بشموخ يطل من بعيد، يتحدى الفضوليين الذي يشقون إليه الطريق الوعرة، لسان حاله يقول: "كما كنت عصيا على المتطفلين في الزمن الغابر، مازلت هنا عصيا وشاهدا... متسلحون أنتم بهواتفكم وكاميراتكم الحديثة، وأنا هنا بأسواري وبروجي كاتما أسرار أجدادكم الذين مروا من هنا ذات يوم تاركين لكم كنزا لتفكوا باجتهاداتكم طلاسمه ..أكادير أكلوي أمطضي بين سفوح جبال الأطلس الصغير أو مخزن جماعي بمصطلحاتكم، سموني ما شئتم". غير بعيد عن كلميم (حوالي 100 كيلومتر)، وطيلة الطريق إلى أكادير أكلوي، تكبر اللهفة، وتتصارع الأفكار، من كلميم مرورا بإفران (الأطلس الصغير) وأداي وصولا إلى إد عيسى، كل بقعة أرض هنا تنطق بتاريخ الأجداد، الذين خبروها وخبرتهم بحثا عن حجارة أو قطعة خشب متينة أو طين أو حجر جيري ليشيدوا بها هذا الحصن وغيره من القلاع... أسرار العصور الغابرة تستفز في الدواخل فرحة بأن تطأ الأقدام أرضا وطأها الأسلاف. "مرادكم عند أحد شيوخ البلدة.."، عبارة نطق بها أحد أبناء المنطقة العارفين بخبايا الأمور. "الشيخ عابد" إذن هو المفتاح الذي قد يفتح خزائن الحصن. بطمأنينة الشيوخ ووقارهم يقول الشيخ ذو الملامح التي تتناغم مع هذه الأرض بما حباها الخالق من جمال: "لنا الفخر وكل الاعتزاز أن ترك لنا الأسلاف كنزا كهذا، تقول الروايات الشفهية إنه شيد منذ تسعة قرون". كل طوب، كل حفنة تراب وكل جذع نخلة ينطق، يسترسل الشيخ.."كان أكادير بنكا قبل أن يعرف العالم معنى المصارف في اعتقادي.. عبقرية الأجداد كانت وليدة هذه الطبيعة التي تحيط بكم جبالا ووديانا؛ بهذا الحصن كانوا يخزنون الغالي والنفيس، وفقا لقانون وضعه الحكماء بدقة متناهية، كما كان ملاذا آمنا أيام القلاقل، لاسيما للنساء (تعيالين) والأطفال (إفرخان وتفرخين)". مع الاستماع لحديث الشيخ الذي يطلق العنان للمخيلة...ومع ارتشاف كؤوس الشاي ترسم ملامح خيالية لأكادير الذي سيبوح بمكنون أسراره وقصص الرجالات الأفذاذ الذين ألهموا بناءه في مرتفع صخري منيع حصنا لنفائسهم وذاكرة لسجلاتهم. بأنفة يحكي الشيخ عابد أن الحصن أعيد ترميمه لتعود له الحياة، وباعتزاز يؤكد أنه حظي بشرف الإشراف على العمال الذين تكلفوا بالمهمة ليتنفس إكسير الحياة من جديد وينتصب بعد جهد جهيد شاهدا يقصده القاصي (السياح الأجانب) والداني (المغاربة) في رحلاتهم إلى المنطقة للوقوف على النموذج المعماري المغربي الفريد، ويستمتعوا بمنظر واحة أمتضي الذي يأسر الألباب. ولم يكن الترميم الذي تم على مراحل ما بين سنتي 2004 و2006 و2015 (بعد تعرضه لأضرار بسبب الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة)، هو الأول، بل سبقته عمليات ترميم عدة إثر تعرضه لغزوات أو حرائق كان آخرها سنة 1954، يؤكد الرئيس الأسبق ل"جمعية أكلوي للتنمية والتعاون"، الحسين أكينو، مشيرا في تصريح صحافي إلى أن ترميم هذا المعمار التراثي الأمازيغي تم تحت الإشراف التقني من المهندسة المعمارية سليمة ناجي، التي أشرفت على ترميم عدد من إيكودار بجنوب المغرب. وقد عهد سنة 2004 بمهمة المرحلة الأولى من الترميم لفريق متعدد التخصصات تحت إشراف هذه المهندسة المعمارية، بهدف إنقاذ الأجزاء المهدمة داخل أكادير وتيسير الولوج إلى السطوح، يضيف أكينو. كما همت المرحلة الثانية سنة 2006 (دامت 19 يوما) ساحات البناية والأشكال الزخرفية للواجهات. وحاولت هذه التدخلات اعتماد المعايير العلمية المراعاة في عمليات الترميم، مثل المحافظة على أصالة البناية وعلى استعمال المواد الأصلية في البناء. ويتكون أكادير أكلوي من أربعة طوابق مقسمة إلى أكثر من 98 غرفة، منها ما هو مخصص للتخزين وما هو خاص بالمعيشة، ولكل أسرة غرفتها الخاصة وفق نظام محكم، يقول أكينو. وفي محاولة لفك لغز "إيكودار" (جمع أكادير)، لا بد من الاستعانة بخبراء وباحثين، ليدلي الباحث المحفوظ أسمهري بدلوه، في تصريح مماثل، بقوله إن التوزيع المجالي للكلمة يعرف انتشارا كبيرا في الجنوب المغربي، خاصة في الأطلس الكبير الغربي والأطلس الصغير وسهل سوس، في حين تقابلها كلمة "إغرم" في الأطلس الكبير الأوسط والشرقي والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي من تازناخت إلى تافيلالت. ويسترسل أسمهري، وهو باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ورئيس الجمعية المغربية للفن الصخري، قائلا إن ملكية "إيكودار" تكون دائما جماعية، قد تكون محصورة في سكان قرية واحدة أو تتعداها إلى ساكنة مجموعة من القرى المتجاورة، أو قد تكون في ملكية قبيلة بأكملها، كما أنه بمقدور الجماعة المالكة للمخزن الجماعي أن تسمح لأفراد من قبيلة أخرى بامتلاك غرف في حصنها، شريطة احترام الأعراف الجاري بها العمل. و"حصريا" يشدد الباحث، كان تدبير شؤون أكادير من اختصاص القبيلة عن طريق الأعيان، سواء في ما يتعلق باختيار الأمين أو تنظيم الحراسة، كما يسهرون على تطبيق القوانين التي تضمن السير العادي لهذه المؤسسة الجماعية؛ واستطرد قائلا إن طرق تسيير إيكودار بدأت تعرف تحولات بعدد من مناطق الجنوب المغربي، خاصة منذ فترة الاستعمار الفرنسي "التي يمكن اعتبارها البداية الفعلية لمرحلة التخلي عن تخزين المنتجات والأشياء الثمينة بالحصن". وبخصوص إيكودار أمطضي اعتبرها الباحث من المناطق القليلة التي تزامنت فيها نهاية الوظيفة التقليدية لإكيدار (وظيفة التخزين)، مع ميلاد أخرى جديدة حولتها إلى بنايات متحفية بفضل توظيفها المبكر في النشاط السياحي منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. واستنتج أسمهري أن المخازن الجماعية بأمطضي تعتبر "نموذجا معبرا لنجاح التحول الجذري الذي انتقل معه المخزن الجماعي من يد القبيلة إلى أيادي أطراف أخرى تتمثل أساسا في الجمعية والجماعة القروية"؛ وخلص إلى أن حالة إيكودار أمطضي، ومنها أكادير أكلوي، تبقى "فريدة"، إذ استطاعت حصون المنطقة بفضل إشعاعها السياحي ودينامية نخبها أن تجلب عددا مهما من برامج الترميم، في وقت تعاني حصون أخرى جنوب المغرب لها قيمة تاريخية وعمرانية ومعمارية مهمة من غياب الترميم. *و.م.ع