ذكرت إحدى الجرائد الإلكترونية في مقالة عنوانها "استقالة إلياس حقائق أخرى لا تعرفها"، مقتطفا معزولا نسبته إليّ بدون أن تتبين السياق أو القصد، أو بدون أن تأتي بالنص كاملا، حملتني فيه ما لم أقله، وبدون التأكد من صحة الخبر ومراجعة المعني بالأمر. كما أضاف صاحب المقال في ختام معرض حديثه عني كلاما غير صحيح بالمرة، أثار استغرابي على نحو شديد، بدون أن أعرف أسباب هذا التقول أو التزيد. وتوضيحا لما ذكرته في المناسبة التي أشار إليها الصحافي صاحب المقال، ارتأيت أن أنشر ملخصا توضيحيا حتى لا تلتبس عليه أو على غير الأمور، تعميما للفائدة وإغناء لأي نقاش مثمر. طالما كررت في مناسبات مختلفة أن القراءة الدستورية أو السياسية العابرة لخطاب العرش الأخير، والذي اعتبرته حابلا ببوادر "مشروع رؤيوي" صاخب بحزمات إجرائية في المستقبل القريب، لا يمكن لها بلوغ الفهم المعمق الذي يحفل به الخطاب بدون الارتكاز على "القراءة النسقية" "lecture systémique" التي تضع جرأة الموضوعات المذكورة فيه ضمن مختلف الأنساق التاريخية للدولة المغربية الحديثة؛ وهي أنساق متراوحة بين مرحلتين من عمر هذه الدولة؛ الدولة التقليدية، والدولة الجديدة بقيادة محمد السادس. وما يميز بين هذه الأنساق من داخل هاتين الدولتين هي القطيعة السياسية الذي أحدثها خطاب المفهوم الجديد للسلطة مرورا برأسملة التراكمات الديمقراطية بأحجامها المختلفة التي ادخرتها الدولة الجديدة . وبذلك، ذكرت في مناسبة حزبية أخيرة أن خطاب العرش الأخير هو خطاب سياسي يندرج في مشروع دولتي مختلف، يقوم على "نقد الدولة" نفسها؛ أي إنه خطاب ناقد لعقل الدولة التقليدية وممارساتها المشينة التي عبر عنها المستوى المتردي للإدارة البيروقراطية وللنخب السياسية الفاسدة أو الانتفاعية المتعالية عن المصلحة العامة. من مكونات هذا النقد : 1- إسقاط صفة المواطنة المنتجة عن الفاعل السياسي وعن الإدارة أي سحب مشروعية المواطنة المنتجة عن الفاعل السياسي والإداري باعتباره عاملا للتعطيل والتأخير وليس فاعلا إيجابيا في التنمية (لم يخطر لي على بال أن يصل الصراع الحزبي وتصفية الحسابات السياسوية إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين) (خطاب جلالة الملك). 2- اختراق المعيش لبلوغ الواقعي وأما اعتبار خطاب العرش الأخير "نقدا للدولة" فلأنه لم يبق حبيس المعيش"le vécu" وهو سطح ما يجري سياسيا واجتماعيا، وإنما تم اختراقه لتعرية الواقعي "le réel "، بلغة صارمة مدوية، بدت متناقضة في الظاهر ولكنها جامعة بين ثنائيات متقابلة باعتبارها آليات للحفر في سطح '"المعيش" الكاذب والكشف عن الحقيقة. ومن مظاهر هذه الثنائيات "التشكيك والإدانة (غياب روح المسؤولية، الالتزام الوطني) ثم الإقرار والمعاتبة (إني أزن ما أقول) بنبرة واعية فيها من الجدية والمسؤولية". وهي ثنائيات دلالية تحيل على شرط إعادة النظر في الدولة التقليدية نفسها ذات العقلية البائدة والنخب المعزولة عن الواقع نفسه، بالرغم من أنها تمثل الشكل المؤسساتي للدولة متمثلا في الحكومة المكونة من الأحزاب والإدارة، بمعنى أن مجال السلطة الذي تمثله في مستوى متقدم الأحزاب الحاكمة هو مجال غير شرعي على مستوى الواقع، وأن ما يبدو شرعيا فيه من خلال الانتخابات هو حاصل في الواجهة فقط، أي "معيشي" ليس إلا. إن التشكيك وإدانة كل ما تحمله الدولة التقليدية تمت تعريته بصيغ استنكارية متكررة وقوية، مثل قول جلالة الملك: "إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تُمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟". الواضح أن الملك هنا ينحاز إلى خطاب الشعب، متأففا من خطاب "السياسي الوزاري" (شكل الدولة) أو المعارض المنافس "للفاعل السياسي الوزاري". وهذا مدخل حقيقي لنقد الدولة في أفق بناء الدولة الجديدة، دولة التنمية . 3- نقد الدولة بتعرية ضعف الأثر الاقتصادي على التنمية الاجتماعية كشف خطاب العرش الأخير أن هناك تفاوتا بين الإنجاز الاقتصادي الوطني وأثره الإيجابي اجتماعيا، الشيء الذي تسبب في تناقض مريع ما بين الإنجاز متمثلا في مخططات الفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة، وما بين أثر البرامج التنموية في ترقية الوضع البشري والمجال الترابي. وهذا يعني أن مجال السلطة (في سياق تدبير السياسات العمومية) في علاقته بالطموح الإستراتيجي للدولة غير متناغم، بل في وضعية تناقض لا تضفي أي إضافات سوسيو سياسية ناجعة تحصن المشروع الإستراتيجي للدولة المغربية كدولة تاريخية نجحت في الحسم النهائي في مشروعية الوجود والاستمرارية. ولذلك أعلن جلالة عن صرامة الاحتكام إلى الدستور، مشددا على التطبيق الحرفي لمقتضياته وأحكامه. هذا يعني، أن هناك وعيا ثاقبا بنقد الدولة في اتجاه بناء الدولة الوطنية وحمايتها، بما يتوافق والدولة الجديدة ...