بدا حفل التوقيع على اتفاقيتين تتعلقان بمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب وبالتعاون المغربي-النيجيري في مجال الأسمدة، يوم الاثنين 15 ماي 2017 بالقصر الملكي بالرباط، كغيره من المراسيم التي لها أهميتها على الأجندة الملكية، فيحضرها ملك البلاد ويشهدُ تفاصيلها بصفته الممثل الأسمى للدولة الساهر على احترام التعهدات الدولية للمملكة وفق منطوق دستور 2011. بَيْدَ أنَ منْ يُدقق في تفاصيلِ الحدث، الذي يمكنُ تصنيفه بالتاريخي لحمولته الاستراتيجية وسَبْقِه النوعي في العلاقات بين المغرب وبين عملاق إفريقيا نيجيريا، يستشفُ أن قصر الرباط كان على موعد مع تحول رمزي في البروتوكولات الرسمية التي تجري عادة في رحابه، تحولٌ جاء في سياق توجيه بوصلة الإستراتيجية الملكية في شق السياسة الخارجية للمغرب نحو إفريقيا، وفي ظل اهتمام متزايد للمملكة بدول إفريقيا الأنجلوساكسونية لثقل دورها الإقليمي وتَفردُ أنظمتها الاقتصادية وامتدادها الدولي. التحول الرمزي جسده الحضور الطاغي للإنجليزية طيلة ساعة من الزمن على مراسيم الاتفاقيتين الهامتين، مع حضور محتشم للعربية في تقديم مدير التشريفات الملكية والأوسمة لفقرات الحفل. الثابت أنه ليس من الاعتباطي في البروتوكولات الملكية الخروج عن عرف معين أو التأسيس لآخر جديد غير معهود؛ ذلك أن تِيمات أي حدث رسمي لأي نظام عريق في العالم لها دلالاتها الخاصة، يتم اختيارها بعناية فائقة لتبعثَ من خلالها إشارات ورسائل إلى المحيط الإقليمي والدولي تختلف بحسب اختلاف مصوغاتها وتوقيت بثها. لعل بعض الاجتهاد يقول بأن الأمر بديهي ما دام ضيف القصر الملكي– نيجيريا –دولة أنجلوساكسونية بامتياز، لها حظوتها القارية وخلفياتها الثقافية والتاريخية، لكنَّ الرجوع لأمثلة مطابقة لا تقل أهمية عن المثال الجاري تحليلُه يدحض هذا الاجتهاد. ففي سبتمبر من سنة 2016 ترأس ملك البلاد بقصر مرشان بطنجة حفل التوقيع على بروتوكول اتفاق بشأن إحداث منظومة صناعية لمجموعة "بوينغ" بالمغرب، وبالرغم من أن مداخلة رايموند كونر، رئيس بوينغ الأمريكية للطائرات التجارية، كانت بالإنجليزية، إلا أن الشريط المؤسساتي كان بالعربية، بينما جاءت مداخلة مولاي حفيظ العلمي، وزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، بالفرنسية. ولم يختلف عنه حفل تقديم مشروع إحداث "مدينة محمد السادس طنجة- تيك" في مارس الماضي في شيء سوى مداخلة لي بياو، رئيس مجموعة "هيتي" الصينية، التي جاءت بلغته الأم. ولئن كان كثيرون يروْنَ مراسيم 15 ماي الماضي مثلها مثل سائر المراسيم الملكية، فإنها أتت بحمولات متعددة الدلالات. فأن يكونَ قصر عاصمة المملكة، بحمولاته الرمزية والسيادية، دون غيره من الفضاءات الخارجية الأخرى، محتضناً لحدث سيُحدد مستقبل القارة ويبني جسور شراكة اقتصادية طموحة، فتلك دلالة سياسية وإشارة ملكية لا يمكن إغفالهما. وأن يُقَدم شريطان مؤسساتيان عن مشروع أنبوب الغاز والمشروع الذي يهم الأسمدة، على التوالي، بالإنجليزية، وباقي العروض المستفيضة الأخرى بلغة شكسبير، فذلك مُحدد ذو بعد علائقي بامتياز على تمكنِ المملكة تواصلياً وثراء منظومتها الثقافية وإرثها الحضاري. كما أن في مداخلة الجانب المغربي، ممثلاً في شخصيتين من كبار المسؤولين بالبلاد، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، ناصر بوريطة، والمدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، المصطفى التراب، بالإنجليزية، إشارة إلى المحيط الإقليمي على الخصوص على علو كعب السياسة الخارجية للمملكة، دبلوماسياً واقتصادياً، وقدرتها على التكيف مع تغيرات مناخ السياسات الدولية المنعكسة على العلاقات بين الدول. ولا يمكنُ أن نتطرق لدلالات المراسيم ذاتها التي احتضنها القصر الملكي بالرباط في ماي الماضي في معزل عن نهج المملكة الجديد في سياستها الخارجية المنبني على استقلالية القرار والحق في تنويع الشركاء الاستراتيجيين صوناً لمصالحها، ومن ذلك ما جاء في كلمة الملك محمد السادس أمام القمة المغربية الخليجية في 20 أبريل 2016: "(...) فالمغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد. وسيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم". لاشك في أن القائمين على البروتوكول الملكي، وهم المتمرسون الدارسون لاستراتيجيات التواصل وقوة الرمز، اختاروا التوقيت المناسب للتأسيس لعُرف جديد، وهو عُرفُ الانفتاحِ على المجال الأنجلوساكسوني، مع الزيارات المكوكية التي قادت ملك البلاد إلى دول شرق إفريقيا، وعودة المملكة إلى منظومة الاتحاد الإفريقي، وسعيها إلى أن تكون فاعلاً مؤثرا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا "الإيكواس"، وتأكيداً لطموح الدبلوماسية الملكية في تطوير العلاقات الاقتصادية بالأساس مع دول القارة السمراء المختلفة باعتبارها مفتاحاً للريادة القارية، وحماية لمصالح المغرب وقضاياه الوطنية، وعلى رأسها الصحراء المغربية. أن تُصبحَ الإنجليزية جزء من منظومة البروتوكول الملكي، تُبث على القنوات العمومية ويَسهل نقلها على وسائل إعلام أنجلوساكسونية فتُكسر بذلك الحاجز اللغوي الذي لطالما سببته الفرنسية، الآخذة في التراجع والمحدودة في نطاقات ضيقة معينة، فتلك ظاهرة محمودة تُعيد إلى الصورة الخارجية للمغرب أَلَقها وتقطعُ مع سنوات من الخفوت الإعلامي على المستوى الدولي كلفَ ملفات المملكة الكثير بسبب ثغرة التواصل، على أملِ أنْ تحظى لغةُ العلم والمؤسسات الدولية بالأهمية التي تليق بها في باقي المنظومات الرسمية في البلاد. *مترجم وكاتب باحث [email protected] https://www.facebook.com/mido.mouad