من غير المفهوم هذا الإصرار من بعض المسؤولين في تصريحاتهم على الاستماتة في الدفاع عن مقترح الحكم الذاتي، وكأنّ مصير قضيتنا الوطنية مرتهن بهذا المقترح، أو أنّ مسارها لم يعرف بدايته إلاّ مع تقديم هذا المشروع سنة 2007 ! إنّ هذا السلوك يجعل المغرب في موقف دفاعي وتبريري، بل ويدفع المحاورين الأجانب إلى التشكيك في عدالة قضيتنا، خاصة وأنّ سفراء الدول في الأممالمتحدة مثلاً أو في الاتحاد الإفريقي أو حتى الأوربي يتغيرون كلّ ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر. وحين تُغرقهم الدعاية الجزائرية بسيل من الشعارات الرّنّانة من قبيل حق الشعوب في تقرير مصيرها أو تصفية الاستعمار، فإن معظمهم يقع في غواية إبليس الانفصالية. وليس من المنطق في شيء أن نُحملهم مسؤولية الجهل بتفاصيل وحدتنا الترابية، فالأمر بالنسبة إليهم ملف قد لا يعني لهم الشيء الكثير، وفي أحسن الظروف لا يمثل رهانات إستراتيجية كبرى لدولهم. لذلك فهم غير معنيين بالبحث والتنقيب عن جذور الصراع لإزالة القناع عن عمقه الإقليمي، وحقيقة المشروع الجزائري لهدم وحدة المغرب وتهديد سلامة أراضيه. لأجل ذلك كان لزاماً على الدبلوماسية المغربية، أن تعيد في كلّ مرة ودون كلل تأطير النقاش حول جوهر الصراع الذي هو دفاع عن وحدة وسلامة أراضي المغرب، والذي يعتبر مبدأ لا يقل أهمية في ميثاق الأممالمتحدة عن مبدأ تقرير المصير. كما ينبغي التذكير بإلحاح على أنّ المغرب هو من طالب بتقرير مصير الساقية الحمراء ووادي الذهب التي كانت تسمى ساعتها "بالصحراء الإسبانية"، وذلك منذ 1956، ثمّ وثق الأمر أثناء انعقاد الدورة 15 للجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1960 أي قبل إحداث ما يسمى "البوليزاريو" بثلاثة عشر سنة كاملة، بل وحتى قبل استقلال الجزائر ! ويكفينا دليلاً على أنّ الصحراء جزء لا يتجزأ من المغرب أنها أدرجت لدى لجنة تصفية الاستعمار في نفس الملف مع سيدي إفني داخل اللجنة الرابعة وبطلب من المغرب كما تدل على ذلك التوصية عدد A/AC.109 سنة 1963. وفي هذا السياق أيضاً ينبغي تسليط الضوء على كون المغرب البلد الوحيد في شمال وغرب إفريقيا الذي كان يتمتع بالسيادة ومقومات الدولة قبل دخول الاستعمار الأوربي، مع تعزيز هذا الطرح بأرشيف الخرائط والاتفاقيات الدولية للمغرب مع فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وحتى مع دول بعيدة مثل الولاياتالمتحدة وروسيا والسويد. وهو مدخل سيسمح لإبراز المؤامرات الدولية التي تعرض لها المغرب لتقسيمه واحتلال أراضيه منذ اتفاقية للا مغنية مع فرنسا سنة 1844، مروراً بمعركة تطوان ضدّ إسبانيا سنة 1859، والتي فتحت الباب لاحتلال الشواطئ الجنوبية للمملكة من الرأس الأبيض إلى رأس بوجدور سنة 1884. قد يَعدّها البعض تفاصيل تاريخية، ولكنها تنسف أطروحات الخصوم نسفاً، وهي التي تريد أن تجعل بداية تاريخنا مع بداية الاحتلال الأوربي لغرض في نفس من غذى الصراع في "الصحراء الغربية" لإرغام المغرب على التخلي عن مطالبه في "الصحراء الشرقية". ولكن المعطيات التاريخية لا تُغني عن توضيح مسار التسوية وعلاقته بالظروف الدولية والداخلية التي أرغمت الجزائر على مهادنة المغرب وخداع المجتمع الدولي بتظاهرها بالانخراط في حلّ سياسي للقضية. وأعني بهذه الظروف: أولا، حسم المغرب للصراع عسكرياً مع انتهاء بناء الجدار السادس سنة 1987؛ ثانياً، انتفاضة الشعب الجزائري في أكتوبر 1988 التي راح ضحيتها أزيد من 500 قتيل على يد الجيش الجزائري، والتي شكلت بداية لأزمة سياسية ستصل إلى حرب أهلية خلال العشرية السوداء. ثالثاً، انتفاضة مخيمات تندوف في نفس السنة والتي تعرضت للقمع والتنكيل المزدوج من الجيش الجزائري ومليشيات "البوليساريو". رٍابعاً وأخيراً، انهيار جدار برلين 1989 ونهاية المعسكر الشرقي الذي كانت الجزائر تدور في فلكه مع ما له من تداعيات نفسية وجيوسياسية. كلّ هذه الأحداث أرغمت من جهة الجزائر والانفصاليين على قبول اتفاق وقف إطلاق النار في يونيو 1991؛ ومن جهة أخرى شكلت منعطفاً حاسماً للجبهة الانفصالية من خلال عودة معظم قياداتها المؤسسة. وعلى رأس هؤلاء عمر الحضرمي والبشير أدخيل وإبراهيم الحكيم وولد سويلم، بالإضافة إلى القيادات العسكرية وأبرزها الحبيب أيوب، وقيادات نسائية مثل كجمولة بنت أبّي والقائمة طويلة. وقد شكلت عودة القيادات وشيوخ تحديد الهوية والآلاف من ساكنة المخيمات استفتاء حقيقياً وإقراراً بانتمائهم للمغرب ورفضهم للمشروع الانفصالي الذي رعاه جنرالات الجزائر. وهل من الضروري التذكير بأنّ "الصحراء الغربية" اختراع جزائري، لقرصنة مشروع مؤسسي الجبهة الذين لم يكن لهم هدف آخر غير استكمال تحرير الأقاليم الجنوبية وانضمامها للوطن؟ وأبسط دليل على ذلك هو اسم الجبهة ذاتها.. فهي الجبهة الشعبية لتحرير إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب "البوليساريو" ! فأين محل الصحراء الغربية من الإعراب ؟ إنّ الدبلوماسية في إحدى أشهر تعريفاتها هي الحرب بطرق أخرى، ولا يخفى أننا نتعرض لحرب ضروس من النظام الجزائري منذ 42 سنة، مرّةً بالمواجهة العسكرية المباشرة، كما تشهد بذلك معركة أمغالا المجيدة التي أسر فيها المغرب 100 من الضباط والجنود الجزائريين، ومرات لا تعدّ ولا تحصى في جبهات الأممالمتحدة وإفريقيا وأوربا والمحاكم الدولية. لذلك فعلى الدبلوماسية المغربية أن تكون في مستوى التضحيات التي قدمها شهداء الوحدة الوطنية سواء في صفوف جيش التحرير أو قواتنا المسلحة الملكية وكم يتحسر المرء حينما يرى سذاجة دبلوماسيتنا التي لم تستفد من أخطاء 1963 و1972، لتقع في خطأ أفدح وهو اتفاق 1991 الذي أعطى صك البراءة للجزائر جاعلاً منها مجرد ملاحظ غير معني بالصراع ! لقد عرقلت الجزائر كل المبادرات من عودة اللاجئين ورفض إحصائهم إلى تفجير مسلسل تحديد الهوية وبالتالي إفشال الاستفتاء. وفي مقابل ذلك اقترح المغرب الحكم الذاتي ليس تشكيكاً في سيادته، ولكن كمخرج لإنهاء الصراع مع حفظ ماء الوجه لبقايا الجبهة الانفصالية وللجزائر على حدّ سواء، ولم يكن يوماً هذا المقترح هدفاً في حدّ ذاته. وقواعد فنّ المفاوضات كما الحكمة تقتضي أن نسحب هذا المقترح ما دام الطرف الآخر قد رفضه، لا أن نستميت في الدفاع عنه حتى يجرنا الخصوم إلى تنازلات أخرى كالقبول بمنطقة عازلة في الكركرات، أو الحديث عن الفدرالية الذي كان يروج له كريستوفر روس في الكواليس قبل تسريب وثائق المخابرات الأمريكية الأخيرة. كما أنّ "فن الحرب" أو الدبلوماسية تقتضي أن تكون لدينا إستراتيجيتنا الخاصة وسيناريوهاتنا الخاصة، لا أن نكون تابعين أو منتظرين لما سيقوم به الخصوم أو القوى العظمى. فلا تنازل عن شبر من أرض الوطن، وليتحمل الأعداء تبعات اختياراتهم.