غادرنا إلى دار البقاء أستاذنا عبد الكريم غلاب رحمة الله عليه ، وترك لنا مكتبة شاملة متنوعة ضمت مؤلفات وكتب ومقالات وحوارات تناول من خلالها الفكر والثقافة وفن القول والأدب والأدباء والسياسة والاقتصاد والصحافة و...هذه القامة الفكرية التي يصعب الحديث عنها والتعريف بها لكن من باب رد الجميل والامتنان لشخص منحني جزء من اهتمامه ووقته حينما كنت أحضر الدكتوراه والتي عنونتها ب''المصطلح النقدي في أعمال الأستاذ عبد الكريم غلاب النقدية" وسيقتصر حديثي عن الجانب العلمي والأدبي الذي ميز الرجل.عبد الكريم غلاب الشخصية التي خاضت مجموعة من التجارب السياسية والعلمية، واحتكت بمجموعة من النقاد والأدباء العالميين ، سأقدمه لقراء هسبريس في حلقات. الحلقةالأولى : بعنوان التعريف بالأستاذ عبد الكريم غلاب (ولدبفاس سنة1919م) ليس من السهل التعريف بشخص كان يطالعنا بإنتاجاته رغم تجاوزه العقد التاسع، ومع هذا العمر المتقدم لم تتوقف أنشطته الثقافية والفكرية، ولم تنقطع كتاباته، وخير دليل على ذلك إصداره لمجلد في 728 صفحة "عبد الكريم غلاب في مذكرات سياسية وصحافية "1، حيث يحتل مكانة مرموقة فكريا وأدبيا في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل ، يشهد بذلك العديد من النقاد والأدباء والباحثين من المغرب وخارجه 2 ، يقول عنه عبد المجيد بنجلون "هذا الشخص الذي أصبح عاجزا عن أن لا يكتب، فهو كاتب مدمن إذا صح هذا التعبير"3، ويقول عنه طه عبد الرحمان "فقد وجب أن يقال فيه (إنه مفكر حي وغيره مفكر ميت)، وأستاذنا الكبير عبد الكريم غلاب هو هذا المفكر الحي بعينه، فإننا نحيا بقراءة كتابه ونحيا بالكلام فيه ونحيا بالكتابة عنه"4. ولست أدعي تقديم تعريف شخصي أو دراسة شخصية للأستاذ غلاب، وهو القائل "لم يكن يرقى لدراسة الشخصية إلا شخصية تماثلها وتفوقها"5 ، وتزداد صعوبة التعريف والترجمة له ، لكونه رجلا سياسيا من الدرجة الأولى وهو الذي أقر هذا في قوله "والأمر مثل ذلك أو أصعب في ترجمة السياسيين...."6 . ويبقى المقصود عندي في هذا الورقة هو إبراز مكانة الأستاذ غلاب في الأدب العربي المعاصر عامة، وفي الأدب المغربي خاصة، حيث "يبرز نموذجا نادرا لا بين أعلام المغرب فحسب، بل في تاريخ الأدب العربي الحديث إجمالا"7 وللإحاطة بشخصيته خاصة في جانبها الأدبي، أذكر بعض العوامل المؤثرة في حياته ومحيطه، مع تقديم نبذة مختصرة عن أهم المراحل التي مر منها، مع التركيز على الجانب العلمي والثقافي، وأعرض أعماله النقدية المتنوعة. 1 العوامل المؤثرة في حياته ومحيطه: لا شك أن هناك عوامل شتى، أثرت في حياة الكاتب والأديب الأستاذ عبد الكريم غلاب، وقد تحدث الأستاذ أحمد فطري عن أهم العوامل السياسية المؤثرة في حياته وأدبه حيث قال: "يمكننا أن نؤكد بأن إنتاج غلاب الأدبي في غالبه قد تأثر بدوره بالظروف البيئية التي أحاطت بحياته، والتي تعود إلى مجموعة عوامل سياسية، يمكننا أن نجملها في عاملين رئيسيين هما: حالة المغرب في عصره ومبادئ حزب الاستقلال وأهدافه"8. كان المغرب في عصر الأستاذ غلاب يمر بفترة الحماية الفرنسية قبل أن يُولد أديبنا وبالضبط سنة 1912م، وهذه أهم الأحداث التي عايشها كما تحدّث عنها هو في مذكراته وكتبه التاريخية، أو تحدّث عنها معاصروه من الكتاب والأدباء والمؤرخين، وهي تُبيّن كيف تفاعل وانخرط أديبنا بشكل إيجابي مع مختلف هذه التطورات وطبيعة الأدوار التي اضطلع بها هو وغيره من المثقفين المغاربة في مختلف مراحل الحركة الوطنية، حيث أشار جاك بيرك في تقديمه لكتاب الأستاذ غلاب إلى هذه الأدوار بقوله "تساءلتم بين طيات الكتاب عن أهمية الدور الذي لعبه المثقفون في المرحلة الأولى لتطور الحركة الوطنية"9 . وقد استعرض الأستاذ غلاب في مؤلفه10 تفاصيل الأحداث ودقائقها التي عرفها المغرب العربي عامة والمملكة المغربية على الخصوص من احتلال ومطالبة بالاستقلال ونضال مسلح وإعلان استقلال المغرب ...إلخ. 2 نبذة مختصرة عن حياة الأستاذ عبد الكريم غلاب: هي ورقة تعريفية بأستاذنا سأركز فيها على الجانب العلمي والثقافي من حياة الرجل، وهي عبارة عن محطات مختصرة: - فاس. - ولد أديبنا بفاس سنة 1919م، وبخصوص تعليمه وتكوينه الأولي قال: "فيما يخصني، حظيت بولوج المدارس الوطنية الحرة التي بدأت تتأسس، وكان والدي – رحمه الله- مشرفا على إحداها...، وهذه المدرسة كانت تسمى مدرسة "سيدي بناني"... درست في هذه المدرسة الابتدائية عبر مرحلتين: المرحلة الأولى هي تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم مرحلة تعلم بعض الدروس الفقهية والدينية، ثم تطور التعليم بإضافة دروس في اللغة العربية والحساب والجغرافية وبعض العلوم الأخرى... إذ في عهدنا بدأنا نتعلم اللغة العربية على أصولها وبأسلوب جديد نسبيا، ونقرأ كتبا واردة من المشرق... ولذلك كان تكويننا مزدوجا: تعليمي ووطني في نفس الوقت"11، ثم كانت الدراسة بكلية القرويين يقول في هذا السياق : "لقد كانت الدراسة في القرويين أرقى في الآداب وفي العلوم الأخرى"12. - القاهرة: - سافر إلى القاهرة لإتمام دراسته العليا حيث يقول: "كنا نقرأ الكتب الثقافية والأدبية التي جعلتنا نرتبط وجدانيا بمصر، حيث أصبحت الدراسة بها هي أقصى أمانينا، وهكذا أخذنا نفكر في هذا الاتجاه..."13 واستمر وجوده بمصر من سنة 1937 إلى سنة 1948م، وعنها قال: "في القاهرة قام الطلبة المغاربة بنشاط كبير من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وفي الدوائر المصرية عموما والصحفية والعربية والإسلامية على الخصوص، وقد وجد المغرب له مكانا في جميع الدوائر التي اتصلت بها المجموعة الطلابية من المغرب... تجّدد نشاط هذه الجماعة بتجدّد أفواج الطلبة"14. وهكذا ناضل الأستاذ غلاب في سبيل قضيته الوطنية إلى جانب تحصيله العلمي إذ عمل أستاذا في المدارس الثانوية المصرية بعد تخرجه في كلية الآداب (1945 – 1947)، " كما تابع نشاطه الأدبي بنشر مقالاته في الصحف والمجلات العربية"15. - العودة إلى المغرب: تولى الأستاذ غلاب رئاسة تحرير مجلة "رسالة المغرب"، وإدارة جريدة "العلم"، ورئاسة تحرير مجلة "البينة "، ورئاسة تحرير مجلة "آفاق"، ورئاسة اتحاد كتاب المغرب، وعمل نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب... بالإضافة إلى مناصب سياسية (وزير مفوض في الشؤون الخارجية، وقيادي في حزب الاستقلال ونائب في البرلمان...)، لكن ما يميز الرجل في كل مراحل حياته هو الجمع بين التأليف والكتابة والنشاط السياسي، "إذ بمقدار ما هو أديب بارز بمقدار ما هو رجل سياسة محنك"16، حيث يعتبره البعض جسرا بين الصحافة والأدب 17 ، لكن ما يهمّنا هو شخصيته الأدبية، التي يرى البعض "أنها رجحت رغم تصدره المشهد السياسي " 18 فما هي إنتاجاته ومؤلفاته؟ وهو ما سنقدمه في الحلقة القادمة تغمدك الله بواسع رحمته يا من توقف نبض قلبه لكن نبض كلماته وفكره مازالت تنبض بالحياة. هوامش: 1- عبد الكريم غلاب في مذكرات سياسية وصحافية، مكتبة المعارف، الرباط، 2010م. 2 -عبد الكريم غلاب، الأديب والإنسان، شهادات ودراسات نخبة من الكتاب والنقاد ،إعداد عبد الرحيم العلام ، مؤسسة منتدى أصيلة، ط1 ،يوليوز، 2011 م . 3- في أعماق الرواية ينبض شعب بأكمله: دراسات تحليلية نقدية لرواية دفنا الماضي، عبد المجيد بنجلون ، مطبعة الرسالة الرباط 1980م، ص 11 – 12. 4 -عبد الكريم غلاب ، أبحاث وأعلام ، البنية القيمية للنظر في اللغة والفكر عند الأستاذ عبد الكريم غلاب، ندوات تشرف عليها وتصدرها فاطمة الجامعي الحبابي، 1996م، ص113. 5 - الترجمة الشخصية التحليلية في الأدب والسياسة: عبد الكريم غلاب، مجلة الموقف، مطبعة الرسالة، 1407ه الرباط، 1987 م، ص 8. 6- نفسه ، ص 8. 7 - عبد الكريم غلاب، بيبليوغرافية بأعماله وما كتب عنه في مصادر عربية: د. صالح جواد الطعمة، دار توبقال، ط1، الدارالبيضاء، 1993م، ص 6. 8-الأدب السياسي عند عبد الكريم غلاب: ذ. أحمد فطري، دار الثقافة، ط1، الدارالبيضاء، 1982م ص 16. 9- الحركة الوطنية بالمغرب من نهاية الحرب الريفية إلى بناء الجدار السادس في الصحراء ذ عبد الكريم غلاب، ج1، مطبعة الرسالة م، الرباط، 1987مقدمة جاك بيرك. 4- قراءة جديدة في تاريخ المغرب العربي، في ثلاث مجلدات، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت2005 م. 11 - حوار مع الأستاذ غلاب، أخبار اليوم، ع 212، 2010م.. 12- نفسه . 13 نفسه . 14 قراءة جديدة في تاريخ المغرب العربي، ج3، ص 368، 369 . 15 الأدب السياسي عند عبد الكريم غلاب: أحمد فطري، دار الثقافة ، ط1، ، الدارالبيضاء ،1982م، ص 40. 16 الأدب السياسي عند عبد الكريم غلاب ، ص42. عبد الكريم غلاب ، الأديب والإنسان ، ص16. 17 نفسه ، ص 15 18