يمنح العالم الافتراضي جداراً عازلاً يشكلُ خندقاً يوفرُ مساحة حرية ويضعُ مسافة أمان بين الأفراد. مساحة تكسرُ طابوهات المجتمع وتخلقُ للفردِ برجاً يلوذ بهِ وحيداً لينتقد أو يقدم أفكاراً أو يسَخّر غالبيةَ تغريداته من أجل السخرية من واقع لا يستطيع أن ينتقده بوجهٍ مكشوف. طالما كانَ القناعُ وسيلةً دفاعية استباقية، وخندقا يتوارى خلفه الفردُ في مجتمعٍ يطبعُه الطابو أو تسيطرُ عليه سلطةٌ سياسية قاهرة تكمم الأفواه وتسكتُها. ذلك ما جعلَ منظماتٍ عديدة تتبنى الأقنعة على مدى عصورٍ لتوصل رسالتها متخفيّة خلف لثامٍ أو قناعٍ يخفي وجه أفرادِها منذُ حداثة البشرِ بالمجتمع والسياسية. ومع تطور المجتمعات صارت الحاجة ماسة إلى إبداع أقنعةٍ تساير هذا التطور وتمنح الفردِ مساحة حرية ومسافة أمانٍ يلوذ إليها ليقصفَ بحقيقة من وراء حجابٍ، أو يرسل رسالة لا يستطيع أن يعبر عنها أمام الملأ. كانت المنظمة الشهيرة أنونيموس أشهر هذه الجماعات التي تتبنى قناعاً يخفي هوية صاحبه ويحقق للفردِ مساحة حرية ليوصل رسالة قد تشكل خطراً عليه وهو يفصح عنها بوجه مكشوف. كانت هذه المنظمة تستهدف الحكومات وتخوض حروبا إلكترونية ضد منظمات حكومية ومؤسسات كي توصل رسالة احتجاج انطلقت من الشارع ليحتضنها العالم الافتراضي لتصبح أكبر منظمة عالمية تتبنى هذا الطرح الحديث والقديم في الوقت نفسه، الحديث من وراء حجاب. ثم سرعان ما تطورت وسائط العالم الافتراضي ومواقعه وأصبح في متناول كل شخص مهما كان بسيطاً أن ينشئ حسابا شخصيا ويصبحَ مجهول الهوية، صاحب مشروع. مشاريع تختلف غاياتها وتتلوّن غاياتها عدد ألوان النيات والغايات في مجتمع مليء بكل أشكال الخديعة والدوافع الماكرة. يتخذ كل شخص هويّةً مزيفة أحيانا باسم عالم شهير، أو فنان من العصور الوسطى أو كاتب أو شخصيةٍ كرتونية إلى أقصى ما يمكن أن يبرع فيه الدماغ البشري في اختراع أقنعة مختلفة الأحجام والوجوه والشخصيات. إلا أن الأهداف غالبا ما تكون محددة الغاية والسبب ودقيقة التصويب تستهدف شخصية عامة أو صديقا قديما أو نظاما سياسيا، حسب براعة الشخص المجهول وبصمته في العالم الافتراضي. عالم لم يعد افتراضا، بل صار حقيقة مؤثرة ومخيفة. فليس منا شخصٌ لم تصله رسالة غير مرغوب فيها عبر الإميل تخبره بأنه فاز بمبلغ مهم، أو رسالة شخص يطلب منه مساعدة... ثم بالانتقال إلى حسابات وهمية على فسيبوك أو تويتر وغيرها من مواقع التواصل التي تشكل هويّة مزيفة لشخص حقيقي له دوافع معينة، صار انتحال شخصية الغير أمراً سهلا ببساطة نقرة زر وتغيير اسم أو صورة. تختلف دوافع كل مقنّع حسبَ غايته مهما كانت بسيطة أو متقدمة، فكراً كانت أو رسالة سياسية. فالبعض في عالمنا لا يستطيع أن ينال من صديقه القديم لأنه لا يملك جرأة المواجهة المباشرة فيلجأ إلى حساب افتراضي يستثمر فيه رغبته في الانتقام. وآخر يجوب هذا المحيط الذي يعج بالكائنات من أجل فريسة محتملة يغرز فيها سمه ويسطقها في الشراك. فريسة تضطر في الأخير أن تلبي طلبات الشخص المجهول بعدما يعري حقيقتها ويعري خصوصيتها عن طريق محادثات خارج الإطار الأخلاقي تنهتي باستفزاز من أجل المال مقابل عدم نشر الصور والفيديو. هي أمورٌ كثيرة تحدث في عالمٍ تتلون فيه النوايا كما تتغير ألوان الأخابط في قعر حوض مرجاني تربك ألوانها الوهاجة فرائسها وتموه شخصيتها كي لا تقع طريدة مفترس محتمل. ومع أن الأنظمة السياسية والحكومات تسخر كل جهودها ضد كائنات بشرية بأقنعة إلكترونية وتخوض حربا إلكترونية حامية الوطيس في عالمٍ يطبعه الافتراض وتجوبه شخصيات حقيقية يدفعها طمع جشع لاستغلال تغرة أمنية في موقع أو هفوة في حساب شخصي أو أبسط من ذلك خطة دنيئة لسرقة رمز دخول صديق قديم، لا لشيء سوى للانتقام وتوجيه ضربة قاضية لحياة افتراضية لشخص حقيقي تقضي على حياته في الواقع. بعض المغردين يتخفون في أجمة العالم الافتراضي من أجل إذكاء صراع فكري أو إشعال فتيل احتجاح كما حدث في الربيع العربي. مصرُ في أوج الأزمة كانت تحاربُ فيسبوك فتعلق خدمة الانترنت أحيانا، تفرض حظرا رسميا على الموقع أحيانا أخرى، وتوقف جميع الحسابات والنقاش. أمر استدعى تدخل أنونيموس لتقوم برفع الحظر على فيسبوك بعيدا عن أعين السياسة الحاكمة وتجر البساط من تحت أرجل النظام الذي يقمع الأصوات. أصواتٌ كانت افتراضية مقنعة لكنها مؤثرة وفعالة. كان مثالا على قوة عالمٍ يسير حياتنا العادية بزخم أمن الطاقة الهائلة التي قد تأتي على حياتنا وتهددها تهديدا حقيقيا. فطالما استعمل القناع كوسيلة دفاعية استباقية، اللثام الذي يستعمله الصعالك وقطاع الطرق ليس إلا ليخفوا وجوها حقيقية. ثم قناعاً يخفي به رجلٌ وجهه ليتحدث أمام الكاميرا عن أسرار منظمة أو حكومة، ووجه مموه يخفي فتاة تحكي أسرارا شخصية وفضيحة أو قضية اغتصاب، أو قناعا يخفي حقيقة وجهٍ يتحدث عن قضايا الجنس والدين والسياسة وميولات يعتبرها المجتمع طابوهات محرم الخوض فيها علنا. فيلجأ بذلك الذي يخوض غمار تجربتها إلى تمويه ملامحه الحقيقية مقابل مساحة حرية تمنع عنه سخط العامة والأقارب أو النظام السياسي. فإلى أي مدى يمكن للقناع أن يكون مؤثراً؟ وكأسماك القرش في بنيتها وألوانها وبالتأكيد شراستها تجوبُ شخصياتٌ مقنعة عالماً افتراضيا نعيشُ فيه حياةً حقيقية بنسبة مهمة لا تختلف عن حياتنا العادية. هدف هذه الأقنعة ليس دائما الدفاع والاحتجاج وإرسال رسالة سياسية إلى جهة معينة أو تنفيذ هجوم ضد هيئة أو مؤسسة دفاعا عن فكرة أو مشروع اجتماعي، فقد يكون المقنّع الذي أنت بصدد التعامل معه قرشا كبيراً وهاكر بارعا بقدرات خارقة قد تسقط حياتك الشخصية وخصوصيتك فريسة مشروعه، وقد يكونُ صديقاً مقربا أو عدواً في الحياة الطبيعية لا يستطيع أن يفصح عن رغبته الدفينة في اللانتقام منك وتدميرك. لذلك وجب التعامل بحذر مع شخصياتٍ مزيفة وحسابات وهمية يتخفى خلفها أخطبوطٌ ماكرٌ بارع في القتل، يغوي بأسلوبٍ من أساليب الخديعة والمكر وينتهي المطافُ بفريسته موضوع فضيحة على مواقع التواصل أو ورقة ضغط وابتزاز. ومع تطور وسائط السوشل ميديا تتطور معها الكائنات المفترسة التي تجوبُ قاعها المظلم، مثل الديب ويب على سبيل المثال الذي يستقطب الشباب بشكل لافت، وهدفها النيل من حياة حقيقية بوسائل افتراضية، بل أكثر من ذلك صار المكر مهنةً يمتهنها هؤلاء المجهولون المعلومون، يعيشون بفضلها ويستغلون هفوات المغفلين الذين يصبحون بين عشية وضحاها على وشك الوقوع في فخ أو فضيحة أخلاقية أو رهينة صورة مخلة وهم لا يشعرون. فكن حذرا دائما وأنت تجوب العالم الافتراضي، فالاستهانة بشخصيات تحت مسمى عالم فزياء أو حيوان لطيف أو شخصية شهيرة قد تكونُ لها عواقب وخيمة عليك، فالانخراط في مشروع شخص مقنع سيقلب رأسا على عقب حياتك الواقعية. إن الأقنعة مجردُ خندقٍ يخفي قنابل موقوتة تنفجر كلما وجدت سبيلاً إلى اختراق جدارك الأمني الذي لا يستطيع أن يصمد مع تطور التكنولوجيا، بالتالي تصبح حياتنا الافتراضية مهددة بشكل مستمر، بحيث يظل كل موقع افتراضي آمنا جدا على الأقل ما دام المقنعون لم يكتشفوا ثغرته الأمنية...