عين أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، هورست كولو، الرئيس السابق لألمانيا، مبعوثا شخصيا له إلى الصحراء رسميا؛ وذلك بعدما تم تداول اسمه في الأسابيع الماضية لشغل هذا المنصب السياسي الحساس خلفا للمبعوث الأممي السابق كريستوفر روس، الذي قدم استقالته بعد فشله الذريع في تدبير الملف ليجد نفسه غارقا في رمال صحراء متحركة بسبب مواقفه السلبية والمنحازة وغير المسؤولة اتجاه قضية الصحراء، الشيء الذي جعل الأمين العام الجديد يستبق تعيين مبعوث له آخر في الصحراء بعدما أحس برغبة روس في ولاية ثانية، غير أن الأسئلة التي ينبغي طرحها في هذا الصدد والتي لها ارتباط وثيق بهذا التعيين هي كالآتي: ما أهم المعايير والمحددات التي أسهمت في انتقاء هورست كولر مبعوثا جديدا في الصحراء؟ وما مدى قدرة الرئيس الألماني السابق على إيجاد حل سياسي لهذا النزاع المفتعل الذي أرهق فقهاء القانون الدولي والأمناء العامين للأمم المتحدة في ظل المتغيرات السياسية والجيواستراتيجية التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء؟ وإلى أي حد ستسهم التجربة الأوروبية، في شخص هورست كولر، في الدفع بهذا الملف إلى الأمام، خاصة أن التجربة الأمريكية في شخص كل من جيمس بيكر وكريستوفر روس قد أبانت عن المقاربة الازدواجية التي تنهجها الإدارة الأمريكية في هذا النزاع؟ وما الخطط والاستراتيجيات التي ينبغي على الدبلوماسية المغربية التسلح بها لاستثمار هذه التجربة لصالحها؟ ولماذا تحاشى الملك في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب الإعلان عن الموقف الرسمي للمغرب من هذا المبعوث الأممي الجديد؟ للتذكير فقط، فإنه بعد تعيين المبعوث السابق كريستوفر روس ببضعة أيام كتبت مقالا نشر بجريدة المساء تحت عدد 1769 بتاريخ 31 ماي 2012 الصفحة 08 عنونته ب"كريستوفر روس يفقد بكارته السياسية في الصحراء"، وفي هذا المقال نبهت وحذرت الدولة المغربية والماسكين بمراكز القرار في تدبير ملف الوحدة الترابية وعلى مستوى أعلى سلطة بالبلاد من هذا المبعوث الجديد آنذاك كريستوفر روس، الذي ارتكب مجموعة من الأخطاء القاتلة في حق قضية الصحراء طيلة مدة إشرافه على هذا النزاع والتي كادت أن تنحرف بالقضية عن المسار والتوجهات والمعايير التي رسمتها هيئة الأممالمتحدة في هذا الإطار. ومن جملة ذلك تلك الوثيقة السرية التي سربتها الصحافة الإسبانية في غشت من سنة 2013 بعث بها روس إلى دول مجموعة أصدقاء الصحراء، وهي الرسالة التي ضمنها اتهامات خطيرة للمغرب بعرقلة المفاوضات غير الرسمية حين رفض المغرب القبول بمناقشة مقترح البوليساريو. وفي سنة 2014، دلت الكثير من القرائن والحجج الدامغة على أن روس كان هو من سرب نسخة من تقرير بان كي مون، الأمين العام السابق، بشأن الصحراء من أجل إثارة اهتمام الرأي العام الدولي بشأن الوضع الحقوقي في الصحراء، وكان هو من اقترح في تقريره الموجه إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي في أبريل سنة 2015 في الفقرة 91 توسيع صلاحيات بعثة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وهو الذي أفسد رؤية المفاوضات التي أسس لها سلفه بأن أعادها إلى نقطة الصفر، حيث عاكس استنتاجات سلفه فان والسوم الذي خلص إلى أن استقلال الصحراء خيار غير واقعي، وهي القناعة نفسها التي عبر عنها سابقه إريك جونسن حين اعتبر أن الحكم الذاتي في الصحراء يشكل خطوة مهمة لحل النزاع، فكل هذه المعطيات تجعل المغرب يتوجس خيفة من أي مبعوث جديد للصحراء ويطرح علامات استفهام حول مساره المهني والسياسي وطبيعة شخصيته نظرا لأهمية الدور والتأثير الذي يجسده في صناعة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص النزاع، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن المحددات والضوابط التي على أساسها حظي هورست كولر بهذا التكليف؟ يعدّ هورست كولر من أبرز الشخصيات العالمية التي خبرت فن الإقناع والتفاوض والسياقة في المنعرجات الدولية دون حوادث بشهادة تاريخه الدبلوماسي الحافل بمساهماته في رأب الصدع وإعادة الأمور إلى نصابها في القضايا والازمات الدولية، فهو مهندس وحدة العملة بألمانيا التي قسمتها الحرب العالمية الثانية إلى شطرين ألمانيا الاتحادية وألمانيا الفيدرالية، بالإضافة إلى تحمله العديد من المهام والمسؤوليات بهياكل وأجهزة الأممالمتحدة التي استفادت من خبراته وخدماته في العديد من الملفات الاقتصادية، وكانت له اليد الكبرى في تحديد برامج وخطط التنمية في إفريقيا بالإضافة إلى عضويته ضمن الفريق عالي المستوى الذي عينه الأمين العام السابق لمراجعة وتدقيق تدخلات الأممالمتحدة عبر العالم، هذا فضلا عن تجاربه العالمية وتخصصاته في أعمال الاقتصاد والتنمية التي يمكن أن تعطي الانطباع الأولي عن شخصيته وعن نمط تفكيره الذي يتصف بالواقعية، وهو المحدد الرئيس الذي دفع الامين العام الجديد إلى التفكير فيه كمبعوث خاص له في نزاع الصحراء، فواقعية كولر تعني عدم ضياع الوقت في مسائل وأفكار تجاوزتها الأممالمتحدة والابتعاد عن الطوباوية وأحلام المدينة الفاضلة عند أفلاطون التي يستحيل الوصول إليها مثل الاستفتاء الذي تتشبث به البوليساريو الذي أصبح من الماضي وقرأت عليه الأممالمتحدة سورة الفاتحة وصلت عليه صلاة الجنازة، ولا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والواقعية تعني كذلك أنه ينبغي التفكير والتعجيل بإنهاء معاناة السكان في مخيمات تندوف بتطبيق قواعد ومبادئ القانون الدولي الخاصة باللجوء، وهي السماح لهم بالعودة إلى بلدهم الأم المغرب أو إدماجهم في دولة اللجوء الجزائر أو إعادة توطينهم في بلد آخر حتى يسترجعوا حرية التعبير والتنقل المصادرة منهم في المخيمات؛ غير أن هذه الواقعية لا تعني أن كفة المغرب مرجحة منذ البداية بل هي في حاجة إلى محام ومدافع قوي ومستميت يرافع بمهنية ومهارة عالية لإقناع المنتظم الدولي بواقعية المبادرة المغربية للحكم الذاتي، وهو ما يتطلب عدم الوقوف عند العبارات الرنانة التي تتضمنها وتتداولها وثائق الأممالمتحدة في تقارير الأمين العام وقرارات مجلس الأمن الدولي منذ سنة 2007 بكونها مبادرة مشهود لها بالمصداقية والواقعية بل يجب هندسة خطط واستراتيجيات لإعادة تسويق المبادرة وحشد التأييد لها في جميع الوحدات السياسية الفاعلة في مراكز القرار الدولي، مع تعداد وتبيان العيوب والنقائص التي تعتري مقترح البوليساريو، وتحديد تناقضاته وكيف تجاوزت الأممالمتحدة مبادرته، فالفرصة اليوم سانحة للمغرب لحسم القضية لصالحه خاصة بعد عودته إلى حضن الاتحاد الإفريقي وتقاربه مع مجموعة من الدول الإفريقية التي كانت محسوبة على المحور المعادي للمغرب، ولا ينبغي أن يرهن وحدته وبناءه بأيدي الغير سواء البوليساريو أو الجزائر، لأنه بتحليل صناعة القرار السياسي في بلد المليون شهيد نستنتج بأن تجارب الحكم في الجزائر منذ الرئيس هواري بومدين تؤكد أن البقاء أو عدم البقاء في السلطة رهين بمدى قدرة جهاز الرئاسة على المناورة لاستبعاد أي حل لنزاع الصحراء من خلال دعم واحتضان البوليساريو وتوظيفها عسكريا وسياسيا ضد وحدة وسيادة المغرب.. إننا الآن في حاجة إلى ألا نبقى حبيسي التدبير التكتيكي لملف تتعامل معه الجزائر بنوع من "البرانية"، ولا يمثل بالنسبة إليها سوى رهان خارجي قد تستفيد منه في النهاية؛ فالأمر يختلف بالنسبة إلينا، إذ إن مستقبلنا في صحرائنا وهي فضاء لكل التحديات التي علينا مواجهتها: الوحدة الترابية، وحدة الشعب، امتحان لهويتنا وفرصة لتجاوز الفخاخ البنيوية للجوار ومجال لا محدود لتنميتنا المستدامة والمندمجة، بل إن صحراءنا هي الفضاء الأمثل للانطلاقة المحددة للديناميكية المغربية المرتقبة، ولا شك في أن كل هذا لا يستدعي تعاملا تكتيكيت وردودا لا تتعدى مستوى حركات ومناورات وضربات الخصوم، إذ نحن في حاجة إلى جرعة قوية من الوطنية بعمقها المتجذر في الوعي التاريخي الذي عبر عن نفسه بقوة في السبعينيات، ويستلزم مزيدا من الحضور في المرحلة الحالية، فملف الصحراء ليس ملف دبلوماسي أو أمني داخلي / خارجي أو مجرد ملف اقتصادي اجتماعي ثقافي عادي، بل إنه مركز كينونتنا.. وفي سياق هذا التركيب يمكننا أن نتساءل عن طبيعة الطرح الذي سيتقدم به المبعوث الجديد هورست كولر كإطار لحل سياسي لهذا النزاع الذي يحتاج إلى هندسة جديدة في التفكير وإرادة جماعية منسجمة ومتماسكة، قصد مساعدة الآخر لإدراك أهمية الخيارات السياسية المرغوب فيها وطنيا والمقبولة أمميا ودوليا.. ولا ينبغي النظر إلى فعل التسوية ضمن هذا التصور على أنه مسألة كرامة أمة ووطن فقط؛ بل يعتبر من أسمى المهام الدينية والدستورية لأمير المؤمنين المدافع عن حوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة والمسؤول كما يقول محمد الطوزي "أمام الله والتاريخ" عن وحدة الأمة ودوام استمرارها واستقرارها، لأن المغرب لن يقبل أبدا أن يكون مجرد بلد قريب من أوروبا المتوسط ولكن من واجبه الجغرافي والتاريخي أن يلعب دوره كاملا في المنطقة لأنه قوة جهوية فاعلة تمتد إلى ما وراء الصحراء نحو أشقائه الأفارقة الذين أبانوا وبرهنوا عن مصداقية المغرب في توجهه الاستراتيجي نحو إفريقيا بوقفة إجلال واحترام سجلت بماء من ذهب لملك أدمعت عيناه وهو يتلو خطاب العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي في يناير 2017 بإثيوبيا؛ وهو ما شكل منعطفا تاريخيا ودبلوماسيا مهما وانتصارا سياسيا ضد الخصوم الذين كشروا عن أنيابهم على عودة المغرب إلى بيته الإفريقي، باستعمال أساليب كلاسيكية دنيئة وتبني تهم جاهزة ورخيصة، لكن الطبيب المغربي (إشارة إلى الدبلوماسية الملكية) اقتلع هذه النيوب بطريقة موجعة دون استعمال أي نوع من التخدير (البنج) ليترك كل الأفواه مشرعة على الشياع في الداخل والخارج رافعا سقف التحدي والمجابهة بشعار "مستقبل المغرب في إفريقيا والمستقبل يبدأ من اليوم". *أستاذ جامعي بكلية الحقوق بالبيضا.باحث ومختص في الشؤون الإفريقية وقضايا الصحراء