تقول الكاتبة الإنجليزية إفلين بياتريس هال (Evelyn Beatrice Hall) في كتابها "أصدقاء فولتير" الذي نشر سنة 1906 تحت اسم مستعار وهي تحاول تلخيص فكر الرجل: "أختلف مع ما تقوله، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله". وسوف تشاع هذه الجملة منسوبة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير لأنها ترمز لمُثل وفلسفة الأنوار وأساسيات الديموقراطية. لذلك لا يمكن للبيئة المستبدة أن تربي الناس وتدربهم على الاختلاف في كل شئ وتتولى هي تدبير اختلافاتهم في إطار أكبر من العيش المشترك اللائق. فالأسرة والمدرسة أدوات وآليات عملية الدمج الاجتماعي: Le processus de socialisation الأولى التي تقوم بنقل القيم كل القيم والمعرفة للأجيال الجديدة. في بيئتنا العربية الإسلامية الثقافية عموما فإن العربي والمسلم لا يتعلم ولا يتربى على الحوار والنقاش؛ فمثلا في بيته لا يناقش أبا ولا جدا ولا أخا كبيرا ولا أما أيضا. ولا يناقش معلما ولا أستاذا ولا حارسا عاما ولا مديرا في المدرسة ولا أمثالهم حتى في الجامعات والمؤسسات العليا. لا يناقش موظفا في الإدارات العمومية، ولا يناقش خطيب الجمعة ولا عالم الدين في المسجد. لا يناقش برنامجا حزبيا ولا مرشحا انتخابيا ولا مسؤولا سياسيا ولا أقل حاكم له ولا أكبر. وهو غالبا يوافق على ما هم عليه... وتقريبا لا رأي له في شيء. وحتى شريكة الحياة وشريك الحياة يتم ترشيحه واختياره من الآخرين مرات... ! لذلك فعند كل نقاش مجتمعي و/أو فكري تعرفه مجتمعاتنا تعرض علينا مشاهد قبيحة من التعصب والشتم والسب والإساءة للأشخاص دون أي نقاش حقيقي للأفكار وأرضياتها ، لأنها طبعا مسألة تربية وتمرين وتمرس. النقاش الأخير الذي تلا زيارة السيدة نوال السعداوي لمدينة طنجة ومحاضرتها فيها، مثال توضيحي لما يمكن أن ينتجه غياب ثقافة الاختلاف والتربية عليها. شخصيا أدين لوجودها فقط في حياتنا بصقل جزء من وعيي، اكتشفتها صغيرة كما فاطمة المرنيسي رحمها الله وجريدة 8 مارس وبعدها سيمون دوبوفوار والبقية لحقتها... فلولا هذه الأقلام لما عُدت بنفسي لكتب التراث أبحث بنفسي عن الأسباب التي جعلتهن جميعا يكتبن كما يفعلن... في وقت كنت أستمتع فيه بجمال الإسلام مع كلمات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وبعض كتاباته. لأجد في تراثنا كوارث ومصائب ومآس تخص المرأة ! لذا كنت أقول دائما إن المرأة المسلمة عندما تدخل على كتب التراث، فإنها تحتاج إلى توازن نفسي وذهني وروحاني كبير وعال جدا حتى تحافظ على إيمانها وروحانياتها ! علمتني الحياة أيضا أن الإيمان يكون حظا مرات... ويعلمنا القرآن نفسه أن "من شاء فليومن ومن شاء فليكفر". فلولا وجود هاته الأقلام والعقول المتمردة النسائية والنسوية لما انتبهت مجتمعاتنا لفظاعاتها في حق بناتها وظلمها المركب لها.. بل إن تراكمات هذه الأقلام المفكرة والمناضلة نفسها هي التي خلقت لنا وعيا نسويا إسلاميا جديدا. حين أشارت إلى مكامن الظلم في مجتمعاتنا والخلل في منظوماتنا القيمية والفكرية وإن غطت نفسها بصباغة الدين. فهل يتخيل كل من أساء للسيدة نوال السعداوي ولشخصها، الإيمان بالقضية اللازم والقوة الذهنية والنفسية اللازمة للوقوف عقودا وحيدا ضد مجتمع وأمة، عقيدتهما تكفير المخالف وتحقيره وتهديد حياته؟ أما في حالة كونه امرأة فإن المستوى يتعقد ويتركب ويتشابك أكثر فأكثر. هل يملك من أساؤوا لها ذرة من قوة إيمانها والتزامها بقضيتها؟! لكن كذلك هم دائما أصحاب الامتيازات، يستميتون بقدر ما يميتون من أجل امتيازاتهم. لكل الذكوريين لا تلوموا أصحاب المال و الكراسي وهم يقتلون شعوبهم من أجل امتيازاتهم، فأنتم سواء في الرؤية والمنهج! في الحياة كان لي حظ صحبة وعِشرة بعض العلماء والمفكرين المسلمين والتقاطع مع بعضهم الآخرين، فلا يزال عالقا بذاكرتي ذلك الحوار الذي دار بيني وبين الدكتور أحمد الريسوني في دورة تدريبية حضرتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية تخصص علوم القرآن حيث ضاق صدره وهو يسمعني أتحدث عن الاجتهاد، فكان تفاعله استغراب من المطالبات المتكررة بالاجتهاد، ليربطها بوصف "من هب ودب" للمطالبين بها. كان قولي وأنا أتفاعل مع ما سمعته منه أنني لا أتحمل في إحداثيات زماني الحضارية المكانية عواقب الانقلاب المعرفي والفكري الذي قام به بعض "علماء" الأمة في تحالف بئيس مع السلطة السياسية الاستبدادية على القيم الإسلامية و مقاصدها العليا وعلى رأسها العدل وهم يدخلون بنا عهد الانحطاط الحضاري الذي لم نستطع بعده نهضة لحد الآن. هذا الانقلاب سوف يغلق لنا باب "الاجتهاد" ويضع شروط المجتهد ومن بينها عند بعضهم الذكورة (الذكورة شرط التقليد) ! فمن بين العلماء الذين جحدوا المرأة المسلمة فضلها العالم ابن تيمية الذي أخذ العلم عن عالمات عصره اللاتي أجزنه فيه ليقول بعدها في إحداهن:" ولا أعيب عليها إلا اعتلاءها المنبر"، مما يفيد أن المنبر كما كرسي العلم كانا متاحين للمرأة في فترات التاريخ الإسلامي الأولى. في نفس تلك الدورة تطرق بعض الأساتذة المؤطرين ومنهم من ينشط ضمن مؤسسات حركية إسلامية أو على الأقل مَرَّ منها، إلى النقاش المجتمعي المغربي في تلك الفترة حول تعديل مدونة أحوال الأسرة، ليستغربوا خلال النقاش أنني أثمن العمل الذي قامت به الحركة النسائية المغربية في نشر الوعي وتغيير القوانين. كانت رسالتي لهم أنه عندما لا يشير من يعتقدون أنهم يمثلون الله، إلى المظالم التي يعيشها الناس رجالا ونساء باسم الله العدل المتسامي المطلق، فإنهم يعطون لغيرهم الحق والفضل في الإشارة إليها ومحاربتها باسم ما ومن يشاؤؤن. في حين أنه الأولى بمن يعتقدون أنهم يمثلون الله أن يكونوا سباقين للتبشير بالعدل والمساواة بين الناس والانتصار لهما. لا أظنني فَوتُّ نشاطا للسيدة نوال السعداوي في بروكسيل منذ تواجدي بها، فكانت دائما فرصة للقرب منها ومناقشتها وفتح أعينها على طرق أخرى ممكنة لتحرر المرأة العربية المسلمة وازدهارها كما أن النقد والمعارضة من داخل المنظومة نفسها يظل أصعب وأقسى. سعدت وأنا أستمع لكلمتها في طنجة أنها أخيرا استوعبت أن قضية المرأة واحدة متجاوزة للجغرافيا والإديولوجيا وأن الحكمة تفترض تضامن النساء فيما بينهن لمزيد من المكتسبات في الحقوق، حيث كنت عادة ما أعيب عليها وعلى النسويات الغربيات رغبتهن في ممارسة سلطوية بديلة على المرأة المسلمة المتشبثة بمرجعيتها الروحانية. بعد مناقشة الأفكار دون محاباة ولا صراع، كانت تأتي كما عادة هذه الأنشطة حصص التبادل عن قرب في لياقة و تحضر، لتنبعث منها طيبة تشبه طيبة صعيد مصر وفلاحيها ويفوح منها دفء أمومة طافح. في آخر حضور لها في بروكسيل كان اختلافنا حول قراءتها لتطور الثورة المصرية لأنني لمست عندها كما عند الاقتصادي الكبير سمير أمين وقتها جنوحا إديولوجيا قدم للاستقطاب الإديولوجي المسموم الذي خنق حلم تحرر المصريين. ومع ذلك في آخرها كالعادة تبادلنا أطراف الحديث وأنهيناه بمشاغبتي لها أن مشتركاتنا كبيرة حتى في الصداقات فعبد الوهاب المسيري رحمه الله بدأ حياته صديقا لها و أنهاها صديقا لي. العداء لنوال السعداوي مرده أولا كونها امرأة وثانيا لخلفيتها الإديولوجية، فكيف يقبل الرجل المسلم الذي تربى على أن "أكبر أكبر امرأة، أصغر من أصغر رجل"؛ أن تنتقد نوال السعداوي الإسلام و تسائل الفقه و تستنطق النص القرآني وهو لا يناقش أصغر إمام في مسجد حيه. كما أن علماءنا ينتظمون في اتحادات ونواد مغلقة، تسمى أزهرا أو مجمعا فقهيا أو مجالس عليا... كاتحادات الأطباء والمهندسين و المستشارين الذين يحدون عضوية الشباب والأجيال الجديدة وانتماءاتهم إليها، كما أنه في حالة علمائنا تفتقد اتحاداتهم لقوانين منظمة ومدونات أخلاقية. فهل ننتظر ممن لا رأي له في أي شيء ولم يسمع أبدا من أحد قوله: "أحترم رأيك"، أن يحترم آراء الاخرين ؟! هل مثل هذا الشخص يدرك ما معنى الرأي واحترامه؟! وهل ننتظر منه وهو يستهلك تكنولوجيا التواصل التي لم يساهم بشيء في وجودها، أن يصبح شخصا آخر مختلفا عن بيئته الحقيقية؟ كل مشاكل مجتمعاتنا العربية الإسلامية أساسها عدم الاحترام. فلا حاكم يحترم مسؤولياته وشعبه وحقوقه ولا رئيس عمل يحترم موظفيه وعماله...ولا أب يحترم شخصيات زوجته وأبنائه.. مع أننا جميعا نظل نتغني أن الاحترام هو إسمنت كل العلاقات ! حتى تتغير بُنَى مجتمعاتنا السياسية والاجتماعية والثقافية وتؤسس على الاحترام، وتبدأ من الأسرة التي نعتبرها نواة مجتمعاتنا...لا ننتظر احتراما للمخالف ولا الاختلاف .