يعيشُ المغرب حروبا كثيرةً أخطر من الحروب العسكرية، التي يكون العدو فيها معروفا، وأخطر ما في هذه الحروب هو مفارقاتها الصارخة التي تسْتعْصي على "الفهم" كما قال الملك محمد السادس في خطاب العرش بمناسبة الذكرى 18 لتَسلُّمه حُكم المغرب. يمكن تِعْداد أمثلة من هذه الحروب التي يشُنُّها أعداء الداخل من المسْؤولين الفاسدين في مختلف المجالات، والعُنْوان الكبير لهذه الحروب "الفساد الشامل" الذي تفوحُ روائحة الكريهة في كل المجالات، وقد أصْبح الفساد في وطني ككرة ثلج كلما تدحرجت إلا وزاد حجمها وكبرت مساحات نفوذها وحروبها. أشدُّها خطورةً هي الحروب السياسية التي حولت السياسة في المغرب إلى مُرادِفٍ للفساد واللُّصوصية والنّهْب وسرقة المال العام وخيانة الأمانة، والركوب على الأحداث الدولية والوطنية لجني المكتسبات الباردة، ودفن الرؤوس في باحة القصر الملكي، عند الشدائد والأزمات. وهذا لا يعني تبرئة الكثير من المواطنين وإسهامهم في الفساد، فالذين يقدمون الرشاوى مواطنون، والذين يتبولون على جدران الوطن وأشجاره مواطنون، والذين يقودون الشاحنات والحافلات والسيارات والدراجات بسُرْعة جنونية تُنْتج حرب الطرقات مواطنون، والذين يسرقون ممتلكات المرافق العمومية كأفرشة المستشفيات مواطنون، والذين يخربون كراسي وأعمدة إنارة الحدائق والشوارع مواطنون، والذين يُشْهرون سيوفهم في وجوه المغاربة هم أبناء هذا الوطن، والذين يحتكرون البضائع ويتلاعبون بالأسعار مواطنون، لكننا في هذا المقال سنُسلِّطُ الضوء على فساد المسؤولين، الذي أدى إلى غياب المراقبة والمحاسبة وأصبح حاميها حراميها وتحوّل الفساد إلى شريعة وسياسة. الافتراس سياسة وشريعة الذئاب: معظم الأحزاب السياسية أصبحت مقاولات سياسية تشتغل بمنطق تجنب الخسارة والبحث عن الربح بكل الطرق، بما فيها لأساليب الملوثة والإفراط في الكذب السياسي، لتحقيق الغايات الدنيئة تحت شعار "الغاية تُبرر الوسيلة"، وهذا أفضى إلى احتكار الممارسة السياسية من طرف شرذمة من الذئاب الذين تمرسوا على الخداع، ذئابٌ سقطت أقنعتهم، والمكان اللائق للكثير منهم هو السجن مع تجريدهم من ممتلكاتهم التي راكموها ضمن مناصبهم في الحكومة والبرلمان والجماعات الحضرية والقروية وباقي مؤسسات الدولة. لكل حرب خسائر راهنة ومستقبلية، وخسائر الفساد السياسي تتمظهرُ في فقدان جل المغاربة الثقة في السياسة والسياسيين الذين خانوا الوطن والمواطنين بتفريطهم في الأمانة، وعدم قيامهم بمسؤولياتهم في خدمة المصلحة العامة، وتضييعهم لحقوق المواطنين بعدم أدائهم لواجباتهم، وأبسط مثال هو اختفاء هؤلاء الساسة من الحياة اليومية للشعب المغربي وتركه أعْزلا يُواجه مشاكله المتنوعة، بلا حماية ولا سند ولا تأطير ولا متابعة. الفاجعة هي ذوبان التواصل الجميل لسِياسِيينا بعد حرارة الانتخابات.. تواصلُ ساساتنا معنا يكون مرنا ومعسولا قبيل الانتخابات.. يتخلَّلُهُ العناق والقُبل والوفاق، حيث تجدهم في الجوامع والشوارع والمقاهي والأحياء الشعبية.. يرتدون ملابس بسيطة ويتبادلون التّحايا بابتسامات ثعلبية مع الجميع، ويُقبِّلون أيادي الشيوخ والعجائز والأطفال.. يستمعون إلى المواطنين بصبر جميل.. وغداة الانتخابات ذاب القناع.. باختصار أحزابنا السياسية فقدت مصداقيتها. الإدارات رشوة محسوبية لامبالاة وإهانات: حرب أخرى خطيرة هي حرب الإدارات، وفي اعتقادي لو أن الإدارة المغربية تتوفر على خدمات إلكترونية متنوعة على غرار الشباك الإلكتروني في الأبناك، لما التقى الكثير من المواطنين مع معظم الموظفين الإداريين، والسبب بديهي يكمن في استفحال كل مظاهر الفساد في إداراتنا من رشوة ومحسوبية ولامبالاة وإهانات، ويبقى غياب التواصل الناجع مع المواطنين قاسما مشتركا بين كل القطاعات. مكافأة أم مكافحة الفساد؟ الجواب لا يحتاج إلى ممارسة التفكير، منذ الاستقلال والمغرب يتبع سياسة مكافأة الفساد ومكافحة من يحاربونه، وفضيحة خدام الدولة ليست ببعيدة، فعلا المسألة تستعصي على الفهم، لم أتصور أبدا أن تشكيلة الحكومة ستضم أناسا أجمعت العديد من المنابر الإعلامية الوطنية النزيهة والهيآت الحقوقية على استفادتهم بغير حق قانوني على أراضي باهظة الثمن بأسعار رمزية، وغيرها منالامتيازات الريعية التي يستفيد منها الملقبون ب "خدام الدولة". أن تفضح الفساد في المغرب معناه أن تصبح مُشاغِبا في نظر "السلطة\المخزن" وأن تتمادى في فضح الفساد بالأرقام والوثائق فهذا مسلك نهايته غير محمودة العواقب، سيما إذا اقترنت عملية الفضح باحتجاجات تُندّد بسرقة المال العام وتُطالب بمحاسبة المسؤولين الفاسدين. لماذا؟؟ لأن الفساد الذي انطلق وحشا صغيرا مع بداية الاستقلال، أصبح وحشا عملاقا وغولا أخطبوطيا تمتدُّ أذرعه عميقة في كل مناحي الحياة، فساد له أعينه وآذانه ومخالبه وسدنته وحماته ورعاته، وكلما احتج المغاربة ضد الفساد إلا ورفع المستفيدون من بقائه وإعادة إنتاجه، شعار تخوين المحتجين ونعتهم بالانفصاليين والأوباش والفوضويين والعابثين باسقرار الوطن وأمن المواطنين، في حين أن الحفاظ على أمن الوطن والسلم الاجتماعي يتطلب توفير شروطه المتمثِّلة في سيادة القانون والتوزيع العادل للثروات وبناء دولة المؤسسات والاستحقاقات لا دولة الأشخاص والولاءات. ونتيجة حماية الفساد هي اليأس من إمكانية محاربته، وبناء مغربي ديمقراطي، تسوده المساواة والعدالة الاجتماعية، واليأس هو بوابة التشاؤم والعبثية ورواج الأفكار العدمية، التي أدت إلى تفشّي حرب المخدرات، التي تفتك بالقاصرين والشباب المغاربة، ويمكن الجزم بأن أكثر من 50% من شبابنا مدمن على كل أنواع المخدرات، بما فيها الأقراص المهلوسة، والرقم ليس مجرد عدد، بل هو مواطنون مغاربة، بشر من لحم ودم تفتك بهم المخدرات وتُعجل بخروجهم من المؤسسات التعليمية، ودخولهم عالم الجريمة والمؤسسات السجنية، وما يرافقها من تمرٌّس على العنف والسرقة وترويع قتل للمواطنين الأبرياء. إدمان المخدرات رافقته حرب اغتصاب وقتل الأطفال، وآخر ضحية هي طفلة مدينة صفرو ذات الست سنوات والتي بتر المعتدي الهمجي أطرافها بعدما اغتصبها أو اغتصبوها، والمؤكد أن الذين يقترفون هذا الجُرم الوحشي يكونون في حالة تخدير، والتحقيقات الأمنية تؤكد أن أغلب مغتصبي الأطفال هم مدمنو مخدرات ومرضى نفسيين. هذا يجرنا إلى الحديث عن فساد قطاع الصحة الذي ازداد استفحالا بل إن العديد من المراقبين يعتبرونه القطرة التي أفاضت كأس الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، بسبب السياسة الصحية الفاشلة للوزير الحسين الوردي، وما يتجرعه المرضى من آلام الإهمال في المستشفيات المغربية، إذا ما كانوا محظوظين وظفروا بسرير في أجنحتها المكسورة، وبالتالي فإن تواجده في ولاية وزارية ثانية على رأس قطاع الصحة علما أنه لم ينتشل قطاع الصحة من نكباته لم يلق استحسانا حتى من شغيلة الصحة، والسبب عدم التواصل الحقيقي مع مختلف الفاعلين والمهتمين بالصحة، وخير مثال قضية بويا عمر حيث اقترحنا إنشاء كلية للطب النفسي والعقلي في المنطقة، لكن كلامنا كان صرخة في واد، واليوم ينتشر المجانين والمضطربون نفسيا وعقليا في كل المدن المغربية في مشاهد تدمي القلب وهم يقتاتون من حاويات القمامة. يا نار كوني بردا وسلاما: عندما يحتج المواطن فهو يحتج ضد الحرائق التي تذله وتدوس كرامته فتشتعل نيران رفض الاحتقار بدواخله، وقد يعبر عنها بإضرام النار في جسده كما فعلت بائعة البغرير "مي فتيحة" التي أضرمت النار في جسدها احتجاجا على إهانة كرامتها بعدما هددها القائد بدوسها بسيارة الوظيفة العمومية، التي من المفترض أن تكون سيارة لتسريع خدمة المواطنين. وإذا كان الفساد الشامل في المغرب أصبح جحيما جعل المغاربة يفقدون الثقة والمصداقية في الحكومة والأحزاب والنقابات..، فان الأمل في المؤسسة الملكية لتطهير المغرب من الفساد والمفسدين وحماية المغاربة من سنوات جمر ورصاص جديدة، وحلّ الحكومة إن اقتضى الحال، والسماح بتأسيس أحزاب شبابية جديدة على غرار النموذج الماكروني الفرنسي. ختاما الحاجة ملحة لعمل المجتمع المدني وتأطيره وتواصله مع الشباب، أقولها بصوت واضح الكثير من الشباب ضائعون في وحل المخدرات، وكميات المخدرات التي يحتجزنها الأمن والدرك هي رأس جبل الجليد، وما خفي أعظم وأخطر، وهذا يُهدد مستقبل جودة التعليم في المغرب وتغوُّل ظاهرة الغش والهدر المدرسي واحتقار المعرفة والعلم والاستخفاف بمنظومة القيم، وتبني نمط وأسلوب حياة يقوم على العبث وركوب السهل. محاربة الفساد ترتبط ارتباطا وثيقا بجرأة الإعلام المستقل الذي يفضح كل الأعطاب والاختلالات، مما يجعل الإعلام الحر أهم مؤشر للديمقراطية، إعلام شجاع ينقل بصدق دون تحامل أو تساهل الواقع بما يحفل به من تناقضات، فالكثير من المغاربة يتجرعون مرارة الفقر، شيوخ يكدحون في خريف العمر، فتيات يتعاطين الدعارة لإعالة أسرهم، محسوبية ورشوى في سوق الشغل.. الإعلام الجاد ليست وظيفته رمي الورود وتضليل الرأي العام، بل فضح الفساد قبل حدوث الكارثة، باعتماد مقاربة "النقد البناء" والنظرة البعيدة إلى التحديات المستقبلية، وما سيعرفه العالم من حروب على الموارد المائية والموارد الطبيعية أمام الارتفاع المُهْوِل لسكان الكوكب الأرضي. وإذا كانت المفارقات الصارخة في المغرب تستعصي على "الفهم" فهذا نداء من الملك محمد السادس إلى الأكاديميين والباحثين في العلوم الإنسانية لإجراء البحوث واستطلاعات الرأي، وتقديمها للمؤسسة الملكية والحكومة، وعرضها في الندوات الصحفية والمحاضرات والمؤسسات التعليمية وكل من يهمه الأمر، مع نشر ثقافة الأمل لا الوهم.. الأمل بإمكانية مكافحة لا مكافأة الفساد، والأمل الواقعي يتجسّدُ في نزاهة القضاء، من خلال محاسبة المتورطين في ملفات الفساد في إطار ربط المحاسبة بالمسؤولية، قبل أن تصبح الكلمات مجرد مسكوكات لُغوية فاقدة للمصداقية ورمزا من رموز الفساد.