حينما خطب الملك محمد السادس أمام أعضاء البرلمان بغرفتيه يوم 13 أكتوبر الجاري بمناسبة افتتاح الولاية التشريعية الثانية، لفت انتباهي كثيرا اهتمام المغاربة بكلمة –جملة في متن خطاب الملك تفيد "قد" وهو احتمال و"الزلزال السياسي". المغاربة لم يركزوا كثيرا على إحداث منصب وزاري جديد يهم شؤون افريقيا ولا هم اهتموا بالشباب ومجلسهم والجهوية بكل قيمتها وحمولتها وفلسفتها، الكل استفاض واهتم فقط بكلمتي "الزلزال السياسي". ماذا يعني هذا؟ يعني أن المجتمع المغربي مسيّس بدرجة كبيرة جدا خلافا لما يقال، وأن المجتمع متناغم مع القصر كل منهما يفهم الآخر والتواصل متصل وثابت، وإن بإشارات؛ وهذه واحدة من الخصوصيات المغربية. أقل من أسبوعين بعد افتتاح البرلمان نزل الخبر / الرّجة: الملك يعفي مسؤولين سامين ويوبخ آخرين. في الواقع، الخبر ليس مفاجئا للشعب بقدر ما هو مفاجئا للطبقة السياسية والنخبة المسؤولة، بمختلف درجاتها واختلاف مجالات المسؤولية. وهنا، مربط الفرس؟ جل المغاربة متفقون على أن الأوضاع في البلد ليست بخير، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وقيميا وتعليميا.. إلخ. وجل المغاربة توسموا خيرا في الخطب الأخيرة للملك، وهي في المجمل خطب نقدية للواقع المعاش وإقرار بوضعية نكوص ونزيف حاد لا بد له من إجراءات استعجالية واستثنائية وغير اعتيادية- عملية جراحية قيصرية- أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإفاقة المسؤول من غيبوبته المزمنة والتخدير الذي بلغ حد التحنيط. بالمقابل، نجد طبقة المسؤولين "الكلاسيكيين" تصم آذانها حتى جاءت الرجة يوم 24 أكتوبر؛ حتى يعلم الجميع في الحسيمة وزاكورة والرباط والدار البيضاء وبوعرفة وعين توجطات أن الأمر جدي وليس كلام ليل يمحوه النهار. فما هي دلالات القرار الملكي لمساء يوم 24 أكتوبر؟ وما هو المسكوت عنه؟ حينما قدم الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات تقريره وخلاصاته إلى الملك، مع احترام تام للشكليات والقانون والمؤسسات ومقتضيات الدستور المغربي روحا ونصا، قرر الملك محمد السادس – طبقا لحقوقه الدستورية- وبحضور رئيس الحكومة ووزيري المالية والداخلية: إعفاء مسؤولين سامين وتوبيخ آخرين مع التشديد على استكمال التحقيقات في مستويات أخرى؛ وذلك ربطا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. هنا، نستخلص ما يلي: أولا: الملك غير راض عن عمل الحكومة السابقة، التي تحمل مسؤوليتها الأستاذ عبد الإله بنكيران؛ ثانيا: الملك يثمن عاليا عمل حكومة الأستاذ سعد الدين العثماني؛ ثالثا: موضوعية التقدير ومسؤولية التقرير، حيث يمكن اعتبار هذا أسلوبا جديدا للسلوك السياسي ودرس في معنى المسؤولية وربط المحاسبة بالمسؤولية في أفق تعميمها وفق مقاربة "من أعلى إلى تحت "؛ رابعا: تتجلى الموضوعية والمسؤولية الحيادية للتقرير الذي على أساسه بنى رئيس الدولة قراراته الجريئة، في احترام المرجعية الدستورية، وتمديد أجل إنجاز التقرير، وعدم التحامل على الفاعل الحزبي دون باقي المسؤولين، وعدم اتهام مجاني لكل وزراء حزب العدالة والتنمية، بالعكس تمت الإشادة الضمنية بعزيز الرباح حين كان وزيرا للتجهيز وعزيز أخنوش؛ خامسا: إرسال رسالة غير مشفرة، وهذه المرة ليس عبر خطاب ملكي ولكن عبر باقي المؤسسات مهما كانت بأن الملك قرر "التدخل المباشر" وأن زمن التنبيه انتهى وحان وقت الحساب؛ سادسا: كان لافتا أن يتم نشر نتائج لجنة التحقيق للعموم واتخاذ القرارات في اليوم نفسه الذي يمثل فيه "الزفزافي ورفاقه" من معتقلي الريف أمام المحكمة وأيضا طلب رؤساء الفرق النيابية بمجلس النواب في جلسة الأسئلة الشفهية بمجلس النواب ليوم 23 أكتوبر الجاري التقدم بطلب / ملتمس إطلاق سراح المعتقلين ومتابعتهم في حالة سراح أو استصدار عفو عنهم؛ سابعا: من أهمّ ما جاء في تقرير السيد إدريس جطو، والذي عليه قرّر الملك اتخاذ المتعين، أن الملك كشف للجميع أنه قرّر محاسبة الجميع وفق القانون والدستور دون استثناء؛ لأن الملك – ربما- صدم كيف أن مشروعا ضخما أشرف عليه شخصيا وعبأت له كافة الإمكانات وهو "الحسيمة.. منارة المتوسط" لم تجتمع لجنته طيلة 16 شهرا؟ أضف إلى كل هذا أن بلاغات الديوان الملكي، وكذا تقرير المجلس الأعلى للحسابات أكد أن الأمر لا يتعلق باختلاسات؛ بل بسوء حكامة وتدبير واختلالات بيروقراطية.. وهذا منتهى الموضوعية. هذا فيما يخص ما وقع مساء يوم 24 أكتوبر بعد قرار الملك إعفاء كل من السادة محمد حصاد ومحمد نبيل بنعبد الله والحسين الوردي والعربي بن الشيخ وعلي الفاسي الفهري، مع تشديد القرار (عدم رضا الملك عليهم وعدم تحملهم لأي مسؤولية مستقبلا) في حق كل من السادة: حكيمة الحيطي ولحسن السكوري ومحمد أمين صبيحي ولحسن حداد ورشيد بلمختار، فضلا عن 14 مسؤولا لم تتم الإشارة إليهم بالاسم وترك الأمر لسعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، وفق الدستور وقانون التعيين. طيّب، فما هو المسكوت عنه في القرار الملكي الأخير؟ أولا: ما وقع مساء 24 أكتوبر ليس زلزالا؛ بل هو فقط إلقاء حجرة في بركة إدارية وسياسية شديدة المرض والبيروقراطية والفساد والعقم، وحان وقت تصفيتها مهما كلّف ذلك ولا مجال للإفلات من العقاب. والمؤكد أننا سنعيش على وقت رجّات متصلة تهم مختلف الإدارات والمؤسسات في أفق التطهير الشامل والحازم، مع شرط الهدوء.. وهنا، فعلى الجميع ترقب الرجات نفسها على مستوى الولاة والعمال وباقي مسؤولي الإدارة الترابية والسلك الدبلوماسي وكبار المسؤولين، منتخبين وجماعات ترابية، وغيره. ثانيا: انتقل الملك من الخطابات إلى تفعيل القانون والدستور، أي المحاسبة وعدم التفريط في رهن المستقبل. ثالثا: الإشادة بسعد الدين العثماني، خلافا لسابقه بنكيران. رابعا: نهاية حزبي التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، على اعتبار أن محمد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، لا يتوفر على فريق نيابي بالغرفتين؛ واقعة بلاغ الديوان الملكي ضد الأمين العام للحزب والوزير المكلف بالسكنى والتعمير وسياسة المدينة؛ إعفاء ملكي لوزيرين من الحزب نفسه بمن فيهما الأمين العام للحزب؛ و"الإعدام السياسي" لمحمد أمين الصبيحي، عضو المكتب السياسي للحزب ووزير الثقافة السابق. كل هذا يقع – وحده حزب التقدم والاشتراكية يمكن له أن يقول إن ما وقع زلزال- يستعد لعقد المؤتمر الوطني للحزب ومن سابع المستحيلات عودة بنعبد الله إلى المسؤولية في الدولة أو قيادة الحزب. خامسا: يعتبر حزب الحركة الشعبية من أكبر الأحزاب والمسؤولين الخاسرين؛ فصورة الحزب تلاشت تماما شعبيا ومؤسساتيا، حيث إن جل إن لم نقل كل قياداته ومسؤوليه أصبحوا من المغضوب عليهم شعبيا وملكيا. وحتى "أطروحة" محمد حصاد أمينا عاما للحزب وخليفة للعنصر ربما تلاشت تماما، مما يفيد بأن هذا الحزب مرشح لمغادرة الحكومة الحالية بعدما فقد حقيبتين حكوميتين (حصاد وبن الشيخ وتقريع الحيطي والسكوري فضلا عن محمد أوزين وعبد العظيم الكروج) والتلاشي النهائي في المشهد الحزبي. سادسا: إخوان العدالة والتنمية (بالصيغة العثمانية) وليس (بالصيغة البنكيرانية)، أحرار أخنوش، رفاق إلياس العماري، حواريو إدريس لشكر وإخوة نزار بركة هم المستفيدون من هذا الوضع؛ فقد أصبح الباب مشرعا أمام حزب الاستقلال لأخذ مقاعد وحقائب حزب التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية. كما أن حزب الاتحاد الاشتراكي صار بإمكانه تحسين موقعه على حساب حزبي بنعبد الله والعنصر. وهنا سنكون أمام تعديل وزاري شبه كلي فضلا عن حقيبة/م نصب كاتب دولة مكلف بالشؤون الإفريقية، بالرغم من أن سعد الدين العثماني سبق له أن نفى في منتدى وكالة المغرب العربي للأنباء إمكانية هذا التعديل. إجمالا، لسنا أمام زلزال سياسي، هو فقط رجّة أولى والبقية آتية لا ريب فيها، لأني واثق أن الآتي سيكون أعظم. الملك حسم أمره، وأدرك قبل غيره أن العالم منقلب منفلت في كل ثانية والبلد (المغرب) في قلب دوامة خطيرة، وأن الشركات أصبحت تتوحد فيما بينها فيما الأوطان تتفتت، وأدرك أن الشعب في واد والمسؤولين في واد واستحلوا ربطة العنق والدخل الوفير والريع المفضوح دون أدنى مصداقية ولا مقابل واستحقاق. الملك يدافع عن عرشه ودولته وشعبه. والمسؤول يدافع عن جيبه. الملك وبما قام به يوم 24 أكتوبر وفي التوقيت نفسه الذي يقدم فيه محمد بوسعيد مشروع قانون المالية الجديد ويحاكم فيه "الزفزافي" يقول للمغاربة وخاصة السياسيين والمسؤولين، مدنيين وعسكريين: "وقت الهضرة سالا ودابا جا وقت الحساب". إنه زمن الحزم: زمن الصمطة، الصباط، الضو؟ الدولة على ما يبدو في الخطابات الأخيرة للملك، شبعت تشخيصا وتشككيا وبكاء، النقص حاصل في قوة الاقتراح والمواطنة- بدل الوطنية، الإنتاج، القيمة، وذلك بروح الابتكار والإصلاح الشامل بعيدا كل البعد عن "لحيس الكابا". زمن العقليات الجديدة وفق روح الدستور والقانون واحقاق الحقوق. زمن الصمطة يعني "الزيار"؛ لأن الفعل السياسي تطوعي، والفعل الإداري واجب وخدمة عمومية لفائدة الدولة والمواطن. "الزيار" هو أول ضلع من أضلاع المرحلة المقبلة. "الزيار في الخدمة كيف ما كان نوعها، في الحساب على كل شادة وفادة، في الصرف، في القيم" رغبة واضحة وصارمة وصادقة لأجل جيل جديد من المسؤولين، مبدعون، يقطعون مع "العقليات القديمة وهزان الطبل والنفاق البشع والسقوط الأخلاقي المريع والمروع". إنه زمن "الصباط": بمعنى، العمل ثم العمل ثم العمل، الابتكار ثم الابتكار ثم الابتكار، سينتهي الفعل الإحساني للدولة. لا لاحتلال الملك العمومي، لا للكريمات، لا للوظيفة العمومية للجميع.. لا للمكاتب الوثيرة.. لا لتقاعد البرلمانيين والوزراء. نوض خدم على راسك. فيق بكري، ضرب تمارى على راسك، فقط على الدولة أن توفر لك "دولة القانون، كلشي بحال بحال، إدارة بدون بيروقراطية، مسؤول جاد وجدي وذا مصداقية، فعالية التعليم والمنظومة الصحية، توفير شروط العيش بكرامة عبر آليات جديدة سترى النور قريبا". الضلع الثالث في مثلث مغرب الغد هو "النور-الضو". ومعنى هذا أن أي ممارسة عتيقة، وأن أي سلوك قديم فكرا وممارسة، انتهى، وعملية التطهير انطلقت، ونحن أمام بداية واضحة للإصلاح في كل المجالات وعلى الجميع أن يستعد لذلك. وكل هذا هدفه في الزمن القصير، أن يتم إحياء الحماس في النفوس وزرع الأمل في الناس خاصة الطبقات الدنيا والنخب المهمشة. إنه إحياء لأمل أمة إنه مهما بلغ اليأس بشباب هذه الأمة والأطر الخيرة، والتي طالما تشكت، ها هو الأمل والأفق بين ايديكم.. حاكمين وحكوميين، هكذا أرى وأفسر خطابات الملك الأخيرة وقراره الأخير. عموما، نقف في النهاية على خلاصتين مركزتين، الملك انتقل من التنبيه، ثم التعبير على الغضب، ثم تفعيل صلاحياته والتدخل شخصيا.. وفي هذا تحول كبير جدا لا يمكن اختزله إلاّ في جملة "مرحلة انتهت وأخرى بدات وبجد". والخلاصة الثانية هي أن المعركة والمسؤولية في يد الشباب، وعلى هذا الشباب أن يتحمل مسؤوليته بدل القاء اللوم على الدولة.. وما ما وقع في الحسيمة إلاّ خير دليل. وفي هذا الصدد، بدا لرئيس الدولة ومؤسساتها وللمجتمع أن النخبة المهيمنة في البلد اقتصاديا (الريع) وحزبيا وفكريا ونقابيا ومجتمعيا مفلسة عن آخرها، وهذا ما يهدد أي دولة ورئيسها وشعبها ومؤسساتها. في جملة طويت صفحة وابتدأت أخرى.. بضمانة صريحة وفصيحة وعملية من رئيس الدولة، وما وقع مساء يوم 24 أكتوبر لم يرق بعد إلى مستوى الزلزال.. إنه البداية. فقط بقي أن أشير إلى أني أشفقت كثيرا على كل من السيد محمد حصاد والسيدة شرفات أفيلال؛ فالسيد حصاد كان واليا سابقا بكل من مراكش وطنجة ووزير سابق للتجهيز والنقل ووزير داخلية ووزير لأخطر وأعقد وأصعب قطاع في البلد وهو قطاع التعليم والتربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي والتكوين المهني، والذي كان يثني عليه النواب البرلمانيين في يوم الثلاثاء 24 أكتوبر أي قبل ساعتين على بلاغ الديوان الملكي، حيث كان يجيب عن أسئلة النواب البرلمانيين بل كان يعدهم في معرض إجابته على مخططه للدخول المدرسي / الجامعي لسنة 2018-2019، وكان الجميع يثني عليه وعلى جديته وصرامته، وهو نفس ما يقال عن السيدة شرفات أفيلال كاتبة الدولة المكلفة بالماء والتي كانت توجد في زاكورة – بعد ثورة العطش- في التوقيت نفسه التي تعلم فيه أن حزبها وأطره في الحكومة السابقة والحالية قضي أمره نهائيا فيما هي "باقية محترقة". موقف صعب جدا جدا أليس كذلك؟ إنه "زمن جديد" عبر إشارات كاشفة ومكشوفة وعملية فعلية. زمن يجب أن يكون جديدا يقطع (الزمن الجديد – ونتمناه كذلك) مع التراخي الإداري والتحلّل القيمي والترهل المؤسساتي الذي أصاب الدولة ومؤسساتها لسنوات طويلة وأضحى رهين منطق المقايضة والتسيب (ابتزاز)، حتى وصلنا إلى درجة "العبث اللذيذ" والتسيب والفساد البالغ الخطورة المهدد لسلامة الأمة والدولة. نعم، تأخرت القرارات كثيرا والدولة مسؤولة عن التأخير دون غيرها، ومع طول مساحات التأخير والتماطل، وقعت كوارث ومساوئ حتى أدرك رئيس الدولة ملحاحية التدخل المباشر والشخصي بل والعاجل وكذلك كان. في انتظار الآتي من القرارات والتي أكد أنها ستكون فعلا هي الزلزال الحقيقي فما هو اليوم سوى تهيئة وترتيب ومقدمات. وكل هذا وفق مقاربة / معادلة: الصمطة- الصباط- الضو .. بما يفيد "الزيار – الدمير– الأمل"... والله ادينا في الضو.. * صحافي | كاتب ومحلل سياسي