يعد كتاب الرحالة الفرنسيون بالمغرب من القرن السادس عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين لرولان لوبيل وترجمة حسن بحراوي تجميعا للعشرات من الرحلات والكتابات المتعلقة بالمغرب والتي تمتد زمنيا لخمسة قرون، وحشدا لأصناف كثيرة من المؤلفين، تتعدد مشاربهم ومستوياتهم الثقافية والفكرية. بل تتنوع أساليب كتاباتهم بين السرد التوثيقي والنصوص التراسلية ومذكرات السفر والتحقيقات الصحفية والانطباعات العابرة ويوميات البوح، كما جاء في مقدمة المترجم. وبعيدا عن موضوعية الكتاب من عدمها، أو صدقية الآراء المبثوثة فيه أو زيفها. إلا أنها كانت في مجملها منسجمة ومتناسقة بالقدر الذي مكن من تشكيل لوحة فنية موضوعها واحد وأصحابها متعددون. ورغم تعدد خلفياتهم وبواعثهم على زيارة المغرب إلا أن انطباعاتهم وملاحظاتهم كان يحكمها نفس الهاجس، وهو رسم صورة عن المغرب والمغاربة تتخللها الكثير من مسوح الغرائبية، وتصوير حالة الصدام الثقافي والحضاري بين حضارتين تقفان على درجتين متباعدتين في سلم الحضارة. واللافت أن صورة المغرب ظلت محافظة على ظلالها القاتمة رغم الحيز الزمني الهام الذي غطاه الكتاب. فمنذ القرن السادس عشر اقترن المغرب عند الفرنسيين بالقرون الوسطى بكل ظلمتها وقساوتها وبعدها عن مدارج التقدم والحضارة، أما أهله فاتسموا في مخيلتهم بالجهل والبؤس والمرض والانقياد للتقاليد البائدة والعوائد الغريبة. ومهما يقال عن الصور النمطية والمكرورة والتي يتم تسويقها بوفاء نادر لجل الاستعارات الكبرى التي حملها الغرب عن الشرق، إلا إن الكتاب يبقى وثيقة بالغة الأهمية لمن تستهويهم معرفة صورة المغرب في عيون الفرنسيين. هذه الصورة التي ظلت ظلالها محفورة في خيالهم، رغم تعاقب السنين، يستحضرونها كلما سمعوا عن المغرب أو حلوا في ربوعه. وفيما يلي استعراض لبعض فصول الكتاب، وهو لا يغني عن متعة السفر بين مادته الغنية ومعرفته الغزيرة التي بقدر إسهامها في إغناء الأرشيف الكولونيالي، بقدر ما ترينا صورتنا في مرآة الآخر. يعرج رولان لوبيل في بداية مصنفه على كتابات الأسرى، التي تفننت في تصوير مقدار الشقاء، وحجم المعاناة التي كابدوها، وفي وصف ظروف إقامتهم الاضطرارية والتي لا خلاص منها إلا بالموت أو الافتداء أو الخوض في مغامرة الفرار، مع تحمل جريرة الموت أو العذاب المقيم في حالة فشلها. وقد تضمن هذا النوع من الكتابة معلومات هامة، أدت إلى تشكل الإرهاصات الأولية لمعرفة جغرافية تنبئ عن تضاريس المغرب وطرقاته ومناطقه. ولم تقتصر كتابات الأسرى على تصوير المآلات الشقية فحسب، بل تعدتها تسرية عن القارئ، وانتشالا له من الأجواء الكابوسية المشحونة بالمعاناة والألم، إلى بعض المسارات المضيئة التي كان طريقها أكثر بهجة وإشراقا ومنها قصة الأسير الذي جمعته علاقة غرام بسيدة سلاوية. ولم يكتف الكتاب بهذا النوع من السرود التي ترصد يوميات الأسرى بجدية أكبر في نقل المشاهدات وتدوين التفاصيل، بل كانت هناك فسحة لقصص الروائيين التي طغى عليها الخيال، وذكر أطياف من حكايات المغامرات البحرية التي لا تخلو من معلومات وثائقية تخص سلوك المغاربة تجاه الأسرى وطقوس بيعهم، وتصوير أجواء القرصنة البحرية وما يتصل بها من تشكيل الأساطيل وإعداد الخطط إلى الطرائق المتبعة في الهجوم على البواخر الأجنبية، وما يصاحبها من طقوس ومعتقدات غريبة. وغير بعيد عن هذا النوع من الكتابة، يأتي الأدب السفاري ليملأ بعض الفراغات التي خلفتها النصوص السابقة، ويساهم علاوة على كتابة التاريخ الديبلوماسي وتوثيق انعطافاته ولحظاته الحاسمة، في تصوير المغرب بلدا شرقيا بكل ما تحيل إليه الكلمة من سحر وقسوة واستبداد وشطط في معاملة المرأة. وقد وجد هذا الأدب ضالته في المولى اسماعيل الذي بدا شخصية سيكوباتية مرضية الميول والنزوات غارقة في السادية والقتل لأتفه الأسباب. وقد اتخذت الدوائر المقربة من البلاط الفرنسي من رغبته في الزواج من الاميرة دو كونتي مادة خصبة للتندر والسخرية وقرض مختلف الهجائيات اللاذعة، وكتابة بعض السرود التي امتزجت ببهارات الخيال. ودائما في باب الرحلات السفارية، تندرج رحلة القنصل العام دو شونيي الذي خلف كتابا مهما عن المغرب في ثلاثة أجزاء، أفرد جزءه الثالث منها لرسم صورة عامة عن المغرب في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وقد ضمنه ملاحظاته ومشاهداته التي جمعها في حله وترحاله عبر مختلف المناطق المغربية، ورغم أنه كان صادرا عن بعض الأفكار السائدة في القرن الثامن عشر من قبيل فكرة "المتوحش النبيل" مصورا مظاهر البداوة والغبور في بوادينا، فإنه كان يمتلك خلفية اقتصادية واضحة مكنته من تسجيل جملة من الملاحظات حول الثروات الطبيعية والملاحة البحرية. وقد عقد الكتاب مساحة للفن التشكيلي، عندما سلط الضوء على رحلة أوجين دو لاكروا إلى المغرب سنة 1832، والتي شكلت لحظة فارقة في حياة هذا الفنان الرومانسي الكبير، ومارست تأثيرها القوي على مساره الفني، إذ مكنت عشرات الرسوم والمخططات والملاحظات الدقيقة التي ملأت كراريس كان يحملها معه، في ولادة الكثير من الأعمال الخالدة، مثل لوحة "طنجة"1838، "السلطان عبد الرحمن وهو يغادر قصره في مكناس"1845، "زفاف يهودي بالمغرب"،"فرقة موسيقية يهودية من موغادور"، وأخريات. ومع احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، وقبيل معركة ايسلي، ستظهر العديد من الكتابات التي حملت أصداء النزاع المغربي الفرنسي، وصورت أجواء الفوضى والتسيب، تمهيدا للحديث عن ضرورة التدخل العسكري، وفي هذا الصدد يندرج مؤلف م.راي "ذكريات رحلة إلى المغرب"ومؤلف شارل ديديي "نزهة في المغرب" 1844. وفي سنة 1890، سيرى مؤلَّف بيير لوتي "في المغرب"النور، وهو المؤلَّف الذي اعتبره رولان لوبيل "أول كتاب وصفي خالص حول المغرب"، أعمل فيه لوتي موهبته الأدبية المتأنقة، لرصد كل شاردة وواردة بحس لا يخلو من الانطباع، ما جعل المغرب يدلف إلى الحياة الأدبية الفرنسية، من باب الأدب الغرائبي. ومع الاقتراب من نهاية القرن التاسع ستعود الحاجة ملحة لاستكشاف المغرب تمهيدا لاستعماره، وهو ما تجند للقيام به لفيف من الخبراء والعلماء والعسكريين في مقدمتهم الفيكونت شارل دوفوكو الذي جاب المغرب من أقصاه إلى أقصاه، مستعينا في رحلته بالمصنفات الجغرافية والخرائط القديمة، متحملا كثيرا من الأخطار التي كانت تحدق به من جانب في مرحلة كان المغرب يعيش فيها حالة استثنائية من الغموض والاختلال ، وقد أثنت الأوساط العلمية والكولونيالية على عمله المسمى "استكشاف المغرب"1888 والذي تطلب منه سنة من الرحلة، وثلاث سنوات من التحرير والتدقيق والصياغة بناء على الملاحظات والخرائط والرسومات التي دبجها خلال رحلته. ولم تقتصر الرحلات على الأسرى والسفراء والأدباء والضباط والعلماء، بل تعدتهم إلى أصناف أخرى من الناس كالأطباء والسياح والمراسلين الصحفيين، ما جعل صورة المغرب تكتمل من جميع الأبعاد والزوايا، متيحة كما هائلا من المعلومات الجغرافية والعسكرية والجيولوجية والأثنوغرافية والسوسيولوجية، والتي ستخدم أجندة فرنسا السياسية في المنطقة وتيسر لدخولها العسكري بدءا من سنة 1907.