أحيانا يبدو الفايسبوك الذي أوغل بنا في السياسة و حساباتها و مصالحها الضيقة كما لو أنه يحرق آخر أحاسيسنا الإنسانية. لوقف زحف رمال التصحر قررت أن أذكر نفسي و إياكم بموقف إنساني ظل راسخا بذاكرتي لأنه علمني الكثير رغم أنني كنت "الأستاذ فيه". قبل حوالي ثمان سنوات كنت عائدا على متن القطار القادم من مراكش في اتجاه مدينة فاس... المقصورة التي كنت بها كانت هي الأولى عند مدخل العربة ؛ و كان بها ثلاثة مسافرين آخرين: زوج و زوجته في عقديهما الخامس، و شاب ثالث دون الثلاثين. وصل بنا القطار إلى محطة المحمدية.. توقف لحظة.. صعد المسافرون و شرعوا يتفرقون على باقي مقصورات العربة، في حين انضافت إلينا سيدة عجوز، في عمر يقارب السبعين سنة، كانت ترتدي جلبابا أزرقا يبدو أنه قديمٌ بعض الشيء، مع شريط ثوب ملفوف على رأسها. ثقل الزمان كان باديا عليها، بحيث أرغمها أن تنحني لإكراهاته بعض الشيء. كل الملامح، المدعومة بالهندام، كانت تشهد أنها كانت قادمة للتو من إحدى قرى المنطقة. لكن إلى حدود الآن كل شيء عادٍ و لا يبعث على أي اندهاش. المدهش بالنسبة لي كان أن أرى السيدة تنتعل الجهة اليمنى للنعل (البلغة المغربية). كان القطار مازال متوقفا. تبنيَّ لقاعدة "كن سباقا" جعلتني أبادرها بالسؤال : " فين بلغتك آ الحاجة؟"، فردت علي : "طحت ليا في الدروج د طران بسبب الزحام". كون القطار كان لحظتها لازال متوقفا، شجعني أن أبادر بفعل شيء ما دون طلب من أي أحد، و دون أن يعلم ركاب العربة سبب مغادرتي للمقصورة .. نهضت من مقعدي و سرت في الإتجاه الأمامي للعربة، أي من الجهة التي صعدت منها المسافرة المسنة.. نزلت من القطار و نظرت أسفل الأدراج، فإذا بي ألْحَظُ "البلغة" مقلوبة على وجهها بجانب أحد عجلات القطار الحديدية. قبل الإقدام على أي عمل متهور، نسقت مع موظف المكتب الوطني للسكك الحديدية، مساعد سائق القطار، و أخبرته بالأمر لتأمين عملية "إنقاذ الحذاء..ههه.. في ظروف خالية من أخطار" .. بمجرد عودتي إلى داخل العربة و الأخذ في قطع المسافة الفاصلة بين مكان "السقوط بسبب الإزدحام " و المقصورة حيث كنت أجلس، كان القطار قد تململ من مكانه و أخذ يزيد في سرعته. حتى في أكثر الحالات إفراطا في التفاؤل، فإن كون القطار غادر محطة المحمدية لم يدع للعجوز أملا في استعادة حذائها. دخلتُ المقصورة من جديد و في يدي "الزوج المفقود" لبلغة السيدة.. الصدمة كانت قوية على الجميع، لكنها صدمة إيجابية، جعلت المرأة العجوز –التي لا أدري هل تكون مازالت على قيد الحياة أم لا – تقف من مكانها وتقبل رأسي ! ملامح الإستغراب لمبادرتي، التي راهنت فيها بحياتي مقابل حذاء قد لا يصل ثمنه ل 40 درهما، كانت بادية على الجالسين بالمقصورة التي كان قد انضم إليهم مسافرين آخرين. إحدى السيدات سمعتها تقول " الخير مازال في البلاد ، اللهم كثر من أبناء الحلال..". في حين السيدة العجوز قالت كلاما كثيرا ، جله دعاء ، لكن أهمه كان قولها "كنت أفكر كيف سأدخل على بناتي بفردة واحدة في رجلي.." قالت ذلك و هدير القطار يسافر بنفس الفاعلين، بالذي أسقط الحذاء و بالذي أرجعه، بالذي هَانَ العجوز و بالذي حاول إرجاع شيء من التوازن لنفسيتها، قبل رجليها... درجة احمرار الوجوه كانت قد بلغت أوجها حينئذ.