أو: "الأثينيون يعرفون الخير والمغاربة الشرقيون يفعلونه" "كانت خطوات الشيخ البطيئة تكاد تخونه في الممر الداخلي لإحدى عربات قطار الشرق على الرغم من اعتماده على عكاز يبدو مصنوعا من خشب الصنوبر.. شمس أغسطس الحمراء منتصبة في الخارج كعادتها عند منتصف النهار لتلهب العباد ببروفة نموذجية قصيرة من سمفونية "الدرك الأسفل لجهنم".. فتح الشيخ باب المقصورة الأولى بيد يابسة مرتعشة.. تطلعت عيناه الصغيرتان المحفورتان في غابة تجاعيد إلى وجوه المسافرين الجالسين..كانوا ثمانية شبان: ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وسائحين أوروبيين، مما يعني انعدام أي مقعد فارغ.. لم يلتفت إليه أحد منهم.. كانوا كلهم منغمسين في ألواح هواتفهم السمرتفون.. أغلق باب المقصورة بهدوء، وتقدم نحو المقصورة التالية.. مد يده اليابسة نحو بابها بارتعاش أكبر لفتحها، لكنه ما أن وضع يده عليها حتى فوجئ بقيام شخص بداخل المقصورة لمساعدته على فتحها..لاحظ الشيخ ابتسامة مشرقة على وجه شاب تشبه بسمة جندي بُعَيْدَ النصر.. "مرحبا أبي !.. تفضل !" قال.. وقبل أن ينهي الشاب تحية ترحيبه كان جميع من في المقصورة، وعددهم ثمانية، قد وقف احتراما للشيخ.. بعضهم لإخلاء مقعده له، وبعضهم لمساعدته على وضع أمتعته في رف المقصورة. ألقى الشيخ السعيد جسده النحيف المتهالك وسط أحد المقاعد.. نظر إلى الجميع نظرة شكر وامتنان.. رأى الأشجار الخضراء لتلك الغبطة العميقة التي تسمى"الرضا" مختبئة وراء الزجاج الشفاف لنوافذ عيونهم الصامتة.. نبس جملة واحدة فقط محافظا على سكينة المقصورة وإيمانها، قال: "أنتم، بلا أدنى شك، من شرق المغرب! ". ثم استسلم في صمت سعيد لما بقي من نعيم الشيخوخة: التأمل اللذيذ في الذكريات ! " *** تشبه حكاية هذا الشيخ المغربي الحقيقية في قطار الشرق في بداية هذا القرن21 حكاية إغريقية قديمة لشيخ أثيني في الميدان الأولمبي، حيث كانت تجري مباراة رياضية بين الأثينيين والإسبرطيين، فأراد هذا الشيخ أن يجلس بين جمهور فريقه من الأثينيين، لكنهم رفضوا أن يفسحوا له مقعدا على الرغم من استجدائه بهم، فانتقل إلى جهة الجمهور الإسبرطي الخصم الذي قام أفراده احتراما لسِنِّه، وفسحوا له مكانا بينهم. ومن ثم شاع ذانك الأثران الإغريقيان الشهيران الذي يقول أحدهما: "إسبرطة هي أفضل مكان يحترم الشيخوخة"، ويقول الثاني: " الأثينيون يعرفون الخير، لكنهم لا يفعلونه." [Atheniensis scire, quae recta essent, sed facere nolle !] وحسب ما رأت عيني طيلة أسفاري في قطار الشرق عدة سنوات، وزياراتي للريف الشرقي، وإقامتي بين أهل وجدة، إذا كنت أتحفظ قليلا عن أن أقول: "الغرب يعرفون الخير، لكنهم لا يفعلونه !" فإنني أستطيع القول بثقة الصادق: "الشرق أفضل مكان لاحترام الشيخوخة(أوالشيباني بلغة الشرقيين)، والريف الشرقي إسبرطة المغرب !" انتهت الحكايتان. الآن اسألك أنت عزيزي القارئ قبل أن تغادر هاتين الحكايتين: ما الأهم في نظرك: معرفة الخير أم فعله؟.. لاحظ، وأنت تحاول الإجابة، أنَّ هذا السؤال سيقودك إلى سلسلة ملتوية من الأسئلة الأخرى المعقدة مثل: ما الأهم: فلسفة أثينا أم أخلاق إسبرطة الحربية؟ وعلى ماذا يجب أن يرتكز تعليمنا وجميع مؤسسات دولتنا بل وحضارتنا البشرية : أعلى كم المعارف المتعلقة بالخيرات أم على فعل الخير؟؟؟ *كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب