الصورة: الشيخ عبد الباري الزمزمي لولا أن لنسبك الشريف وانتسابك لبيت فضل وبر اعتبار عند أمثالي، ولولا أن لشيبتك توقير وحرمة عندي، ولولا أن انتسابك لأهل العلم جنة لأمثالك من سهامي، لجعلت جوابي من جنس فتوايك، واستقيت ألفاظه من مثل قواميسك ومعانيك، ولكن كما قالت الأعراب:"لولا الإسلام"، نعم لولا الإسلام الذي أمرنا بالإعراض عن الجاهلين لأجبتك منذ زمان، وللجهل عند العرب معنيان الجهل ضد العلم، والجهل ضد الحلم، -ولا أظنك إلا قد جمعت الأمرين فوفيت واستوفيت-، حين جعلت العلم وأهله أضحوكة يتمسخر بها كل من هب ودب بفتوايك الغريبة العجيبة، فمنذ أن انفض عنك الأتباع بعد واقعة مسجد ولد الحمراء كأنك جعلت من الإثارة منهجك والشهرة مسلكك. واليوم بما أنك خضت في خضم لا يخوضه إلا الرجال، وتحدثت عن البيعة وعن الجاهلية وعن الفتن وخلطت المقال، فبداية أسألك عن أمور الجاهلية التي تعني، أليس إغاثة اللهفان وحمل الكل وإقراء الضيف والشجاعة والمروءة ومناصرة المظلوم من أمور الجاهلية التي ثمنها الإسلام عاليا؟ حتى إن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول -وهو من أمور الجاهلية- فقال:" لقد شهدت مع عمومتي حلفا ًفي دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت".وإن لم تكن تعلم ما حلف الفضول فإليك القصة والعبرة لعلك ترعوي: قيل في سبب الحلف إن رجلاً من "زبيد" أتى بتجارة إلى مكة، فاشتراها العاصي بن وائل السهمي. ثم حبس حقها وأبى أن يدفعه! فاستعدى عليه قبائل قريش والأحلاف فلم يكترثوا له. فوقف الغريب المظلوم عند الكعبة وأنشد: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدارِ والنَّفَر ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال -وبين الحِجْر والحَجَرِ! إن الحرامَ لمَنْ تمت كرامته ولا حرام بثوب الفاجرِ الغدرِ فقام الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك! فاجتمع بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزَّى، وزهرة بن كلاب، وتَيْم بن مرة، وذهبوا إلى العاصي بن وائل، واستخلصوا منه حق الزبيدي. بعدما أبرموا حلف الفضول." قال ابن الأثير: "ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبدالله بن جدعان لشرفه وسنه. فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه؛ وكانوا على من ظلمه، حتى تردَّ مظلمته فسمّت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"أي الأفاضل. وبما أنك تتحدث عن الإمارة والبيعة والطاعة فاسمع ما فعل سلفك الصالح وخيار الأمة الذين تتشرف بالانتساب إليهم روى ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما ب( ذي المروة ) فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول قال : فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - : وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي. هذا سيدنا الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدراك ما الحسين سبط النبي وسيد شباب الجنة لا يرضى أن يؤخد حقه ويهدد بحمل سيفه على الأمير، ويعينه على ذلك عبد الله بن الزبير والمسور بن مخرمة بن نوفل الزهري وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، ويتنادون وهم الأفاضل ب"حلف الفضول" الجاهلي ولم يسكتوا عن رجل غمط حقه، فلعلك لم تصل إلى مستوى أخلاق الجاهلية حين بدأت نصيحتك للمهندس ب"ونحن لا نناقش السيد بن الصديق في شكواه ولا في تظلمه فذلك شأن يعنيه."شأن يعنيه ولا يعنيك، فقط تعنيك البيعة والسكوت عن الظالمين والظلم وتبريره وتمريره، وتجعل أصابعك في أذنيك عن قوله صلى الله عليه وسلم" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ليس منهم يا شيخ، ليس من المسلمين ولا الإسلام، من لم يهب لمناصرة المظلومين المأمورين بنصرهم شرعا من الدين فما الدين عندك يا شيخ؟ وإذا كان الإسلام عندك خنوع وخضوع وركوع ورضى بالضيم والجور وعبودية لغير الله تعالى فالجاهلية أحسن وأهون. أرى يا شيخ أنه من حقك أن تدافع عن الفاسدين والمفسدين وأنت الآن العضو في مجالسهم ونواديهم، الآكل من صحفهم وأوانيهم، المتمتع برواتبهم وامتيازاتهم، ولكن ليس من حقك: 1-أن تقحم الإسلام في اختيارك السياسي لتغرر بالبسطاء من الناس ممن ينخدعون بالمسميات، وتكذب على الله ورسوله حين تقول:"إذ من المعلوم من الدين بالضرورة أن بيعة الإمام تكليف شرعي لا مجال فيه لإرادة الإنسان المسلم واختياره لأن طاعة الإمام من طاعة النبي".أما كون البيعة تكليف شرعي عيني فهذا مما لا يناقش لا عقلا ولا شرعا، وأما أنه لا إرادة للإنسان فيه ولا اختيار فهذا هو التزوير والبهتان، فالإسلام يا شيخ كله قائم على الاختيار ألم تقرأ و"قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وكم أتمنى عليك أن تعود للسير لتقرأ بيعة الرضوان وبيعة العقبة وبيعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، وكم أتمنى أن تعود لمواقف أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد والإمام الشافعي، لتقرأ عن مناصرتهم للمظلومين الثائرين على الحكام الظلمة لترى العجب العجاب. 2- أن تصف من ينزلون إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم بالمشاغبين والفتانين والفوضويين والغوغائيين اللامتحضرين، على مذهب علماء البترودولار في دول الخليج وعلى رأسهم السعودية ممن أفتوا بحرمة التظاهر وعدم جواز تنظيم المسيرات- وتستعدي عليهم البسطاء والعوام بقولك:"كفانا من الفتن وكفانا من الشغب والفوضى ولا حاجة بنا إلى مزيد من الغوغائية الهمجية التي لا هي شرعية ولا حضارية ولا ديموقراطية" ولم ينقص إلا أن تصفهم بالخوارج والمارقين والمفارقين للجماعة وتفتي فيهم بحد "الحرابة". إن من ينزلون إلى الشارع ما نزلوا إلا بعد أن سدت في وجوههم الأبواب فلا شغل ولا سكن ولا صحة ولا نقل ولا كرامة ولا ممثلين حقيقين من أمثالك في البرلمان يدافعون عن حقوقهم. إنك يا شيخ وأمثالك من علماء البلاط وعلماء السلاطين، ممن أسهموا في أكبر عملية تزييف شهدها التاريخ الإسلامي حين ساندتم الاستبداد، ووفرتم له الغطاء الديني والنظرية الإيديولوجية، فجعلتم الخنوع عقيدة بين الناس حتى حكم المسلمين الغلمان والمخنثون والجواري وأبناء الزواني. ودعني أقول لك في الأخير وأنت ابن أفاضل أفنوا عمرهم في تصحيح عقائد الناس، أنه لا يوجد صدف في الحياة "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا"، ولعلها زلة أخرى من زلات "عالم" كثرت عثراته وزلاته. [email protected]