أولا ندين بشدة الهجمات الإرهابية الوحشية الأخيرة على برشلونة والتي خلّفت 16 قتيلا و120 جريحا من جنسيات متعددة؛ بما فيها المغربية. وتأتي هذه الاعتداءات الإرهابية الشنيعة بعد انهزام داعش في العراق. وبعد تحرير الموصل وتلعفر في العراق، بات اكتمال تحرير الرقة وأجزاء في سوريا مسألة وقت لا أكثر. ومع قرب انتهاء الوجود الداعشي في العراقوسوريا، بدأ يطل علينا نوع آخر من الإرهاب بالدهس والطعن يهدف إلى ترهيب الشعوب في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط. مثلا إسبانيا: دهس وقتل وجرح عشرات المواطنين الأبرياء والعزل في برشلونة مؤخرا، فرنسا: مقتل 86 شخصا في مدينة نيس دهسا بشاحنة، ألمانيا: مقتل 12 شخصا في دهس بواسطة شاحنة في برلين ومقتل شخص وإصابة آخر في حادث طعن بمدينة وبيرتال.. فنلندا: مسلح بسكين يقتل شخصين ويصيب 6 في سوق بميدان في مدينة توركو.. أستراليا: عملية دهس للمشاة بشارع مزدحم في مدينة سيدنى.. روسيا: إصابة 8 أشخاص في جريمة طعن وسط مدينة سورغوت. في الواقع، تأتي هذه الهجمات الإرهابية بعد أن فقد تنظيم داعش السيطرة على الموارد المالية، كالنفط والأراضي الزراعية والآثار عبر خسارة منابعها أو سبل تهريبها واستغلالها، ولا شك في أن التنظيم كان يعتمد على هذه الأموال الآيلة إلى النفاد في كسب الولاءات ودفع الرواتب. ويعيش مقاتلو عناصر تنظيم داعش الإرهابي أسوأ ظروفهم، لأنهم أمام خيارين: إما الاستمرار بالقتال ومن ثم الموت، أو الهرب مع أنهم لا يستطيعون التوجه إلى أي وجهة، حيث إنهم محاصرون وفقدوا أغلب عناصرهم. وقد شهد هذا التنظيم الإرهابي خسائر بشرية فادحة خلال عامي 2016 و2017، بسبب الحملة الدولية التي تستهدف معاقله في العراقوسوريا؛ وهو ما أدى إلى تراجع داعش ميدانيا على الأرض، وقد بدأ يغير من إستراتيجيته بسبب هذا التراجع، ما دفع قيادة التنظيم بالاتجاه إلى أوروبا. وهذا ما يثير المخاوف من إقدام التنظيم على فصل جديد من الاعتداءات الإرهابية خصوصا في أوروبا، بالإضافة إلى عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، ناهيك عن معضلة اللاجئين. لماذا يستهدف داعش أوروبا؟ وكيف ستواجه أوروبا والدول المغاربية هذه الأخطار؟ وما هي الخطط المُعدة لذلك؟.. أسئلة باتت أجوبتها مُلحة خاصة بعدما أشارت وسائل الإعلام الأوروبية إلى وجود عناصر إرهابية من تنظيم "داعش" مؤخرا في أوساط اللاجئين في بلدان أوروبية. لعل السبب الرئيس الذي يدفع هذه المجموعات الإرهابية إلى استهداف أوروبا هو أنها تضم جاليات مسلمة، فمن وجهة نظرهم الضيقة يعيش المسلمون في أوروبا حالة من الظلم والإقصاء التي وجب الانتقام لها؛ وهو ما يجعل دول أوروبا هدفا مباشرا للعمليات الإرهابية الوحشية التي قد تؤثر في مستقبلها الأمني. كما أن سياسة بعض دول أوروبا في الشرق الأوسط ومحاربتها ل"داعش" ودورها القوي في التحالف الدولي كانت ضمن الأسباب التي جعلت من أوروبا قبلة للإرهابيين واعتداءاتهم المشينة. وكثفت الدول الأوروبية، مؤخرا، من إجراءاتها الأمنية بسبب تلك التهديدات الإرهابية، وتخصص هذه الدول مبالغ ضخمة من أجل استثبات المزيد من الأمن والطمأنينة. وأطلق وزراء داخلية وعدل دول الاتحاد الأوروبي، رسميا، مركزا أوروبيا لمكافحة الإرهاب داخل مكتب الشرطة الأوروبية (يوروبول) في لاهاي، لتبادل المعلومات بين مصالح المخابرات في دول الاتحاد، حاثا كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للانخراط في الحرب ضد الإرهاب. كما يقوم المغرب بخطوات رائدة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف بنهج سياسة استباقية أسهمت في تفكيك عدد كبير من الخلايا الإرهابية، وباتخاذ إجراءات مهمة مثل إعادة تكوين الأئمة وتكوين المرشدات بالإضافة إلى إصلاح التعليم والإصلاح الديني ومراقبة المساجد، ومحاربة الإقصاء الاجتماعي من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أطلقتها الحكومة في عام 2005؛ وانتشار الأجهزة الأمنية المعززة "حذر". وبخصوص العمليات الإرهابية الهمجية الأخيرة في برشلونة، فإن أغلب مرتكبيها شباب وقُصر مسلمون وُلدوا في أوروبا من أصول مغربية للأسف الشديد، وهم بذلك أساؤوا إلى بلدهم الأصلي ولبلدهم المضيف وكذا إلى أبناء جلدتهم في أوروبا والعالم. وقد سبق أن كشف تقرير صادر عن لجنة مكافحة الإرهاب للأمم المتحدة، في أبريل 2015، أن المغاربة والتونسيين يشكلون أكبر قوة أجنبية من الجهاديين في العراقوسوريا. ويعد العامل الاقتصادي من الدوافع الأساسية للالتحاق بتنظيم داعش، حيث يتقاضى الجهاديون رواتب عالية بالنسبة إلى الشباب العاطل والمنحدر من أسر معوزة والذين يقومون في بلدهم بوظائف متواضعة الدخل الشهري. أما المستوى التعليمي للأغلبية الساحقة من الجهاديين فلا يتجاوز المرحلة الابتدائية. بالطبع، هناك أيضا عوامل شخصية، ويأتي الدين في المرتبة الثانية بعد دافع الراديكالية والمغامرة والتجنيد في المعركة. ومن بين الأسباب الأخرى التي تدفع بعض أبناء الجالية المسلمة والمغاربية إلى ارتكاب أعمال إرهابية الجهل بمبادئ الإسلام السمحة، والبطالة، وفشلهم في الاندماج في المجتمع الأوروبي والانخراط في المجال السياسي والمجتمع المدني، وضعف مستواهم التعليمي، ومعاناتهم من أزمة هوية، وأحيانا من التفكك الأسري بسبب الطلاق والحرمان، ولا يجدون من يأخذ بيدهم لتخطي مرحلة المراهقة ولإرشادهم ومساعدتهم لاستكمال دراستهم وتكوينهم لتحقيق مستقبل أفضل. وبعضهم صدر في حقه الحكم بالحبس وقضى مدة زمنية في السجن لاقترافه جرائم سرقة أو الإدمان أو الاتجار في المخدرات أو الضرب والجرح. وبعد ذلك تعرضوا لعملية غسل الدماغ داخل السجن من قبل إسلاميين متطرفين. وهذا ما أدى بالفعل إلى الهجمات الإرهابية الأخيرة في كاتالونيا. ينبغي التصدي لكل الهجمات الإرهابية المقيتة بوسائل شتى على المديين البعيد والقريب: أولا، على المدى القريب، ينبغي اتباع سياسة وإستراتيجية استباقية، حيث يجب تشديد المراقبة الأمنية على الصعيد الوطني، مع التنسيق التام بين البلدان المغاربية والأوروبية، وكذلك مراقبة السجون، تفاديا لشحن عقول بعض السجناء والتغرير بهم خلق قضبان السجون، قصد تجنيدهم لاحقا. كما ينبغي تكوين الأئمة كي يلقنوا الإسلام الوسطي وأخلاقه النبيلة وقيمه السمحة، ويساهموا في تحصين الشباب المسلم ضد الدعاية الإرهابية وخاصة على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي. ثانيا، على المدى البعيد، ينبغي مناهضة كل أشكال التطرف والإرهاب عبر القيام بإصلاحات مهمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ بما في ذلك إصلاح التعليم قصد تكوين وتأطير الشباب تكوينا منفتحا وحداثيا لائقا يضمن لهم الشغل والاندماج في المجتمع، وأيضا محاربة عزوف الشباب على المشاركة السياسية. وهناك ضرورة ملحة لإنتاج خطاب إسلامي معتدل وملائم للقيم الإنسانية باللغات العربية والأوروبية، ولتجنيد أئمة معتدلين يؤمنون بالإسلام المتسامح ،بهدف تنوير الجالية المسلمة بالخارج. ولمحاربة الأيديولوجية المتطرفة والإرهابية بكيفية شاملة، ينبغي تجفيف منابع الإرهاب وتمويلاته في كل بقاع العالم. كما ينبغي العمل على إدماج الشباب من أصول مهاجرة مسلمة في المجتمع الغربي، حيث إن نسبة البطالة لدى الجالية المسلمة مرتفعة جدا وتفوق البطالة في أوساط الشباب من أصول أوروبية. ولتشجيع الشباب المسلم على ولوج سوق الشغل، ينبغي تكونه تكوينا عصريا يساعده على الاندماج وعلى التفوق الاجتماعي، مع التركيز على أهمية الفكر النقدي والانفتاح على المحيط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. لقد حان الأوان لفصل الإسلام عن السياسة، لتفادي مزيد من الفوضى والعنف. نحن مع تعزيز مكانة الدين باعتباره علاقة بين العبد وخالقه، ومسألة شخصية بعيدة عن الشؤون السياسية العامة، إذ لا دخل لأحد في قضايا العقيدة والإيمان. وهناك حاجة ماسة في المنطقة لترسيخ أسس الدولة المدنية كحاجز قوي ضد التطرف والعنف الديني، وضد أي انتهاك لمبدأ المساواة بين البشر. ومن الأجدى بالمسلمين تشجيع النهج النقدي والاجتهاد في الإسلام بدلا من الرجوع إلى لغة الجهاد والتكفير وخطاب الكراهية، مع تركيز الجهود على القضايا الاقتصادية والاجتماعية من أجل إيجاد حلول ملموسة للمشاكل المطروحة، وانخراط المسلمين في عملية محاربة التطرف، باتخاذ إجراءات لازمة ومكثفة ضد التكفيريين وكل من ينادي بالفكر الإرهابي المتطرف. على الحكومات الغربية الانتباه أيضا إلى الخطاب الشعبوي الذي يضر بالعيش المشترك وبالمسلمين في أوروبا وفي أرجاء المعمور. كما ينبغي تقوية التنوع الثقافي ودعم القيم المشتركة بين الحضارات، وتعزيز الحوار بين الثقافات للوقوف ضد تصاعد كل أشكال التطرف، وإعادة النظر في المقررات والكتب المدرسية، تشجيعا للعيش المشترك والتنوع الثقافي، وتدعيم الثقافة الديمقراطية وقيم الحرية والتعاون من أجل تحقيق التنمية المستدامة الشاملة. * أستاذ جامعي رئيس المركز الدولي للغات والثقافات