بعد انتصار الجيش العراقي في معركة الموصل، طغت المشاهد الاحتفالية في العراق ووسائل الإعلام العالمية تتحدث عن نهاية تنظيم "داعش" المحتملة وانقشاع غيومه من سماء العراق، وقرب موعد الحسم العسكري في مدينة الرقة السورية، لينتهي بذلك، حسب وسائل الإعلام، فصل دموي من تاريخ المنطقة العربية، تمكن فيها التنظيم الإرهابي من إحكام قبضته على مناطق شاسعة من العراق وسورية، دون أن يستطيع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولأسباب غير معلومة، من القضاء عليه، فظل يهدد سلامة وأمن المنطقة ويستبيح أراضيها ويؤسس لدولة الخلافة الوهم إلى أن استنفدت بعض أسباب وجود التنظيم، وانتهى فصل من لعبته الوظيفية الهادفة أساسا إلى تشتيت المنطقة وفرض شكل جديد من النزاعات المسلحة عبر كيانات غير دولتية أو ما يسمى الحرب اللامتماثلة بين جيوش نظامية تخضع لقانون الحرب والسلم، ولا تستطيع معرفة العدو وشروط تكوينه وهياكله وامتداداته، وقوات داعش التي تتبنى حرب الشوارع والعصابات. غير أن العديد من الأسئلة تطرح بشأن مستقبل التنظيم وعلاقته بما يحصل في المنطقة من صراعات إثنية وطائفية، وخاصة أن تحرير الموصل من قبضة داعش الذي احتلها منذ العام 2014 لا تعني نهاية الصراع في العراق، طالما أن الأسس القبلية والعشائرية المنذرة بالتنافر والصراع موجودة، وما فتئت تتأجج مع إعطاء المليشيات الشيعية الضوء الأخضر للتنكيل بالعراقيين السنة بدعم من الحكومة العراقية الفاقدة للسيادة، والتي جعلت من بلاد الرافدين مقاطعة فارسية خالصة. فهل يرتبط تنظيم داعش بمشاريع التقسيم في المنطقة؟ وماهي السيناريوهات المحتملة لبقاء التنظيم وتغيير إستراتيجيته وتكتيكاته؟ وهل يمكن الحديث عن إنهاء فصل واحد من دور داعش وبداية فصل آخر بتواطؤ مع قوى دولية وإقليمية؟ وما هي المقاربات المحتملة لمواجهة الإرهاب في المنطقة، وبالتالي الحيلولة دون السقوط في مخططات سايس بيكو جديدة يكون هدفها إعادة هيكلة وترتيب أوراق المنطقة من الناحية الجيوسياسية أو السماح لتنظيم جديد بالظهور يحقق غايات أخرى؟. داعش والمشهد الجيوسياسي المعقد ان المشهد الجيوسياسي المعقد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يجعل من ظاهرة تنظيم الدولة مركبة ومتشابكة، لأنه من جهة استطاع أن يختط لنفسه نهجا إيديولوجيا جديدا بخلاف تنظيم القاعدة الذي كان يراهن على ضرب العدو البعيد ومواجهة الغرب الكافر، في حين اختار داعش التمدد جغرافيا في الرقعة العربية وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية بالمفهوم العام، واستعمال كل أدوات الفتك والوحشية ضد المسلمين أنفسهم؛ الأمر الذي رسخ متلازمة العنف/ الإسلام في الذهنية الغربية، مع إلصاق الإرهاب بالمسلمين دون غيرهم. وقد استغل التنظيم لتثبيث أركانه حالة الفوضى والتشتت في المنطقة والخلافات الطائفية والعرقية والدينية والصراع السني الشيعي المحتدم منذ فترة، وتدخل إيران في العديد من دول المنطقة العربية عن طريق الحرب بالوساطة أو الوكالة. كما ينظر إلى داعش باعتباره تنظيما يحظى أيضا بحاضنة شعبية سنية في العراق، في مواجهة المليشيات الشيعية التي تتقاسم الصلاحيات العسكرية والسياسية مع بغداد، والتي تحمل مشروعا طائفيا يحض على الكراهية ويكرس التفرقة الطائفية. يعتقد البعض أن التنظيم في مرحلة النهاية أو الأفول، اعتبارا لفقدانه السيطرة على الموصل في العراق لصالح القوات العرقية والكردية والمليشيات الشيعية المدعومة من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران وشركائها من حلف الناتو. وبينما لازال الأمر غير واضح في العراق مع بقاء جيوب المقاومة من داعش واستمرار تهديدها لأراضيه، فإن تطور القتال في سوريا ضد التنظيم مازال بطيئا، إذ تركز قوات الأسد بمساعدة روسيا على إقصاء المعارضة، بينما تضع داعش في المرتبة الثانية من أولوياتها. كما أن المواجهات بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية الكردية (SDF)المدعومة من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، ساهمت في تعقيد المواجهة؛ ومع ذلك فإن داعش يتراجع تدريجيا نحو الرقة معقله الأساسي. وحسب بعض التقديرات، يظهر بوضوح أن التنظيم قد يخسر، في غضون 9 إلى 15 شهرا، سيطرته على معظم مجاله الجغرافي، ما يرجح لدى البعض فرضية هزيمة التنظيم وشل حركيته وانتهاء وجود. لكن العديد من المؤشرات لا تؤكد هذا الطرح، على اعتبار أن الموضوع له أبعاد جيوسياسية عميقة تتعلق بإعادة ترتيب الأوراق الطائفية في المنطقة العربية، وتوجيه سفينة الدول نحو خيارات التقسيم التي تخدم أهداف الأنساق الدولية والمصالح الغربية، كما هو حاصل في العراقوسوريا واليمن. مقومات الدولة الوهمية وهمجية الميلشيات يمكن اعتبار أن سمة الدولة التصقت بالتنظيم رغم عدم توفر الشروط القانونية لوجودها، وأهمها شرط الاعتراف الدولي. لكن هذا الكيان غير الدولتي استطاع في فترة وجيزة أن يحتكر بعض صلاحيات الدول من خلال خمس ملامح أساسية : أولا: السيطرة على أراضي جغرافية شاسعة بحدود واقعية وليست قانونية، وممارسة أدوار واختصاصات الحكومات، من إصدار جوازات السفر وجمع الضرائب وتنظيم القوات العسكرية وتقديم الخدمات العامة للمواطنين. ورغم الارتجال والعشوائية في إنجاز المهام لكنها تنجزها على كل حال. ثانيا: يعتبر داعش تنظيميا جهاديا دوليا له العديد من الفروع والتظيمات التابعة له في أكثر من 50 بلدا من مختلف مناطق العالم. وجل هذه التنظيمات أعلنت ولاءها وبيعتها لأبوبكر البغدادي الذي لازال الغموض يلف مصيره بعدما تناقلت بعض وسائل الاعلام خبر وفاته. كما توجد العديد من الجماعات المتطرفة التي تعلن ولاءها للتنظيم، ولكن لا تحظى باعتراف من قبل داعش، شأنها شأن العديد من الذئاب المنفردة التي تعلن هي أيضا ولاءها للبغدادي. ومنذ 2014 قام التنظيم بفروعه والمنتسبين له ب143 عملية إرهابية في 29 بلدا، خلفت مقتل قرابة 2043 شخصا. ثالثا: داعش جماعة مقاتلة قامت بالعديد من العمليات الإرهابية المباشرة في كل من العراقوسوريا، أو عبر فروعها في مناطق أخرى، أهمها تتظيم أبوسياف في الفلبين، بوكو حرام في نيجيريا، وفصيل الشباب المجاهدين في الصومال، وحركة أنصار الشريعة في ليبيا، وفروع أخرى كسرايا القدس في سيناء في مصر، وتنظيمات موالية في باكستان وأفغانستان. رابعا: يعتبر داعش منظمة إجرامية دولية عملت على تهريب النفط والأثار القديمة وبيعها خارج حدود النطاق الجغرافي الواقع تحت سيطرتها، كما باشرت العديد من الاختطافات للحصول على فديات في شكل مبالغ مالية ضخمة. وتورط داعش في الفترة الأخيرة في الاتجار الدولي بالمخدرات في أوربا انطلاق من الصحراء نحو البلقان في اتجاه أوربا؛ وتقدر أرباحه حسب بعض التقارير ببلايين الدولارات. وحسب التقارير نفسها فإن داعش يوفر الحماية لمهربي وتجار المخدرات، كما كان الأمر بالنسبة لطالبان الذي شجع تجارة المخدرات في أفغانستان. ومقابل الخسائر الكبيرة التي مني بها التنظيم من جراء فقدانه السيطرة على الأرض وعلى المداخيل المالية، يركز داعش على القيام بأنشطة إجرامية تشكل مصادر دخل قوية للتنظيم. خامسا: لازال تنظيم داعش يتوفر نسبيا على إيديولوجية جاذبة، ويرجع الأمر الى الوسائل الدعائية القوية التي يستعملها والاستغلال الجيد لوسائل التواصل الاجتماعي في التأطير والتجنيد الإلكتروني، ودورها في تعبئة وتمويل الأنشطة الإرهابية عبر ما يسمى العملات الافتراضية (virtual currencies) رغم عدم قانونيتها. كما يتحمل إعلام داعش المسؤولية في تطرف العديد من الذئاب المنفردة في أوربا وأمريكا الشمالية. وستواصل الآلة الإعلامية لداعش نشاطها في استقطاب الأفراد رغم وفاة العديد من دعاة التنظيم، كاليمني الأمريكي أنور العولقي الذي قتل بواسطة طائرة أمريكية بدون طيار سنة 2011، والذي ألهبت وألهمت خطبه العديد من المتطرفين حتى بعد وفاته. نهاية فصل من الصراع وليس المعركة إن انهيار حلم دولة الخلافة الإسلامية لدى داعش وتلاشي إمكانية استمرارها على مساحة جغرافية كبيرة وساكنة تتراوح ما بين 5 و6 ملايين نسمة في العراقوسوريا وحدود تماس مع إيران وحدود تصلها بالواجهة المتوسطية، ستكون له العديد من الانعكاسات السلبية على وجود التنظيم الإرهابي، سواء تعلق الأمر بانهيار الفكرة أو الإيديولوجية الجاذبة التي جمعت حولها العديد من المتعاطفين من مختلف أنحاء العالم، ذلك أن الحدود الجغرافية للتنظيم سوف تختفي، ما يحرمه من العمق الجغرافي الذي يسمح له بالمناورة عسكريا وتبني خطط إستراتيجية على المدى البعيد وانهيار مصادر الدخل والتمويل الناتجة عن احتكاره للعديد من آبار نفط العراقوسوريا، ومن الضرائب التي يفرضها على الناس، ما قد ينعكس أيضا على مدى ارتباط العديد من التنظيمات به، والتي كانت قد أعلنت سابقا ولاءها للتنظيم. لكن رغم قرب نهاية أحد المرتكزات الفكرية التي قام عليها تنظيم الدولة، وهو فكرة مركزية دولة الخلافة وتكفير كل الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، فإنه من المرجح أن التنظيم -الذي دمر الموصل عن آخرها وقضى على كل معالم الحضارة في بلاد الرافدين وسوريا، وأحدثث المواجهات ضده خرابا ودمارا بنيويا يحتاج إلى سنوات طويلة للإعمار قدرت بملايير الدولارات- له قدرات كبيرة على التكيف مع الواقع الجديد، وخسارته للأراضي في العراقوسوريا قد تدفع التنظيم إلى استلهام طرق جديدة لتنفيذ عملياته الإرهابية في هذين البلدين، وكذا في مختلف أنحاء العالم. وعلى هذا الأساس فإن الفصل الأول من الصراع ضد التنظيم قد انتهى بعدما ساهم في بعثرة الأوراق الجيوسياسية في المنطقة وفتح المجال للصراع السني-السني والسني-الشيعي، وبعدما تحولت الإستراتيجية الدولية لمحاربة الإرهاب إلى الذريعة الحقيقية للتدخلات الإقليمية المتكررة من قبل القوى الدولية والإقليمية المختلفة. ومن المرجح أنه بعد القضاء على "داعش" في الموصل، فإن العديد من المواجهات والخلافات مرشحة للانفجار، وتتجلى في الصراع بين القوات العراقية وأكراد العراق، إذ لازالت القوات العراقية تتذكر أنها بعد هزيمتها من داعش سنة 2014 استغل الأكراد الفرصة للتمدد جغرافيا في مناطق كانت تشكل موضوع صراع مع العرب الذين ينتابهم الإحساس بالغبن والرغبة في استرجاع ما ضاع منهم من مواقع إستراتيجية سيطر عليها الأكراد الذين يستعدون لاستفتاء حاسم قريبا سوف يفصلهم بشكل شبه تام عن الدولة المركزية في بغداد، باعتبار الصلاحيات الواسعة لحكومة كردستان واستقلالها عن القرار السياسي العراقي واستغلالها للثروات النفطية، إضافة إلى الصراع الشيعي-السني بوجود مليشيات شيعية تحرض على قتل السنة وإبادتهم، وعلى رأسها الحشد الشعبي الذي يعتبر أداة تنفيذية في يد إيران. ويراد من هذا الصراع الجديد تغيير الوجه الديمغرافي للمنطقة من خلال تهجير العراقيين السنة وطردهم من مناطقهم الأصلية. أما في سوريا فإن الوضع أكثر تعقيدا، حيث يسود الصراع بين قوات الأسد والقوات التركية والأكراد على المناطق التي تراجعت عنها داعش، إذ استرجعت القوات التركية وحلفاؤها منطقة الباب شمال مدينة حلب من قبضة التنظيم. وتم استرجاع منبج أيضا من قبل قوات وحدات حماية الشعب الكردي السورية المدعومة من الحليف الأمريكي، ما ينذر بصراع تركي- كردي في شمال سوريا بسبب رفض أنقرة تأسيس دولة كردية في المنطقة. ولهذا يبدو أن مشهد التحالفات لازال غامضا. ويتوقع أن تكشف معركة الرقة بقية المخططات في المنطقة، ومدى ثبات الموقف الأمريكي من استمرار دعم قوات وحدات حماية الشعب الكردي وتقديم التغطية الجوية لدعم التقدم البري للأكراد، أم أن ترامب قد يتخذ موقفا متوافقا مع تركيا في إطار التحالفات الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط. في ظل الغموض الذي يشوب المواقف الدولية وتناقض مصالح وأجندة الدول الغربية وغيرها من الفاعلين الإقليميين، يصعب الجزم بنهاية الحروب في العراقوسوريا التي اندلعت منذ 2003 ونهاية تنظيم الدولة. في الحقيقة هي نهاية حلقة أو فصل من الصراع، فالحكومة العراقية حكومة فاسدة وطائفية، ولن ينعم العراق بالأمن والاستقرار مع وجود دولة طائفية ومليشيات عسكرية موازية ونزوعات قبلية متناحرة. كما أن الانتصار في الموصل لم يتحقق إلا بفضل دعم القوات الأمريكية وليس بفضل القوات العراقية فحسب. والمعطى نفسه ينطبق على قوات الأسد التي تمكنت من دحر المعارضة واستعادة شرق حلب بفضل الضربات الجوية الروسية. كما أن التنسيق الأمريكي الروسي الذي تعزز منذ إدارة أوباما، لم يعرف تغييرا كبيرا مع ترامب. يمكن اعتبار تنظيم الدولة مكونا أساسيا من مكونات الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويساهم في إضعاف بنيات الدول الوطنية وإحياء النعرات الطائفية واستمرار النزاعات المسلحة اللامتناهية، والحروب الأهلية، وأيضا يساهم في تغيير الحدود الجغرافية والتركيبة الديمغرافية والواقع الجيوسياسي في المنطقة العربية؛ وقد تشكل هزيمته في العراق نقطة تحول مفصلية في اتجاه المرور الى إستراتيجية الضربات الخاطفة وترويع الناس عبر القيام بعمليات إرهابية في المنطقة وفي أوربا وتركيا وباقي أنحاء العالم والمراهنة على التسويق الإعلامي للبقاء على قيد الحياة والتدافع نحو التجنيد الإلكتروني، واعتماد حرب العصابات والجريمة المنظمة التي تنفلت من عقال المراقبة الأمنية الدولية، والتركيز على نشاط الخلايا وفروع التنظيم المنتشرة في كل أنحاء العالم. كما أن مستقبل وجود التنظيم مرتبط بالترتيبات السياسية والأمنية المقترحة من قبل الدول الكبرى وحلفائها، فواشنطن مثلا تتوقع استمرارها عسكريا في سوريا لأطول فترة ممكنة حتى بعد نهاية معركة الرقة، ما يفيد بأن تنظيم الدولة سيواصل الفصل الثاني من الصراع والمواجهة ضد الدول المحاربة للإرهاب بأشكال وأساليب مختلفة. لا شك أن من أبرز التحديات التي تواجهها الدول في مواجهة داعش تكمن في عودة المتطرفين المنتمين إلى التنظيم إلى بلدانهم الأصلية، ما يشكل خطرا محدقا على أمن واستقرار هذه البلدان، الأمر الذي يتطلب تبني إستراتيجية فاعلة تزاوج بين المقاربات الأمنية-القانونية والمجتمعية للحد من تأثيرهم على النسيج السياسي والاجتماعي لبدان الاستقبال. *خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية