فلا يعقل، والحال هذه، أن يكون عقل "الشيخ" ،وفي كثير من الأحيان ،هواه أو مذهبيته الضيقة ،المرجعَ والحكمَ في كل القضايا ما صغر منها وما كبر،ما كان منها عامّاً وما كان من صميم تخصصات دقيقة بعينها.ولا سبيل إلى وقف هذا التداخل وهذا الخلط الحاصل في عقول كثير من "الشيوخ" إلا بالإقرار بأن باقي التخصصات في حياة الناس لا تقل أهمية عن تخصصه هو كشيخ أو فقيه.فلا يمكن أن يحصل العمران ،وتتطور الحياة ،وتزدهر العلوم ،وترتقي الحضارة ،إلا بتكاثف جهود كل هؤلاء المتخصصين،بعيدا عن الإرهاب الفكري والتحذير من كل جديد ،أوجعل عقل الفقيه عتبة لا يمكن تجاوزها تفكيرا وخلقا وإبداعا. الشيخ المركز والمرجع في كل شيء لا أقصد المبالغة ولا التهويل من خلال العنوان الذي اخترته لهذه المقالة،التي لا أريدها استفزازية ولا اتهامية لأي كان.بل الهدف التنبيه،ولو على شكل صرخات عالية وصعقات كهربائية متوالية،أن هناك خللا في المنظومة الفكرية التقليدية، التي مازالت توجه سلوك كثير من المشايخ ،وتتمحور حولها "اجتهاداتهم" ،وتحكمهم بسقف في التقليد لا يستطيعون تجاوزه.حتى اللغة والمفردات المستعملة في خطاب الكثيرين مازالت،رغم تحججهم أنهم بارعون في هذا الباب،تصدم الذوق وتحتمل غير قليل من التهجم والعدوانية الرخيصة. لقد تتبعت الخرجات الإعلامية لأحد المشايخ،ولاحظت جليا أن الرجل بلغت به الثقة في نفسه والاستهتار بخصومه درجة أصبح يرى نفسه مقدسا متعاليا ويراهم هم أسفل سافلين في قعر واد سحيق.ولم يواجه واحدا بعينه،ولم يلتزم تخصصا قائما بذاته.بل نصب نفسه قادرا على التدخل في كل شيء. ليس هذا هو المعيب،فمن حق أي كان أن يتطرق لجميع المواضيع التي يريد الخوض فيها.ما هوَ مَعيبٌ وممجوج ومرفوض بشكل مطلق، هو الاتكاء دائما على نصوص من الدين لتسفيه الآخر والنيل منه وتحقيره أحيانا.دون أن يكون هناك داع لهذه النصوص أو بعض الأحداث التاريخية. وهذا ما يجعل الحوار غير متكافئ،ولا يهدف إلى الوصول إلى نتائج أو توافقات،بل دائما يحكمه هاجس التعالي والتحقير.والأخطر من هذا ،هو استغلال الدين في معارك كان ممكنا الإبقاء عليها في مستوى البشر المتحاورين.الذين يتوجب عليهم إقامة الحجة والدليل،وفق مناهج واضحة ومتوافق عليها،بدل أن يستندوا لنصوص القرآن الكريم يصبونها نارا وتحقيرا على مخالفيهم. أضرب مثلا صارخا ،في إحدى حلقات برنامج الاتجاه المعاكس ،كان المفروض أن تكون الحلقة مخصصة لحوار بين الراحل عبدالصبور شاهين،وأحد مشايخ التيار "السلفي".تغيب عبدالصبور شاهين،فخلا المجال للشيخ الآخر الذي صال وجال،فتجرأ على وصف خصمه بالدابة وأنه سوف يعلمه ما يجهل.طبعا هذه قلة أدب وقلة ذوق وانعدام لخلق الحوار.عندما نبهه منشط البرنامج إلى هفوته،بدل أن يعتذر قال،إن هذا مذكور في القرآن في قوله تعالى :" أولئك كالأنعام بل هم أضل" . أي يكفي أن يَرِد هذا التشبيه في حق أناس، الله وحده أعلم بهم ،في موقف محدد بعينه،لكي يصبح هذا التشبيه من حق كل شيخ يحفظ شيئا من القرآن أن يصف به خصومه الفكريين أو المذهبيين أو الذين يخالفونه وجهة نظره بشكل من الأشكال.وواضح مدى فساد هذا القياس،وبُعدِ من يعمل به عن خلق الحوار وتعاليم الدين . وهو المنطق الذي يستند إليه عبدة الأوهام والخرافات،فيأتونك بكل عجب عجاب ويؤمنون بكل خرافة تحكى أو تقص في كتاب.وحين تطلب إليهم الحجة والدليل والبرهان على صدق قولهم،يكون جوابهم ألم تقرأ قصة الخضر مع سيدنا موسى.إنه العلم اللدني يا جاحد ! احتراما لديننا الحنيف الذي يُعلي من شأن العقل والمعرفة والعلم،ويُعلي بالقدر نفسه من شأن الخلق الحسن والتسامح والحوار بالتي هي أحسن.لا بد وأن يعرف كل واحد حدود معرفته،وواجبه الأخلاقي تجاه محاوره،وواجبه الكبير أيضا تجاه دينه وخالقه.فلا يتطاول على الآخرين ولا ينال منهم،ولا يتدخل في تخصصات غيره. إن عالمنا اليوم هو عالم التخصصات والمعرفة المتطورة،فلا توقف بل هي اكتشافات وفتوحات متواصلة.وإن إقحام الإسلام ،جهلا أو تجاهلا،بنية حسنة أو تطاولا،في كل الشؤون التي هي نتاج التجربة البشرية والثقافة السائدة ومدى تفاعل العقل البشري مع معطيات وظروف العصر، هذا الإقحام العبثي في كثير من الأحيان،هو متاجرة بالإسلام لإثبات وجهات النظر التي تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب،ومعيار صوابها وخطئها ليس بالضرورة أن يكون بيدي شيخ يجيد الكلام. كما يجب التذكير ،مجرد تذكير،أن من عرف شيئا غابت عنه أشياء.وخير لكل صاحب معرفة،دينية أو سواها،أن يلزم دائما جانب الحذر.ألم يقل الأوائل : نصف العلم قولك : لا أعلمُ.؟ .والذي له دراية كافية بما وقع من تغيرات في عالمنا المعاصر،سوف يقر أن أكثر من 90 % هي ضمن منطقة " لا أعلم ". فالتواضع في هذا الباب ليس مجرد خلق يتساوى الاتصاف به من عدمه.بل التواضع قيمة معرفية وضرورة لا يستغني عنها إلا مكابر. لقد آن الأوان أن يعرف هذا الشيخ ،وكل من له دراية بمعرفة أو علم أو تخصص،أن علمه نقطة من بحر .وأن دائرة العلم قطرها بقطر العوالم ... وفوق كل ذي علم عليم.إنه إذ يخال نفسه مركز الدائرة،يبتعد كثيرا عن محاوريه.وربما يصغر أيضا في أعينهم،أكثر مما يصر هو على استصغارهم والتعالي بشيء من معارفه عليهم. لا لوم عليه أن يفعل ذلك لذوق عليل أو فهم سقيم،أما أن يفعله مدعيا الانتصار لدين رب العالمين.فذلك هو الخطأ الذي يقترب من الخطيئة حين الإصرار عليه وجعله منهجا لا يتغير. هذا،والله أعلمُ. [email protected]