إدانة صارخة للأنا وإشادة حيّة للانعتاق احتفلت الأوساط الأدبية والجامعية والأكاديمية في مختلف البلدان الناطقة بلغة سيرفانتيس، خلال شهر يونيو الفارط، بالكاتب الباراغوائي الكبير أوْغُوستُو رُووَا بَاستُوسْ بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لميلاده (13 يونيو 1917- 26 أبريل 2005). وهكذا، أسهمت في إحياء هذه التظاهرة الكبرى ما ينيف على عشر بلدان منها الباراغواي (مسقط رأس الكاتب) وإسبانيا، وفرنسا، والبرتغال، واليابان، وصربيا فضلاً عن بعض بلدان أمريكا اللاّتينية، والمغرب الذي يُعدّ البلد العربي الوحيد المشارك في هذه التظاهرة الأدبية حول أعمال هذا الرّوائي الفريد في بانوراما الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر، والتي تمّ تنظيمها - موازاة مع الاحتفالات الدولية التي أقيمت بهذه المناسبة - في الثالث عشر من شهر يونيو المنصرم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بمدينة الدارالبيضاء، حيث ألقت بهذه المناسبة الأستاذة عائشة المعطي المتخصّصة في الأدب الإسباني محاضرة قيّمة تحت عنوان "سلطة الكلمة في رواية أنا الأعلى للكاتب والرّوائي أوغوستو رُووَا باستوس"، كما تمّ عرض شريط وثائقي، وأذيعت بهذه المناسبة كذلك رسالة خصّت بها هذا الملتقى التكريمي ابنة الكاتب، ميرتا رُووَا ماسشيروني، فضلاً عن عرض شريط خاصّ من سفارة الباراغواي بالمغرب يتضّمن كلمة سفير هذا البلد الأمريكي اللاّتيني المعتمد بالرباط حول هذا اللقاء. البُعد عن الأوطان معانقة للآلام يُعدّ أوغوستو رُووَا باستُوس أحد الوجوه الأصيلة في بانوراما الأدب الأمريكي المعاصر، خاصّة في حقل الرواية، بعد أن ولد في عاصمة الباراغواي "أسونسيون" عام 1917 انتقل للعيش في أوروبا منذ عام 1935 حيث عمل مراسلاً صحافياً خلال الحرب الأهلية فيها التي أرغمته على مغادرتها عام 1947، انتقل بعد ذلك إلى الأرجنتين حيث نشر أولى مجموعته القصصية التي كانت تحت عنوان "رعد بين الأوراق"، وقد لقي هذا الكتاب نجاحاً مهمّاً، وقبولاً حسناً من لدن النقاد والقراء على حدٍّ سواء، أمّا أولى رواياته فتحمل عنوان: "ابن الرجل" وبهذه الرواية بدأ باستوس يشقّ طريقه في عالم الإبداع الرّوائي في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية. وضعه النقاد ضمن الموجة الواقعية الجهوية نظراً للمواضيع البيئية المُعالجَة في قصصه، إلاّ أنها مواضيع لا تخلو من بُعد إنسانيّ، من أعماله كذلك "حقول البرتقال الملتهبة" (شعر) ومن أشهر أعماله "صراع حتى الفجر"، و"ابن الرّجل" آنفة الذكر، ورائعته الشّهيرة "أنا الأعلى" وسواهما من الأعمال الأخرى متعددة المجالات. ومثلما حدث مع القاصّ المكسيكي البارع خوان رولفو، فقد كتب أوغوستو رُووَا باستُوس للسينما كذلك، وأحرز في هذا الفنّ على جوائز تكريمية مهمّة. وفي عام 1964 انتقل من الأرجنتين للعيش في مدينة تولوز الفرنسية، وعمل أستاذ كرسي بجامعتها للآداب الإسبانية، وبعد أن عاش كذلك ردحاً من الزّمن في إسبانيا، حصل فيما بعد على الجنسية الإسبانية تقديراً لإبداعاته الأدبية العميقة مثلما هو عليه الشأن بالنسبة إلى الكاتب البيروفي المعروف ماريو برغاس يوسا. كتب باستوس ذات مرّة يقول: "إن حياته حكاية يستحيل وصفها أبداً"، وقال في مناسبة أخرى: "لقد انتحرتُ ككاتب، وتحوّلتُ إلى صانع تقليدي يقوم بعمل ما قام به الآخرون قبلي، إنني مجرّد ناسخ للتاريخ، والحكايات الإنسانية التي تشكّل أرضية لكل كاتب يَعتبر نفسَه مبدع نصوص"، إنه يصف البُعد عن الأوطان بمثابة مدرسة للتمرّس في المعاناة، ومعانقة الآلام، إلاّ أنها تجربة مثمرة في آنٍ واحد، ويضيف في هذا الصدد: "إنّ البِعاد عن الوطن لقّنني فنّ الكتابة حتى أضحت كتاباتي شبيهة بنسيج غربوي، في هذه المدرسة تعلمتُ التأمّل في وجوه أبناء وطني ولمستُ ثقلَ آلامهم". لقد فاجأ هذا الكاتب في الواقع نقاد الآداب الإسبانية، سواء في إسبانيا أو في أمريكا اللاتينية والعالم. وقد ظلّ في البداية مغموراً لفترة مّا من حياته، ثمّ سرعان ما اعتبره النقّاد "انفجاراً" في إجادة فنّ الرواية في أمريكا اللاتينية. يتساءل أحدُ النقاد الإسبان في هذا القبيل: كيف، وبماذا يمكن وصف هذا الكاتب من لدن زملائه المبدعين؟ فيقول: "إنّه صوتٌ مُتفرّد في بلده في زمن كانت فيه بلاده غارقة في ظلام التأخر الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، إنه في خضمّ هذه الصّورة القاتمة خرج علينا بروايته الباهرة "ابن الرّجل" التي تُعتبر ملحمة أو قصيدة حماسية حزينة عن الظرف الإنساني في ذلك الشقّ النائيّ من العالم، إنه بهذه الرّواية أعطى للكلمة مدلولها القويّ المُفعم بعمق الأشياء، وبزخم الواقع، شخصيات هذه الرّواية نماذج مُتحرّكة، فاعلة، ومؤثرة، وبليغة ،إنها شخصيات تمثّل غيرَها من الناس، ولكنها لا تقبل القسمة، أو التجزئة، أو اللنشطار أبداً لأنّها من الكلّ، أو من المجموع تكتسب أهميتها وقوّتها وكيانها، كما أنها تجسيد للآلام والآمال في آن واحد". أنا الأعلى .. هو الأعلى..! يقدّم لنا هذا الكاتب الكبير في روايته الشهيرة "أنا الأعلى" (Yo el Supremo ) خاصّيةً فريدةً من نوعها تُنسب "للتاريخ الحقيقي" أو ما يمكن أن نطلق عليه "بالتاريخ الخيالي" للأبطال. تحكي لنا هذه الرواية في قالبٍ قصصيّ رائع عن نزعات، وهواجس، وتصرّفات أحد أكبر الديكتاتوريّين الذي حكم بلد الكاتب الباراغواي بيدٍ من حديد في أواخر النصف الأوّل من القرن التاسع عشر وهو :( José Gaspar Rodriguez de Francia ) . هذه الرواية إدانة صارخة للأنا، وإشادة حيّة للانعتاق". إن الكاتب في هذه الرواية يجعلنا حيارىَ ممّا ينساب نصب أعيننا من أحداث، فيقفز التساؤل التالي إلى أذهاننا على حين غرّة: هل هذا حدث بالفعل..؟ أم أنه من نسج خيال الرّاوي..؟ إنّ دقّة الوصف، و إنّ التنظيم والترتيب المُحكمين والبديعين لتراصّ النصوص بعيداً عن ذوبان وجه "البطل" في بحر الكلمات لأمر يبعث على الإعجاب حقّاً، إن ذلك يقرّبنا من البطل حيناً، وينأى بنا عنه أحياناً أخرى. ومن خلال هذا التباعد الزّماني يجعل الرّاوي من القتامة وضوحاً، ومن الوضوح غموضاً، وكأنه كاتب، أو شاعر، أو رسّام يجيد التلاعب والسيطرة على نبرات الكلمة، وبريق الألوان، إنّ هذا ليس ضرباً من المجاز اللغوي بقدر ما هو إثراء للنصّ بواسطة تمطيطات لغوية وصفية تجعلنا تارة أمام "لون الدم القاني" المُقزّز، وتضعنا في أخرى حيال "خضرة نضرة" مريحة تبعث الطمأنينة والسكينة في قلوبنا وأفئدتنا. إن عالم هذه الرواية يغلي في تمازج عجيب، إنها توقظ ما ظلّ كامناً فينا، وتحرّك ما كان نائماً زمناً في الجفون التائهة. جمرة الكتابة وجذوة القراءة يقول ريموند رُوسل: "القراءة تعني في بعض الأحيان نوعاً من الغشّ، والاحتيال"، ويقول باستوس في هذا الصّدد: "يتأكّد لنا مصداق هذا القول إذا كان المتحدّث عن أيّ عملٍ أدبي هو كاتب هذا العمل نفسه، فماذا يا ترى يريد؟ ماذا يمكن أن ننتظر منه، كقارئ لأعماله، أن يفسّرها؟ أن يحلل ميكانيكية نشاط الحواس؟ تعرية المعاني المُغلقة؟ فكّ الرّموز المُبهمة؟ أن يفرك ويدعك ما بقي من الفضلات؟ أن يقول لنا ما لم يقله فيها؟ أن يعيد على مسامعنا ما لم يكتبه فيها؟ أو ما لا ينبغي قوله؟ أن يحدّثنا عن عمق التجربة التي خاض أو غرق فيها خلال فترة مخاض العمل الأدبي؟ إن هناك عنصراً لا يمكن نكرانه، فالكاتب في الواقع لا يتذكّر شيئاً، إن الكاتب هو الشخص الوحيد الذي لا يمكنه التحدّث عن عمله الأدبي بأيّ حالٍ من الأحوال، قد يحدّثنا تجاوزاً عن الدوافع التي حفزته لوضع هذا العمل أو ذاك، فعملية الخلق الأدبي شبيهة بالإبحار في رحلة نحو المجهول، وفي هذه الرّحلة يستحيل اللقاء من جديد مع كلّ ما كان أو قيل في العمل الأدبي، ومن ثمّ يظلّ الأساسي مجهولاً من لدن الكاتب. إنه بإمكان الكتّاب أن يوفّروا على قرّائهم فكّ رموز وأبعاد كتاباتهم، ولكنّ الشيء العميق لا يُدْرَك إلاّ بقدْرٍ باهظٍ من العناء والذكاء، إنني ككاتب أعتبر نفسي قد أخفقتُ في إبلاغ القارئ ما عشته خلال إبحاري في ظلام، وسديم، وهيادب، وطلاسم الحياة، إنه إذا كانت جذوة القراءة مبدئياً أكثرَ متعةً، وأقلّ صعوبة من إيلام جمرة الكتابة، فإنّ هذه القراءة تزداد صعوبة بالنسبة إلى قارئ عمله الشخصي، إنّ ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدوى هذه الحرفة العتيقة التي هي رواية القصص، وسرد الأساطير القديمة اليومية للحياة الجماعية، واليومية للأفراد، إنها لظاهرة صحيّة أن يعيش المرء من جديد بعضَ التجارب التي تنساب وتشعّ وتتفتّق عن حياته بمجرد قراءة عمل ليس له. إن بعض الاكتشافات العجيبة حدثت لي ذات مرّة عندما عثرتُ على نصٍّ مغمور ومثير لصاحب (المحاكمة) "فرانز كافكا" حيث كان هذا الكاتب لا يزال مجهولاً بالنسبة إلي، إنه يتحدّث عن "سانشو بانثا" (إحدى شخصيات رواية ميغيل دي سيرفانتيس المعروفة "ضُونْ كيخُوته دي لا مانشَا" كما تُنطق في اللغة الإسبانية، أو "ضُونْ كيشوت" كما تُعرف في السرديّات الغربية)، فكان كافكا يضع نظرية مخالفة ومدوّخة حول طبيعة ودور هاته الشخصية، ويكتشف بالتالي بُعداً جديداً بالنسبة لي في رواية "سيرفانتيس"، إنه تحويل ما هو ساذج، وإعطاؤه تركيباً مُعقّداً عميقاً. يعتبر الناقد الأدبي الإسباني البارز رفائيل كونطي الكاتبَ والرّوائيَّ الباراغوائي الكبير أوغوستو رُووَا باستُوس من أعظم الكتّاب الباراغوائييّن على امتداد التاريخ الأدبي لهذا البلد. *كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا .