تخوض سقايات المدينة القديمة بمراكش صراع البقاء ضد الإهمال والانقراض، بعدما كانت منارة ومركز حضارة وعنصرا مكونا للمركبات الدينية لعاصمة يوسف ابن تاشفين، كسيدي بلعباس وسيدي بن سليمان وسيدي عبد العزيز وبن صالح وباب دكالة. هذه المركبات الدينية كانت تتميز بالإضاءة والحمام والفران والسقاية، لمن لا يتوفرون على ماء الشرب بمنازلهم، باعتبارها من المعدات العمومية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف، والتي جاء متحف الماء ليعيد لها الاعتبار إضافة إلى "الخطارات"، لأن مراكش هبة هذه الأخيرة، باعتبارها كانت مصدرا لمياه الشرب والسقي بعاصمة النخيل. فما مصير هذه السقايات في مدينة تاريخية وسياحية؟ وإلى أي حد تعمل كل الجهات على إنقاذها من الاندثار؟ وكيف يؤدي المرشد السياحي دوره في ظل الوضعية الحالية لهذه المعالم الأثرية؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن تداخل السلطات الذي يعيق التنسيق في العناية بالمآثر التاريخية؟ وهل من مشروع للعناية بالسقايات بمدينة يعتمد اقتصادها على السياحة؟ علامات الاستفهام المومأ إليها طرحتها هسبريس على جهات متعددة للوقوف على مصير هذه المعالم الحضارية، كسقاية المواسين و"شرب وشوف" بحي أسول، وغيرها، مما لم يستثمر بعد في السياحة الثقافية، رغم عمقها التاريخي كنقطة حياة لسكان أحياء بهجة الجنوب، ومركز لقاء القوافل التجارية. عدة عمومية توزيع الماء وكيفية وصوله إلى المركبات الدينية سابقة الذكر، الذي كانت تسهر عليه الأحباس عبر التاريخ، كانت له تصاميم تبرز ذكاء وعبقرية العقل المغربي، وتوضح كيف كان الماء يصل إلى مدينة مراكش في غابر الأزمان من الحقبة المرابطية والموحدية، يقول جعفر الكنسوسي، واحد من الباحثين في التراث من أبناء المدينة العتيقة. "كل من الخطارة والسقاية تشكلان معالم حضارية في التعامل مع الماء"، يورد الكنسوسي، مضيفا أن متحف الماء الذي أحدثته مؤخرا وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بعاصمة النخيل، "جاء ليحمي هذا التراث النفيس الذي أبدعه المغاربة في هذا المجال"، مؤكدا أن السقاية مؤسسة عمومية إحسانية نابعة من المبادئ الكبرى للحضارة الإسلامية، باعتبار المسلمين كانوا سباقين إلى توزيع الماء العمومي. كانت الأولوية في توزيع الماء للمسجد باعتباره محور الحي داخل المدينة العتيقة، لأنه الأصل ومزار الحومة، بعدها تأتي الوحدات الأخرى كالسقاية، والفائض من الماء يوجه إلى منازل الخواص، كوجهاء وعلماء الحي السكني، داخل المدينة العتيقة. كل ما يبرز عبقرية المغاربة في تدبير الماء، يورد الكنسوسي، "يضمه متحف محمد السادس لحضارة الماء بالمغرب الذي شكل تحولا نوعيا كبيرا في الوعي بما كان يملكه أهل المغرب من ذكاء وإبداع في تدبير هذه المادة الحيوية، قبل ظهور المؤسسات الحديثة المرتبطة بالمرحلة الاستعمارية ودولة ما بعد الاستقلال". "هذا النظام الإبداعي الذي كانت تسهر عليه مؤسسة الأحباس سيعرف انقلابا في القرن العشرين، مع الفترة الاستعمارية، التي بخست شأن الأوقاف بإحداث مؤسسات عمومية جديدة، تسمى "دار الضوء والماء"، ما أدى إلى إضعاف النظام القديم في توزيع ماء الشرب، وانعكس سلبا على السقايات التاريخية، ودفع الأحباس سابقا إلى تفويض أمرها للمجالس البلدية"، يروي الكنسوسي لهسبريس. شكوى التاريخ "كل هذا الكنز العظيم وأصبحت اليوم أخجل أن أرافق سائحا أو سائحة تطلب مني زيارته، كسقاية المواسين وشرب وشوف بحي أسول"، يقول جمال السعدي، مرشد سياحي بمراكش لهسبريس، مضيفا أن هذه المآثر التاريخية المهمة جدا "بإمكاننا أن نصنع منها تنشيطا ثقافيا إذا أعطيناها الاهتمام الذي تستحقه، وقمنا بإصلاحها وترميمها". السعدي استدل على إمكانية ما اقترحه بسقاية النجارين بمدينة فاس، التي أصبحت بجمالية منقطعة النظير بعد ترميمها، وأضحت نقطة جذب للزائرين من داخل وخارج المغرب، فيما سقاية المواسين و"شرب وشوف"، التي يعبر اسمها عما كانت عليه من إبداع وزخرفة يتأمله الإنسان وهو يشرب ماء يروي جسده، أصبحتا اليوم في حالة يرثى لها. ما تعانيه سقاية المواسين و"شرب وشوف" يسري على سقايات عدة بالأحياء القديمة، كرياض الزيتون وبن صالح وقاعة بن ناهيض، التي أصبحت "إهانة للمدينة التي تنطق تاريخا وإبداعا من عهد المرابطين والموحدين إلى عهد السعديين حيث كانت مراكش جوهرة"، يحكي السعدي. إن هذا الرأسمال الثقافي يجب العناية به اليوم لتضمن مدينة سبعة رجال إمكانية الاستمرار كعاصمة مغربية للسياحة، ضمن الرؤية الاستراتيجية للمغرب في مخطط التنمية المتنوعة الأبعاد، يؤكد المرشد نفسه قائلا إن "إصلاح سقايات مراكش أصبح يفرض نفسه ضمن أولويات برنامج مراكش الحاضرة المتجددة، للمحافظة على جماليتها". وقد عاينت هسبريس خلال جولتها بالمدينة العتيقة الوضعية الكارثية التي تعيشها هذه السقايات، كما وقفت على انقراض بعضها، الذي تحول مع مرور الوقت إلى بيوت للسكن الإداري لموظفين المجالس البلدية السابقة، كما خلصت إلى أن هذا الإهمال، ناتج عن عدم وضوح الجهة الوصية عليها. صفقة إصلاح عبد الصمد العكاري، النائب الأول لرئيس مقاطعة المدينة العتيقة بمراكش، أطلع هسبريس على برنامج لإصلاح سقايات حومات هذه المنطقة، خصص له غلاف مالي قدره 71 مليون سنتيم، وقال إن "الصفقة ستنطلق في غضون الشهر المقبل كأقصى تقدير". المستشار عينه أورد أن المشروع يرمي إلى ترميم 10 سقايات بأحياء المدينة القديمة، كرياض العروس وباب دكالة وباب الخميس وغيرها، مؤكدا أن هذا الاصلاح سيعيد لها شكلها المعماري الجميل ورونقها وزخرفتها الخاصة، من أجل الحفاظ على الموروث الثقافي لحومات داخل سور بهجة الجنوب. هسبريس سألت العكاري ما إن كانت كل من سقاية المواسين وأسول "شرب وشوف" وغيرها يعنيها مشروع الإصلاح المومأ إليه، فكان جوابه بأن "هذه المجموعة تدخل في اختصاص وزارة الأوقاف". عودة إلى الأصل ما جاء على لسان جعفر الكنسوسي، باعتبار السقايات ملكا للأحباس، أكده عبد الرحيم باغزلي، ناظر وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، مشددا على أن هذه المؤسسة "تعمل بكل قوة على استرجاع ممتلكاتها بعدما تعرضت للإهمال، ومنها السقاقي التي تحول بعضها إلى محلات سكنية"، بحسب تعبيره. وفي ما يخص السقايات المهمة ذات الطابع التاريخي، كالمواسين وباب دكالة و"شرب وشوف"، على سبيل المثال لا الحصر، فماء بعضها من اختصاص المجلس البلدي "كشرب وشوف"، أما المواسين وباب دكالة فتندرجان ضمن اختصاص وزارة الثقافة، يوضح باغزلي، ما جعل الوضعية ملتبسة؛ الشيء الذي أدى إلى إهمالها وتحولها إلى وضع كارثي مؤلم. "من أجل انقاذ ممتلكات الأحباس، نعمل على المطالبة بهذه السقايات التاريخية، التي كانت تشكل مركز المركبات الدينية بمدينة مراكش وشبكة الماء القديمة، بناء على رؤية تملكها وزارة الأوقاف التي لها القدرة على العناية بكل ما يرتبط بامتداداتها الحبوسية، حتى يعود الطفل إلى أمه والفرع إلى أصله"، وفق تعبير باغزلي، ناظر الأوقاف بمراكش.