أكيد أن الطرق الداخلية هي طرق الإنسان، كما هي أيضا طرق القدر، وللشاعر طرقه الداخلية الشّتيتة، المزدحمة بالعبور ومن تِرحاله الموزّع النّفس فيها إلى الأعمق والأرحب والأبعد والأصفى... فالحديث عن الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال (من مواليد مدينة شفشاون سنة 1931)، هو حديث في اللغة وفي المعنى، فالرمز يلتحم بالرمز والكتابة بالكتابة والقصيدة بالقصيدة، ملتصقاً بالنّبض الإنساني، راسماً كياناً حيّاً يستجيب ويضطرب، يجزع وينتصر، يحزن ويفرح ويرفض ويغضب. وتلكم هي الحياة والقصيدة. الشاعر ظاهرة رمزية أيضا، هو رحلة تبدأ بالإنسان ولعلها في النهاية تعود إليه، أو تتلاشى في أضواء السّماء والملكوت، أو في جبّة آخر المساء أو على جناح براق بعيد؛ حيث السرّ والنّور والضّوء والظّلّ والطفولة الهاربة بالنّهر... مازجاً بين الحلم وامتداداته وبين الواقع ومنعرجاته، وبين غيمة خلابة. هي الأشياء تقطر جمراً في الرّؤية وفي الأسلوب. ولعلنا إذا أمعنّا النظر، سنجد الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال أكثر انشداداً إلى ابن عربي وعالمه الصّوفي الملتبس. بل يمكن القول إن هذا الانشداد تحوّل في ما بعد إلى استغراق كليّ في أفياء تلك التجربة، ليس لأعلى مستوى التمثّل فقط، بل وبدافع الاستكشاف وملابسة قضاياها الوجودية لتعميق التجربة الشعرية الخاصة، المضيئة والممتدة. كما يمكن الحديث عن مسارين في تجربة الشاعر: مسار اجتماعي واقعي مشرع على التعابير الإنسانية ومنفتح على اليومي والعابر، مسكوك بلغة يكسبها طزاجة نادرة ويلوّن نشيدها بأقواس قزح... ومسار تصوفيّ رمزي متّسع الاتجاهات متشعّب الآفاق والرؤى، فضلا عن أن الصورة لديه تتيح الوحدة مع العالم اللاّمرئيّ وتعطي إمكانية امتلاكه وامتلاك أشيائه بحميمية، والنّفاذ إلى حقيقته المتجدّدة باستمرار. فهو أكثر امتلاءً وأشدّ إصراراً على التجاوز والاختلاف، هو غيمة الأمس واليوم، ومطر كلّ الفصول. منذ دواوينه: الطّريق إلى الإنسان، والأشياء المنكسرة، والبستان، وعابر سبيل، وآخر المساء، إلى شجر البياض، والقبض على الماء، ولوحات مائية، وكتاب العناية، وبعد الجلبة، وعلى عتبة البحر، وصولا إلى موّال أندلسي، وفي قارب واحد، ونمنمات وحديقة صغيرة وغيرها، كانت قصائد الشاعر تتصف بالشمول والأبدية وبمتعة الحواس والعقل في آن، هو السّاكن مع نصوصه، يتوحّد بها كما جذور الأشجار بالأرض، باعتبارها مرآته التي تعيده إلى وجودنا المشترك وإلى التّماهي باللّغة في رحلة الحياة، في جدليّتها والتباساتها وأفراحها وفي تصوير المشاعر والتأملات؛ فهو لا يكفّ بدأب موصول على ممارسة تأثيره الكبير على أدبنا. وها هو يقول حكمته في فكرة شعرية فسيحة بمغزاها الكوني وبإثارة بارعة تفْعل فِعلها في مسارات الذّات: طريقي / إلى من أحبُّ / هنا / أنا أعرفهُ / أنا فيهِ / ولكنّني/ لست أمشي/ ولكنّني / مُغمضُ القدمينْ (نمنمات ص: 9). الشاعر عبد الكريم الطبال بستانيّ آخر في إشراقات النّهار. هو عصافير الصّباح وقنديل المساء، يستيقظ بين مفردات المكان شفشاون، يلوّح لسرب طيور في الزّرقة، يربّت على عائلة من الأشجار، يشرب موسيقاه من هدير النّهر، يصافح لِحية الجبل وضفائر الشّمس والعتمة القديمة، يستنشق رائحة العشب والوجوه والأصوات... يتلبّس الظّلال كأنه الظلّ، هو المكان وابن المكان وطفل المكان أحياناً أخرى، يبقى أكثر وسامة بين الحقب والأجيال رغم خريف العمر، واستباقياً واستنتاجياً واستثنائياً. لروحه عذوبة الماء، وفي مُزحته فصاحة برق خاطف، يراقب الطريق والأنفاس في صمت بعيد مع فنجان قهوته، وفي كلامه اقتصار واختصار. ربّما في انتظار السرّ القادم.