تواجه الدولة العراقية في أعقاب إعلان رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" في 10 يوليو الجاري النصر النهائي على تنظيم "داعش" في مدينة الموصل، نوعين من الأزمات تهدد استقرارها. أولهما عارضة مؤقتة، ومنها إعادة الإعمار، ومستقبل النازحين، وبقايا التنظيم. والتحدي الرئيسي الذي يعترض تفكيكها يتمثل في ضعف الإمكانات المادية والاقتصادية للدولة بسبب تسخير اقتصادها على مدار الأعوام الثلاثة الماضية لخدمة الحرب ضد التنظيم، واستشراء الفساد في بعض المؤسسات. وثانيهما أزمات هيكلية مزمنة كانت السبب الرئيسي في ظهور الإرهاب بالمدن في أشكال مختلفة، وصولاً إلى الشكل الأخير الممثل في تنظيم "داعش". الأزمات العارضة: جاءت تلك الأزمات كنتيجة مباشرة لتمدد تنظيم داعش في العراق. وتتركز بصورة أساسية حول تردي الأوضاع الإنسانية، ويمكن حصر أهمها على النحو التالي: 1- إعادة الإعمار: خلال فترة الحرب على تنظيم داعش بالمدن العراقية، تم تدمير البنية التحتية بشكل شبه كامل في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة التنظيم. ويقدر رئيس الوزراء العراقي تكلفة إعادة إعمار البنى التحتية المدمرة في الموصل بسبب العمليات العسكرية التي شهدتها بما تتجاوز 100 مليار دولار. وتُشكِّل تكلفة إعادة إعمار المدن التي كانت تخضع لسيطرة داعش تحديًا كبيرًا للدولة بالنظر إلى تفاقم عجز الموازنة العامة. 2- مستقبل النازحين: ستواجه الحكومة العراقية صعوبات في إعادة النازحين إلى المدن المحررة من سيطرة داعش، خاصة مع عدم وضعها خطة للتعامل مع ذلك حتى الآن. وتشير تقديرات وزارة الهجرة والمهجَّرين العراقية، في 6 يوليو الجاري، إلى أن عدد النازحين من الموصل وحدها وصل إلى 920 ألف شخص نتيجة المعارك ضد التنظيم الإرهابي. 3- بقايا "داعش": من الطبيعي أن يستمر بعض الحضور لخلايا التنظيم في ضوء المساحة الكبيرة التي كان يحتلها في يونيو 2014، والتي وصلت إلى ما يقارب ثلث الجغرافيا العراقية. ولهذا، يتواجد داعش في بعض الجيوب الصغيرة، خاصة في محافظتي كركوك والأنبار، والذي سيستغله التنظيم في القيام بعمليات انتقامية ضد القوات العراقية، الأمر الذي سيُحدث ارتباكًا أمنيًّا لبعض الوقت؛ إلا أنه من المتوقع أن تتمكن تلك القوات من القضاء عليه في تلك المناطق في نهاية الأمر. الأزمات الهيكلية: تشهد الدولة العراقية أزمات مزمنة تفاقمت منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ووضع الدستور العراقي عام 2005، إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي، وتتمثل تلك الأزمات فيما يلي: 1- تقنين الطائفية: يُعاني النظام السياسي العراقي منذ إعادة تشكيله بعد عام 2003 من خلل بنيوي في تركيبته، بما ساهم في ترسيخ ظاهرة الطائفية في كل مؤسساته تقريبًا، بل وتقنينها في كثير من الأحيان. ولعل إقرار قانون "هيئة الحشد الشعبي" في نوفمبر 2016 هو أحدث مثال على ذلك؛ إذ تم بمقتضى هذا القانون إدماج ميليشيات الحشد الشعبي داخل الجيش العراقي. وتتمثل خطورة ذلك في أن المؤسسة العسكرية العراقية أصبحت طرفًا رئيسيًّا في الخلاف الشيعي-السني، وباتت تحكمها الاعتبارات الطائفية، وهو ما قد يقضي على أية مساعٍ مستقبلية قد تهدف إلى تحويلها إلى مؤسسة وطنية جامعة لكل العراقيين. وفي هذا السياق، ستكون إشكالية إخراج قوات "الحشد الشعبي" من المناطق التي سيطرت عليها في سياق الحرب على تنظيم داعش أحد التحديات التي سيتعين على الحكومة العراقية التعامل معها. 2- التحدي الكردي: ويظهر ذلك بوضوح في إصرار الأكراد على حتمية الانفصال عن بغداد، وذلك بعدما نجح إقليم كردستان في فرض سلطة الأمر الواقع على الحكومة العراقية، وأصبح قادرًا على تحدي الحكومة العراقية من خلال إظهار جديته على إجراء الاستفتاء على الاستقلال في سبتمبر المقبل، وهو ما سيُدخل بغداد وأربيل في صدام مرتقب. وسيعمّق من ذلك الإصرار الكردي على ضم المناطق المتنازع عليها لصالح إقليم كردستان، وإدخال تلك المناطق في عملية الاستفتاء، وعدم الاكتفاء بحدود الإقليم التقليدية، وهو ما قد ترفضه بغداد وربما يدفع إلى صدام عسكري بين الجانبين، خاصة مع تصميم الأكراد -كما يقولون دائمًا- على ترسيم حدود الإقليم بالدم. 3- التدخلات الإقليمية: يعاني العراق منذ الاحتلال الأمريكي، وحالة الخواء والضعف التي عاشتها مؤسساته، من الصراعات الإقليمية على مقدرات شعبه. ولهذا، يتوقع تزايد التنافس الإقليمي داخل الدولة خلال الفترة المقبلة، خاصة بين إيرانوتركيا، وذلك في ضوء تباين مصالح وأجندات الطرفين في الشرق الأوسط بشكل عام وبغداد بشكل خاص. ومن الواضح أن مستقبل مدينة الموصل السياسي والإداري لن يتم حسمه بعيدًا عن التدخلات الإقليمية، خاصة وأن القوى المشاركة في المعركة -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وفي مقدمتها طهران وأنقرة- تدرك أن مستقبل المدينة سيمس مستقبل الدولة العراقية نفسها، وأنه الباب لضمان أي نفوذ مستقبلي فيها. 4- الاعتماد على الخارج: ترسّخت ثقافة لدى مؤسسات الدولة العراقية منذ عام 2003 مضمونها الاعتماد على الدعم الخارجي لحلحلة الأزمات الداخلية. فعلى سبيل المثال، استدعت بغداد الدعم الأمريكي مجددًا لمواجهة الصعود العسكري لتنظيم داعش، وهو ما أعاد الحضور العسكري الأمريكي الواسع في البلاد من خلال قواعد عسكرية أمريكية منتشرة في مناطق القتال ضد التنظيم، ويأتي ذلك رغم الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2010. وسيشكل الوجود الأمريكي الواسع في العراق إشكالية سيتعين على حكومة بغداد التعامل معها ومع تبعاتها المتوقعة خلال الفترة المقبلة، لا سيما رفض بعض القوى الشيعية -وفي مقدمتها التيار الصدري- استمرار هذا التواجد بعد القضاء على التنظيم بالمدن العراقية. 5- الخلل الاقتصادي: ويرجع ذلك إلى طبيعة الاقتصاد الريعي للعراق، والذي يعتمد على مصدر واحد للدخل وهو القطاع النفطي، حيث يشكل حوالي 95% من إجمالي الموازنة العامة للدولة. كما أن بغداد تُعد ثاني أكبر منتج في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، وبالتالي عندما تنخفض أسعار النفط، يتراجع اقتصادها. ولذلك يعاني الهيكل الاقتصادي العراقي من تشوه في ضوء عدم وجود تنوع في مصادر الدخل، وتخلف النمو في النشاطات الإنتاجية غير النفطية، وفي مقدمتها الزراعة والصناعة التحويلية والسياحة. يُضاف إلى ذلك تفشي الفساد وزيادة معدلات الهدر، حيث حصل العراق في مؤشر الفساد عام 2016 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية على المرتبة 11 عالميًّا. مداخل التحصين: يتعين على الحكومة العراقية خلال الفترة المقبلة التركيز على تحصين البلاد من عدم بروز بدائل لتنظيم داعش، وتفكيك الأزمات البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي لسنوات طويلة، وذلك عبر القيام بما يلي: 1- تفكيك الحواضن المجتمعية: يقع على عاتق الحكومة العراقية بعد نجاحها العسكري معالجة البيئة التي يظهر فيها الإرهاب بشكل متكرر، من خلال القيام ببعض الخطوات، وأهمها ما يلي: أ- دفع المجتمعات السنية إلى الاشتراك مع الأجهزة الأمنية في تحقيق السلام الاجتماعي، وهو ما سيُشعر سكان تلك المناطق بأنهم جزء من الحل، وأنهم شركاء في تحديد مستقبلهم، وهو ما سيُفقد الإرهاب حاضنته التي ساهمت في ظهوره بأشكال مختلفة من قبل. ب- تنمية المجتمعات السنية اقتصاديًّا، وذلك من خلال إدراج المحافظات السنية -خاصة محافظة الأنبار التي تبلغ مساحتها ثلث مساحة العراق- بنفس درجة ومعدلات الخطط التنموية التي تضعها الحكومة العراقية لباقي المحافظاتالعراقية، ومن المعلوم أن المحافظات السنية في العراق فقيرة في مواردها الاقتصادية، خاصة في القطاع النفطي. كما يُشار في هذا السياق إلى أن بذور التطرف والإرهاب غالبًا ما تجد في المجتمعات الفقيرة بيئة خصبة لنشر أفكارها المتشددة. 2- ضبط الحدود السورية-العراقية: سيرتبط تثبيت المنجزات العسكرية العراقية ضد داعش بما يُمكن تحقيقه من محاصرة لقواعده ونفوذه في سوريا، وذلك في ضوء طول الحدود البرية بين الجانبين العراقي والسوري، ويدعم ذلك ما يلي: أ- أن هزيمة داعش بالعراق ستُمثل فرصة لتنظيم القاعدة وجذوره في سوريا -تحديدًا- لطرح نفسه من جديد كمظلة يمكن لفلول داعش الدخول تحت لوائها مرة أخرى، وهو ما يؤشر إلى إمكانية تكثيف التنظيم من عملها السري في العراق مستقبلاً، وهو ما قد يغير من الخريطة الجهادية في المنطقة خلال الفترة المقبلة. ب- السعي المتوقع من فلول تنظيم داعش لاستغلال بقاء البيئة السنية الحاضنة والداعمة له للقيام بأي نشاط مستقبلي في العراق، خاصة وأن الحاضنة الاجتماعية للتنظيم في العراق تعد الأقوى، في حين أن الحاضنة الاجتماعية له في سوريا تقتصر -إلى حد كبير- على منطقة الشمال الشرقي. 3- إعادة هيكلة الجيش العراقي: على الرغم من تجاوزه الهزيمة السابقة في يونيو 2014 في الموصل، ونجاحه في تحسين صورته خلال المعارك ضد تنظيم داعش؛ إلا أنه لا يزال يعاني من مظاهر ضعف، تتمثل فيما يلي: أ- سعي البعض إلى صبغ الجيش بالصبغة الطائفية، فالطبيعة الخاصة لتنظيم "الحشد الشعبي" ستؤدي مع الوقت إلى تغيير عقيدته، وإخلال التوازن بداخله، خاصة وأن الحشد يضم فصائل عقائدية جهادية لها سياقات إدارية وتنظيمية تختلف عن السياقات الكلاسيكية المتبعة في المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى أن طبيعة العلاقة بين فصائل الحشد وتراتبيتها وتعدد ولاءاتها لا يمكن أن تستوعبها المؤسسة العسكرية. ب- أن الدور الرئيسي في المعارك البرية ضد تنظيم داعش كان لجهاز مكافحة الإرهاب، والذي فَقَدَ -بحسب التقديرات الأمريكية- 40% من عناصره بسبب المعارك التي خاضها، وهو ما يعني أن أفرعًا وقطاعات رئيسية بالجيش لا تزال غير مؤهله للقيام بدور شبيه لما قام به جهاز مكافحة الإرهاب. 4- الحد من التدخلات الإقليمية: لن تجد الحكومة العراقية فرصة أفضل من الوقت الحالي بعد انتصارها العسكري ضد داعش للتحرر من الضغوط التي يُثقلها التدخل الإقليمي في الشئون العراقية. وفي هذا السياق، بمقدور رئيس الوزراء العراقي القيام ببعض الخطوات العملية للتصدي لتلك التدخلات، وأهمها ما يلي: أ- تفكيك ميليشيات الحشد الشعبي، وسحب الأسلحة التي في حوزتها، على اعتبار أنها الذراع العسكري الرئيسي لإيران في العراق، ولا يمكن ضمان ولاءها للدولة العراقية، ويُشار في هذا الإطار إلى تصريح القيادي في الحشد وزعيم ميليشيات بدر "هادي العامري" في أغسطس 2016، الذي أكد خلاله أن "قوات الحشد أصبحت أقوى من الجيش العراقي". وسيكون إقدام الحكومة العراقية على اتخاذ تلك الخطوة في حال قررت ذلك أمرًا منطقيًّا، على اعتبار أن هدف تواجد تلك القوات انتفى بانتهاء تنظيم داعش من البلاد. ب- إيجاد حل لما يُعرف بقوات "الحشد الوطني" عبر التفاوض مع القائمين عليها، سواء بحلها أو إدماجها في المنظومة الأمنية الخاصة بمدينة الموصل، بما يقطع الطريق أمام تركيا لاستغلال وتوظيف تلك القوات في مواجهة الدولة العراقية مثلما حدث من قبل. ويُشار في هذا السياق إلى أن تلك القوى تستحضر في أذهانها دائمًا تجربة الصحوات التي استهدفها نظام رئيس الوزراء السابق "نوري المالكي"، وقطع رواتبهم والضيق الذي وقع عليهم في الماضي. مستقبل غامض: رغم توحّد معظم القوى العراقية المختلفة (الجيش، والحشد الشعبي، والبشمركة، والحشد العشائري) في مواجهة الخطر المشترك المتمثل في تنظيم داعش في معركة الموصل؛ إلا أنه ومع زوال هذا العدو، برزت الأجندات المتناقضة مع بعضها بعضًا، وهو ما يُنذر بحدوث صراعات بينية عراقية خلال الفترة المقبلة، تؤدي إلى غموض المستقبل السياسي والإداري للمدن المحررة من قبضة تنظيم داعش في العراق، في ضوء عدم وجود ضمانات تكفل ضمان استقرار تلك المدن. ومع من أهمية تركيز الحكومة العراقية على معالجة الأزمات العارضة التي خلفها تنظيم داعش، خاصة الإنسانية منها؛ إلا أن ذلك سيكفل استقرار العراق على المديين القصير والمتوسط فقط، لكن التركيز على تفكيك الأزمات الهيكلية سيضمن استقرار البلاد على المدى الطويل، وسيعالج أزمة عدم الثقة بين المكونات العراقية. ختامًا، يُمكن القول إن الدولة العراقية مع النجاح في القضاء على تنظيم داعش لا تزال تواجه أزمات معقدة ومتشابكة، خاصة وأن البيئة لا تزال خصبة لإعادة إنتاج أجيال جديدة من الإرهاب. فعلى الرغم من القضاء على هيكله التنظيمي؛ إلا أن أفكاره الإرهابية لا تزال موجودة، وبإمكانها التطور مع الوقت للظهور في مسميات وأشكال عسكرية جديدة، ويدلل على ذلك تجارب الإرهاب السابقة في العراق. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة