عندما يكون المرء على أهبة الرحيل من دار الفناء إلى دار البقاء،تتنسم روحه عبق الآخرة وأريجها،فتتعالى ماديته وجسديته عن سفاسف ومغريات الدنيا المتحصنة والمتدثرة والمحايثة في كل جوانبها بالأنانية والمصالح والطمع.ولأن هذا الراحل قد استجمع سمعه لتلقي دعوة الحق ونداء الحق،يصبح أقرب إلى الحق ولسان الحق وعين الحق. بهذه الروح المتسامية الصافية الطاهرة نثر المرحوم سيدي عمر اعمراشا وصيته البليغة لأبناء الريف الأحرار.هكذا وعبر صوت مبحوح وحشرجة تختزل سيميائيا صورة الريف الذي بح أبناؤه مطالبين حقوقهم، يوجه المرحوم وصية الأمل،وصية مضاء العزم،وصية المذكر المحذر،فقال رحمه الله: "أطلب من الحكومة ان تتريث وتتعقلن " معتبرا ان إطلاق سراح المعتقلين ليس حلا بل هو أنشوطة تلهي عن القصد والغاية من الحراك، وهنا عقب المرحوم قائلا: "ولنفرض أنهم جاؤوا اليوم وأطلقو جميع المسجونين،هل هذا حل؟ثم أجاب، هذا ليس بحل." مدللا على موقفه رابطا الحراك بالمطالب التي تأسس عليها، فذكر بها المرحوم قائلا: "مطالب الحراك معروفة،كان أول مطلب عندهم هو مطلب رفع العسكرة،مستدركا قوله،كنا نشك هل هنا عسكرة،لكن لما رأينا ما يدور في الحسيمة في الأيام الأخيرة،تأكدنا حينذاك وبحثنا في القانون وعرفنا ان العسكرة لا زالت في الحسيمة."وبعد تحميله للحكومة مسؤولية تبعات العسكرة، توجه إلى شباب الحراك محذرا إياهم من تولي الدبر والعودة إلى البيوت معتبرا ذلك فشل ذاتي وذبح للنفس،حيث قال:"إياكم،إياكم،ثم إياكم ان تفشلوا،فإذا فشلتم فقد ذبحتم انفسكم! إذا فشلتم وقلتم سندخل الدار فقد ذبحتم أنفسكم!" ثم رسم لهم طريق الخلاص داعيا إياهم الى التشبت بسلمية النضال ووضوح الرؤية فقال:"عليكم باتباع السلمية وباتبا الخطط التي رسمها ناصر الزفزافي".ولأن الرجل كان يعي ان قضية الريف أكبر من قضية معتقل او قرابة قال :"وإن كان ولدي يخالف الزفزافي في عدة آراء حتى أدى به ذلك السب وكذا...،لكن ولدي لم يكن خارج الحراك". ليتمم الرجل في نهاية وصيته قاصدا باب الله تعالى بالدعاء وكله يقين ان هذه الغمة ليس لها من دون الله كاشفة،وبصوت المفتقر الى ربه الطامع في عطائه قال:" وهكذا أطلب الله عز وجل ان يفك هذا المشكل وان يبرم للريف من يخرجه عما يعانيه" وبالعودة إلى الوصية تحليلا وتركيبا يمكن اسخلاص المواقف التالية: - تحميل الحكومة مسؤولية ما يقع في الريف ودعوتها إلى التعقل في اتخاذ المواقف. - التنبيه إلى مزلق اختزال الحراك في عملية إطلاق سراح المعتقلين لأنها يقبر الحراك بيد أهله. - التأكيد ان الحراك في الريف دوافعه مطالب واضحة ومشروعة لا ينبغي التنكب عنها مهما تغيرت الظروف. - اعتبار رفع العسكرة مطلبا ذا أولوية لما يحقق من انفراج نفسي واجتماعي،ولما يحدثه من رفع حالةالاحتقان المخيمة على المنطقة. - قرع آذان شباب الحراك أن نجاح الحراك أو فشله متوقف على العامل الذاتي المتمثل إما في الإقبال على الشارع أو الإدبار والتولي إلى البيوت وهذا يعد انتحارا نضاليا. - التأكيد على سلمية الحراك كخيار استراتيجي في النضال، مقرونا بوضوح الرؤيا. - ذكر الزفزافي في الوصية هو بعث لروح الوسطية والاعتدال والوحدة، روح تنبذ المداهنة وانصاف الحلول،روح تمقت المصلحة الذاتية وتتطلع إلى خلاص مجتمعي شامل،روح تتبرم من العصبية والتعصب الايديولوجي،روح تسمي الأشياء بمسمياتها لا تسلك طريق المكر ولا تسمح للثعالب السياسية المكر بها، روح تخطت الأدوات السياسية من أحزاب وحكومة وجمعيات الوديان والأنهار لتخاطب الفاعل السياسي الحقيقي المتمثل في شخص الملك. - اللجوء إلى الله بالدعاء هو تجنب صريح للغة التوسل وطلب العفو من الجلاد وقهر وتكسير لجبروته. لأن طلب العفو هو عتراف بأن النضال جريمة وبأن المطالبة بالحقوق خروج عن القانون،وتشجيع لآلة القمع بأن تمضي قدما في سحقها للشرفاء والأحرار من جهة،وتحفيز أصحابها الإبداع في أشكال القمع ما دام ان خراجه وثمرته التركيع والتوسل والوقوف على الأعتاب الواهية والوهمية، والتي تجعل الضعيف يقبل بأسداس أسداس الحلول، ويرى في الجلاد نعمة عندما يتركك جائعا دون يكسر عضامك! وفي الأخير نسأل الله تبارك وتعالى ان يجدد الرحمات على سيدي عمر اعمراشا وان يبدله دارا خيرا من دار المخزن،واهلا خيرا من رعايا المخزن،وان يخلفه في أهل الريف ويكشف عنهم كل سوء ويرفع عنهم مقت وجبروت وانتقام المخزن المستبد. ولترقد الروح الطاهرة آمنة مطمئنة فالمغاربة ماضون بكل عزم وإصرار وثقة في الله إلى أفق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، غايتهم تشييد دولة الإنسان حيث يكون الإنسان إنسانا مالكا لإرادته متحررا من طوق دولة الاستبداد البوليسة. إلى ذلك الحين دمتم للوصية أوفياء ! ورحم الله الموصي! *باحث في فلسفة الأخلاق والسياسة،جامعة محمد الخامس الرباط.