تنويه أود أن أذكّر من يهمه أمر الوطن المغربي، شعبا وأرضا وأمجادا ورموزا، من خلال سلسلة هذه المقالات ببعض الوقائع والأحداث التي رسمت جوانب من العلاقات بين المخزن أو السلطة أو الحكومة أو الدولة (أسماء متعددة لمسمى واحد) مع منطقة الريف وساكنته بصفة خاصة، وساكنة منطقة الشمال بصفة عامة، منذ بداية حركة مقاومة الغزو الاستعماري التي انطلقت مع حركة محمد الشريف أمزيان في 1909 في الريف الشرقي، وحرب التحرير الكبرى التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي ورفاقه ما بين 1921 – 1926 في كامل شمال المغرب، مع إلصاق تهمة الانفصال بالريفيين التي أملتها فرنسا على حزبها في المغرب، ومرورا بمرحلة الاستقلال، أو قيام ما أطلق عليها "الدولة الوطنية"، التي عرف فيها الشمال والريف، بصفة خاصة، تهميشا وإقصاء واتهامات بمعاداة الحركة الوطنية، وتهديد سلامة الدولة الداخلية والخارجية، والتآمر على الملك. لا أحد من الشمال والريف ومن أحرار الوطن يعرف، إلى الآن، حقيقة مصدر هذه التهم وأهدافها، ووصولا إلى اليوم بأحداثه ووقائعه التي أدت إلى القمع غير المبرر لساكنة الريف، المطالبين بحقوقهم الوطنية والدستورية، ونعتهم بأبشع النعوت، واعتقال المحتجين السلميين واتهامهم بكل أنواع التهم. الجزء الرابع: الشمال والريف وتباشير العهد الجديد انقضى عهد الحسن الثاني بحلول صيف 1999، وحل عهد جديد بعاهل شاب، وبأسلوب في الحكم بدا جديدا، قرأ فيه المغاربة آمالا عريضة لمستقبل المغرب الذي أنهكته ثقافة التوجس والخوف والقروح المتبادلة بين قوى الشعب المغربي وبين دولته المخزنية، التي قيل إنها استقلت عن الاستعمار، والتي يحلو للمستفيدين من ريعها وامتيازاتها أن يصفوها ب"دولة وطنية". كانت إشارات العاهل الجديد محمد السادس رائعة نحو انتظارات المغاربة وآمالهم، من خلال إظهار تجاوبه مع طموحات الشعب إلى بناء مغرب جديد يتمتع فيه المغاربة في جهاته الأربع، بدون استثناء، بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في دولة تعامل المغاربة بصفتهم مواطنين وليسوا مجرد رعايا؛ دولة تتجاوز سنوات الجمر والرصاص؛ دولة تتجه إلى مستقبل أفضل، بدل مغرب الصراع بين العرش والإيديولوجيات اليسارية، وبين أقلية قليلة استولت على الجمل وما حمل، كما يقال في الأمثال، وبين غالبية عظمى من مغاربة يئنون تحت سياط الفقر، والتهميش، والإقصاء من حقهم في وطنهم، وكلهم أمل في مغرب جديد تتكافأ فيه فرص كل المغاربة حيث ما كانوا في مجالهم الجغرافي، وكيفما كانت انتماءاتهم الإيديولوجية ومشاربهم الثقافية. ونحن في هذا المقال يتعذر علينا القيام بجرد وإحصاء كل مظاهر ذلك التجاوب؛ لأنه يحتاج منا إلى مجلدات. لكننا، سنحاول في هذا المقام أن نستحضر بعضا منها ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالوقائع الحالية، والأحداث الجارية في مغرب اليوم، ومع منطقة الريف والشمال بالذات: 1) قدم محمد السادس نفسه لشعبه بأنه ملك لجميع المغاربة دون استثناء، إلى درجة أنه قبِل أن تطلق عليه صفة "ملك الفقراء"، ولو أن هذه الصفة كان ملوك فرنسا يطلقونها على أنفسهم. فكانت صورته مقبولة من طرف الجميع؛ لأنه لم يسبق له أن انخرط في معمعة سنوات الجمر والرصاص التي سيطرت، في أغلب الأحيان، على عهد والده. 2) قام محمد السادس، منذ الأيام الأولى لتوليته الملك، بزيارة جل أقاليم المملكة، وبخاصة الأقاليم المهمشة والمغضوب عليها في عهد والده، ومنها أقاليم الريف. ويعلم الجميع أن الملك في زياراته تلك استمع إلى آراء مغاربة تخص رؤيتهم في طريقة تدبير الشأن الوطني، وفي مقدمهم شخصيات وطنية وحزبية، وعرف منهم معاناة المغاربة، واعدا إياهم بطي الصفحة. وكان أول قرار له، منح به كثيرا من الأمل لكل المغاربة، إقالة وزير الداخلية المرعب إدريس البصري. 3) من جملة زيارات العاهل إلى أقاليم مملكته، في مستهل عهده، زيارة الريف، بعد أقل من شهرين من جلوسه على عرش أجداده. وكانت ثالث زيارة ملكية إلى الحسيمة منذ استقلال المغرب إلى تلك اللحظة (زيارتان لمحمد الخامس وهذه الزيارة الأولى لمحمد السادس)، وتم استقباله استقبالا منقطع النظير، وتمت إحاطته بكل ما يليق بجلالته من التبجيل والاحترام والتقدير من جانب الساكنة، وكان من بين مستقبليه سعيد الخطابي، نجل ابن عبد الكريم الخطابي، الذي جاء من القاهرة، حيث يقيم، ليشارك ساكنة الريف استقبال ملكهم محمد السادس. 4) تكررت زيارة الملك إلى أقاليم شمال المملكة، ومنها أقاليم الريف، حتى أصبحت تقليدا سنويا. وأصبحت مدينتا طنجةوتطوان تحظيان، في سنين كثيرة من العهد الجديد، باحتفالات عيد العرش. وبدأت ملامح منطقة الشمال تتغير، وربما بدأت التقارير السابقة عن المنطقة تفقد تأثيرها على رسم سياسة الدولة الخاصة بالجهة؛ إذ بدأت العناية الملكية تبرز من خلال مشروع "ميناء طنجة المتوسط"، ومن خلال مشروع مصنع سيارات رونو بملوسة، بإقليمطنجة الفحص أنجرة، وتحسين البنية التحتية طنجة – تطوان، وتطوان – افنيدق، ومشروع مارتشيكا، ومشروع ميناء الناظور المتوسط في منطقة بطيوة، وإنجاز الطريق المداري طنجة–السعيدية، على الرغم من عدم احترام كل معايير سلامة المستعملين لتلك الطريق، بدعوى أنها أنجزت في غياب دراسة جيولوجية جامعة مانعة قبل تدشينها. مشاريع أخرى كمشروع تثنية طريق تازة–الحسيمة، التي أعطى الملك إشارة انطلاق أشغالها في صيف 2011، على أن يتم إنجازها بالكامل في صيف 2015، لكن المشروع لا يزال يراوح مكانه في أكثر مراحله وأصعبها. كانت كلفة إنجازها لو تم وفق ما كان مقررا عند التدشين هو 250 مليار سنتيم. أما عند إعادة جدولة إنجازها حتى سنة 2019، بعد الاحتجاجات في الريف، فيقدر الآن مبلغ إنجازها بأربع مائة مليار سنتيم وأكثر (400 مليار س). 5) عاش إقليمالحسيمة في بداية 2004 زلزالا مدمرا عرف تضامنا وطنيا رائعا مع سكان الإقليم، لم يكن أقل من تضامن المغاربة مع سكان أغادير في زلزال 1960، على الرغم من غياب الحكومة في البداية لتقديم العون اللازم للساكنة، وغياب وسائل الإعلام الحكومية. غير أن الزلزال كان مناسبة لجلالة الملك محمد السادس كي يجدد عزمه على إدماج الريف بصفة عامة في مشروع الاقتصاد الوطني المندمج. وقال في هذا الصدد في خطاب له في الحسيمة بتاريخ 25 مارس 2004: "أصدرنا تعليماتنا إلى حكومتنا قصد إنجاز برنامج استعجالي مضبوط، على المدى القصير (...) لهذا الغرض أمرنا بإحداث وكالة حضرية لكل من الحسيمةوالناظور. كما يجب التعجيل بترميم وإعادة بناء المرافق العمومية الحيوية، كالمدارس والمستشفيات والمساجد. ومن منطلق منظورنا الاستراتيجي للقضايا الكبرى للأمة، فقد أصدرنا تعليماتنا للحكومة قصد الانكباب الفوري على إعداد مخطط تنموي مندمج وهيكلي، على المدى المتوسط والبعيد، من أجل تأهيل إقليمالحسيمة، وإعمار منطقة الريف. وسنقف شخصيا، سواء من خلال المتابعة الموصولة أو الوقوف في عين المكان، على حسن إنجاز البرنامج الاستعجالي، واعتماد المخطط المتوسط والبعيد الأمد الكفيل بجعل منطقة الريف، التي نوليها عنايتنا الفائقة، قطبا للتنمية الحضرية والقروية، في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني. وعلى هذا المخطط، الذي ينبغي أن يرفع إلى نظرنا السديد في أقرب الآجال، أن يتضمن مشاريع مضبوطة، في أهدافها ووسائل تمويلها، وآجال إنجازها وتقييمها، لتمكين المنطقة من التجهيزات الأساسية، المائية والكهربائية والطرقية الكفيلة بفك العزلة عنها، وربطها بالشبكة الوطنية عبر محور فاس-الحسيمة، والاسراع بإنهاء المدار الطرقي المتوسطي، مع إيلاء أهمية خاصة لتشجيع الاستثمارات والمشاريع التنموية المدرة لفرص الشغل، خاصة في قطاعات السياحة والصيد البحري، وبناء اقتصاد فلاحي عصري ومنتج. وستجد شعبي العزيز، خديمك الأول في طليعة العاملين في السراء والضراء، في الالتزام بروح المواطنة المسؤولة، لبناء مغرب الديمقراطية الحقة، والتضامن الإرادي، والتنمية المندمجة، وصون وحدته وعزته، ضارعين إلى الله سبحانه أن يحفظ بلدنا الآمن من كل مكروه". 6) اضطررنا إلى نشر فقرات من ذلك الخطاب لأهميته في التنمية الاجتماعية والسياسة الرشيدة للعهد الجديد في الريف، ونتساءل: هل التزمت الحكومات المتعاقبة بما جاء في الخطاب – التعليمات الملكية بشأن الريف؟ وهل كان الإخلال بالتعليمات الملكية وعدم العمل بها وراء حراك الريف الحالي؟ وهل كان موقف الحكومة، أو السلطة الحاكمة فعلا، غير المكترثة بحراك الريف يؤكد اعتقادها بأن المغاربة اعتادوا على إظهار "انفعالاتهم" الظرفية، قبل أن يعودوا إلى "صوابهم" المغربي الراضي بعدم انتظار تحقيق التعليمات الملكية ووعود الحكومة؟ وهل "الغضبة" الملكية في الاجتماع الوزاري يوم 25 مايو المنصرم كانت نتيجة لعدم احترام تعليماته وتدشيناته وإشرافه السامي على ما يقدم له من مشروعات؟ وهل معاقبة محتجي حراك الريف بالاعتقال والتعذيب، الذي شهد به المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وبالأحكام القاسية، كان عقابا على فضح السلطة الفعلية على عدم التقيد بتنفيذ التعليمات الملكية؟ وهل يمكن القول إن حراك الريف سيجعل السلطة الفعلية تعود إلى رشدها في تسيير الشأن العام، وتلتزم عمليا بالتعليمات الملكية، واحترام بنود الدستور، وبعدم اللجوء كل مرة إلى اتهام المغاربة بالتهم الكبرى في زمن لم تعد تلك السلطة تتحكم وحدها في توجيه الرأي العام المغربي، وباللغة التي تتحكم فيها هي وحدها؟ تساؤلات تنتظر من يجيب عليها. أما نحن فنؤكد أن الكثير مما أشار إليه جلالة الملك في تعليماته للحكومة لم يتم تحقيقه؛ فالحسيمة لم تعد إقليما بحريا بعد "هروب" السمك من بحرها إلى ... الله أعلم. والحسيمة كانت مشهورة بمصانع تصبير السردين، ولم يعد هناك اليوم سردين للاستهلاك بسعر يلائم الجميع، وأحرى أن تكون هناك مصانع لتصبيره. كان هناك أمل بجعل إقليمالحسيمة محطة سياحية كباقي المحطات السياحية في الأقاليم الأخرى بالمغرب. من هذا التصور أعطى الملك محمد السادس الإشارة للبدء في إنجاز المشروع السياحي المسمى "كلايريس"، وهو المشروع الذي ألغته الحكومة، دون تقديم الأسباب والبديل. أصدر الملك تعليماته في خطاب الحسيمة بربط الحسيمة بشبكة الطرق الوطنية: محور فاس – الحسيمة. لكن شيئا من ذلك لم يتم الالتزام به من قبل السلطة التنفيذية. ولا ندري ما هو دور الهيئات المنتخبة في مطالبة الحكومة ومساءلتها على عدم تنفيذ التعليمات الملكية. واليوم يعلن المستثمرون المحليون والوطنيون والدوليون أنهم لا يمكن الاستثمار في إقليم لا توجد فيه بنية تحتية من طرق سيارة، أو سريعة على الأقل، ولا يوجد فيها نقل بحري على الرغم من أن إقليمالحسيمة جغرافيا هو إقليم متوسطي، ولا توجد فيه مشاريع للنقل السككي. نعم، فقد سبق للملك أن أشرف بنفسه على تدشين المنطقة الصناعية للحسيمة سنة 2009، وإلى حدود اليوم لم يتم استغلال إلاّ جزء قليل منها، لا يتجاوز 20 هكتارا، أقيمت عليها محلات لبيع السيارات. وإلى حدود انطلاق احتجاجات الريف لم يفكر أحد من المستثمرين في المغامرة بمشروع صناعي أو اقتصادي ينتج الشغل والثروة في ظل ما أشرنا إليه من فقدان البنية التحتية وأسعار بيع المتر المربع في المنطقة الصناعية بثمن يفوق ما يباع به في الدارالبيضاء أو فاس أو طنجة. إضافة إلى كل ذلك هناك غياب كامل لمرافق التسلية في الحسيمة وكذا المرافق الثقافية كالسينما والمسرح، والمؤسسات العلمية كالجامعة والمعاهد العلمية المتخصصة في دراسة البيئة المحلية ولما تصلح له في تنمية المنطقة وكل الوطن. 7) بعد انقضاء 11 سنة من خطاب التعليمات الملكية إلى الحكومة بضرورة جعل منطقة الريف قطبا للتنمية الحضرية والقروية في جهة الشمال مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني، جاء مشروع "الحسيمة منارة المتوسط" في أكتوبر 2015 ووقع في تطوان بإشراف الملك. وبعد مرور سنة وتسعة أشهر لم يتخط مشروع منارة المتوسط حفل التوقيعات، إلى أن قامت الاحتجاجات على الوضع الاقتصادي المتردي؛ حيث بلغت البطالة بين صفوف الشباب في إقليمالحسيمة 98 في المائة، وفقا لإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط وجهة طنجة – تطوان – الحسيمة. ثم كان الانزعاج الملكي في الاجتماع الوزاري في 25 مايو المنصرم من عدم تطبيق وزراء ما تم التوقيع عليه تحت إشرافه في شهر أكتوبر 2015 بتطوان. يبدو أن ما يتم تداوله في بعض الكواليس ووسائل إعلام يرمي، بلا شك، إلى تبرير عدم تنفيذ برنامج "منارة المتوسط" بأن المرحلة الزمنية التي تلت التوقيع كانت مرحلة إعداد للانتخابات البرلمانية. ومن ثمة لم يكن من الممكن تنفيذ منارة المتوسط، كي لا يستفيد منه حزب معين انتخابيا على حساب الأحزاب الأخرى!!! كنا نعتقد بأن الانتخابات تأتي بمشاريع جديدة وليس عرقلة البرامج المقررة سلفا، إنه أمر غريب في المغرب حيث مصلحة الأحزاب، أو ما أسمته جماعة الحراك "الدكاكين السياسية"، قبل مصلحة الوطن والشعب والتدشينات الملكية. ثم ألم يكن الموقعون يعلمون أن سنة 2016 سنة انتخابات، فيؤجلون التوقيع على منارة المتوسط إلى ما بعد 7 أكتوبر 2016؟ أم إنهم كانوا مطمئنين إلى أن لا أحد يحاسبهم على عدم التزامهم بما وقعوا عليه؟ ألم يشكر برلماني أسبق كان يحضر تدشينات المسؤولين، لأن معالم التدشينات المرتفعة على الأرض أصبحت لها مهمة مساعدة كبار السن على ركوب حميرهم وبغالهم؟ والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: هل إن هذا الحراك سيؤدي إلى إعادة نظر المسؤولين التنفيذيين في توقيعاتهم التلفزيونية على مشاريع، وكذا الإشراف الملكي على إطلاق برامج تنموية واقتصادية، فلا يوقعون ولا يلتزمون إلا بما يقدرون على إنجازه في الزمن المحدد، واعتبار الحراك بالتالي حالة حيوية للسير إلى الأمام، بحجة أن الشعوب التي لا تتحرك شعوب محكوم عليها بالجمود قبل انقراضها من الوجود؟ أم إن الحكومة ستستمر في تجنيد أحزابها والإعلام الحكومي وغير الحكومي الذي يقبض المقابل الضخم من جيوب دافعي الضرائب المغاربة، وكذا ما يسمى ب"الشباب الملكي" باتهام المحتجين بالخيانة للوطن، وبنزعة الانفصال، سيرا وترديدا لما كان يخيف به الاستعمار الفرنسي أعوانه والسلطان المغلوب على أمره، قبل حوالي 100 (مائة) عام من الآن؟ أنقر هنا لقراءة الجزء الثالث: الريف والسلطة المغربية بعد الاستقلال