نَعِيشُ اليوم في عَصْرِ التقنية والعِلْم الحديث، عَصْرٌ يُمَيّزُهُ الانفجار الإعلامي، الأقمار الاصطناعية، والهندسة الوراثية والأنترنيتْ. عَصْرٌ نُوَاجِهُ فيه مُشْكِلات كَوْنِيَّة عالمية، ومُشكلات قارِّية وإقليمية: قَضايا التنمية، والتحديث، والمُنازعات بين الأمم، والطبقات. فَمِنْ تَهديدات البطالة والجوع إلى تهديدات حُروب الإبادة والإرهاب إلى الأمراض التي تُهَدِّد البشرية مثل السيدا وإنفلونزا الطيور. يَتَمحورُ القرن الواحد والعشرون على كلِّ ما هو افتراضيّ وتقني وعلمي؛ إذْ أصْبَحنا نغوصُ لساعاتٍ طِوال في العالم الافتراضيّ نتَجوّلُ في أزِّقَتِهِ وكلُّ واحدٍ مِنَّا يلهثُ وراءَ هدفٍ ما. إنَّ مَواقع التواصل الاجتماعيّ أصبحتْ في الآونةِ الأخيرة مَسْرَحاً للانتقادات وإرسالِ ما لذَّ وطاب من الرسائل المُشفّرة التي تُفهمُ من وَراءِ السّطور، وهناك فئةٌ لا عَمَلَ لها سِوى كتابةِ قصّةٍ مُثيرة عن ليلةٍ حمراء في حانةٍ ما، أو الحديث عن علاقةٍ جنسيّة مُحرَّمة، كلُّ هذا أصبحنا نعيشُ تَحْتَ وطْأَتهِ وما علينا سوى أنْ نُطأطئ رؤوسنا خَجَلاً دونَ أنْ نُحرِّكَ سَاكِناً. إنَّ الافتراضي ما هو إلاَّ فُسحة جميلة، فيها تعُبِّرُ وتَكتبُ ما تشاء بأسلوبٍ أدبيٍّ يُثلجُ الصدر، وفي الافتراضيّ تتلقى جَديدَ الأخبار، والتواصل أصْبَحَ سريعا بِسُرْعَةِ الضوء. هذا كلُّهُ إيجابي. ولكن عندما أتصفحُ "فيسبوك" -مثلا- وأجد شَتَاتَ التعليقات تتمحور حول السَبِّ والشتم والقذف، حول موضوع لا يَستحقُّ أيّ اهتمام، فإنني أخْجَلُ من نفسيّ كثيراً. ناهِيكَ عن الشّجار والعنف الافتراضيّ والابتزاز ونَشْرِ صُوَّرٍ إباحية قَصْدَ تحقيق رغبة غير مُشبعة. كلّ هذا يحدث رغم التطور التقني والعلمي الرهيب الذي عرفهُ العالم. لقد قام العالمُ الافتراضي بغزوٍ خطير لمنازلنا وعُقولنا وهيمنَ علينا منذُ الصباح إلى المساء، هنا أصبحنا منغمسين كثيراً داخلَ غِمار التطور التقني العجيب. العيشُ في عالمين، عالمٌ محسوس وعالمٌ غير موجود ولكنَّنا نؤمنُ به كثيرا. مع هذا التطور فما الفائدة من الحروبِ دَاخِلَ الافتراضيّ؟ يرجع السبب الرئيسي لهذه المشاكل التي يُعاني منها جُلَّ الشباب إلى الكبت الجنسي، أو رغباتٍ مُنحَطّة لم تتحقق على أرضِ الواقع، فعندما تتعرض فتاة لأسلوب خَشِنْ من طرف شابٍ بَلَغَ سّن الرشد وقد أخرج من بين أنَامله "أبْهَى" الكلمات النابية، فإنَّ التفسير الوحيد لهذا هو سعيهُ نحو تحقيق رغبة مُحرَّمة. ليسَ هذا فقطْ، بل، تجدُ معظمَ الشباب يُتابعون أشخاصاً وهميّين يَكتبون أشياء يَندى لها الجبين، دون اكتراث لشباب مُبدعين في مَجالات مُختلفة (الرسم، الكتابة، تحليل مواضيع السّاعة، ...). هذه المشاكل سَتكونُ لها نتائج وخيمة مستقبلاً على حياة ونفسيّة الشباب. ارتفعَتْ أعدادُ الوفيات بسبب الانتحار في السّنواتِ المُنصرمة، وقد يكون الدافع الرئيسي هو التعرض لضُغوطات وأزَمات نفسيّة جَرَّاءَ الغَوصِ في الافتراضيّ أكثر من اللازم. وفيما بعد سَيلْتَهِمُ الافتراضي الأرواح أكثر من أي مرضِ عضال. كلُّنا نَقضي جُلَّ أوقاتِنا أمَامَ شَاشةٍ صغيرة، ولكنها مُستقبلا ستقتلنا مع سَبْقِ الإصرارِ والترصَّد، فلا توجد حربٌ سَتقتُل شبابنا أكثر من الحرب داخلَ العالم الافتراضيّ.