يحيي السعوديون، كغيرهم من الشعوب الإسلامية، شهر رمضان بطقوس وعادات متجذرة في الأصالة ومتعطرة بنفحات الإيمان الذي يزكيه هذا الشهر الفضيل في نفوس الصائمين، فتتزين ليالي المملكة بأجواء روحانية تنعكس سماتها على سمات الناس وحياتهم الاجتماعية والدينية. ويحرص المجتمع السعودي، كجميع المجتمعات الإسلامية، حرصا شديدا على إحياء الشهر الفضيل بالكثير من الطقوس والتفاصيل الخاصة بشهر الصيام، كالتراحم والتواصل الاجتماعي وسط أجواء روحانية تلقي بظلالها على مظاهر الحياة في مختلف مدن وحواضر المملكة التي تزدان بأبهى حللها وأنصعها ضياء وإشراقا. فطيلة أيام الشهر الكريم، تتوهج أزقة المدن العتيقة، كالدرعية التاريخية في الرياض، بالفوانيس والأشرطة المضيئة، كما تتزين الشوارع والمراكز التجارية وواجهات الفنادق والمطاعم بالأهلة والنجمات المتلألئة التي تتوج أيضا أبراج المدن الكبرى كبرج المملكة أحد أشهر المعالم العمرانية في الرياض. وفي مستهل رمضان هذا العام، تزينت سماء بعض المدن السعودية بلوحات إبداعية جاذبة هنأت فيه الهيئة السعودية للترفيه سكان هذه المدن بمقدم الشهر الكريم، واستخدمت لذلك في جدة على سيبل المثال أكثر من 300 طائرة، في خطوة تقول الهيئة إنها من أحدث أدوات العرض في العالم والأولى في الشرق الأوسط. كما تشهد مختلف الأسواق الشعبية في المملكة ازدحاما عز نظيره في باقي شهور السنة، حيث تزدهر تجارة الفوانيس وأفخر أنواع البخور، كالعود، وكذا اكسيسوارات الزينة ك"التيازير" الملونة التي تتشرع بها الأبواب والأسوار وسفرة الأكل في المجتمع الخليجي عموما والسعودي تحديدا. ومن العادات التي لا تخطئها العين في شهر التراحم والتضامن إقامة موائد إفطار خاصة بالجاليات الإسلامية والعمالة الأجنبية المقيمة في المملكة، والتي تؤثث جنبات المساجد والأماكن التي تتواجد فيها هذه العمالة بكثرة، فضلا عن توزيع وجبات الإفطار الخفيفة عند إشارات المرور في الطرق الرئيسية للمدن السعودية. وفي ظل متغيرات العصر وظروفه المتسارعة، أخذت الكثير من العادات الرمضانية المتوارثة في المجتمع السعودي على غرار المجتمعات الأخرى، طريقها إلى التواري والخفوت، ومنها التراجع التدريجي لالتفاف العائلات السعودية الممتدة واجتماعها في مجالس عائلية تتقاسم عبق رمضان وأجوائه الروحانية. وبرأي البعض فإن للتقنية ووسائل التواصل الاجتماعي الأثر البالغ في الاستغناء عن عادات خلدت في الزمن وأبت النسيان أمام زحف أنماط عيش جديدة قل فيها التواصل بين الأهل والجيران، ولم تعد تلك العادات المعروفة بين الأهالي والعائلات كالزيارات العائلية والودية. وفي هذا الشأن، يستحضر محمد أبو الفاضل (39 سنة) من سكان الرياض، في تصريح صحافي، حميمية الأجواء الرمضانية ودفئها وسط العائلة والجيران في ذكريات يقول إنها تعود إلى 20 سنة أو يزيد، عندما كان الجيران في حارته الشعبية يلتئمون حول مأدبة إفطار أو سحور في بيت واحد، فيما يختلف الأمر اليوم جملة وتفصيلا، حيث "قل اجتماع الجيران بسبب التكاليف والرسميات". ومن العادات التي أصبحت أثرا بعد عين، ولا تزال عالقة في ذهن المتحدث، "تبخير المستكة والأكواب قبل الأذان كي تحتفظ بالرائحة إلى حين وقت الإفطار، وهي أجواء جميلة اختفى معها أيضا سماع مدفع الإفطار، الذي كان يخلف تأثيرا كبيرا في نفوسنا". وعلى الرغم من اندثار هذه العادات المحمودة لدى غالبية السعوديين، يعتقد خالد أبو عبد الرحمان (41 سنة) من جهته، أن دخول عادات جديدة إلى الأجواء الرمضانية في المجتمع السعودي، أسهمت بدورها في تعزيز العلاقات الاجتماعية، ومن تجليات ذلك تبادل التهاني والأماني من خلال برامج التواصل الاجتماعي. واعتبر أبو عبد الرحمن، في تصريحه، أن "هذه البرامج تحافظ على تواصل أفراد الأسرة والجماعة الممتدة، فضلا عن أنها تسهم في توسيع وانتقاء شبكة المعارف والأصدقاء"، مؤكدا أن شبكات التواصل الاجتماعي مفيدة اجتماعيا وغير مكلفة ماديا. ولئن اختلفت الآراء بشأن العادات الاجتماعية في رمضان، فإن هذا التباين في وجهات النظر لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى الطقوس الدينية الملازمة للشهر الفضيل، حيث يحرص السعوديون على أداء صلاة التراويح في المساجد والتهجد آناء الليل وأطراف النهار، وينكبون على تلاوة القرآن، فيما يفضل معظمهم أداء عمرة رمضان (82 في المائة من السعوديين يفضلون العمرة في رمضان حسب استطلاع أجري هذا العام). حري بالذكر أن المملكة تتحول خلال هذا الشهر الكريم إلى الوجهة الأولى للسياحية الدينية في العالم؛ باستقبالها ملايين المعتمرين القاصدين بيت الله الحرام، وزيارة المسجد النبوي الشريف، وتتضاعف هذه الأعداد بشكل لافت خلال النصف الثاني والعشر الأواخر منه. فمن كل فج عميق تتهافت أفئدة المعتمرين على البيت العتيق، لكسب ثواب الحج بعمرة رمضان، ويتنافسون في تحصيل الثواب والأجر في شهر القرءان، فمنهم المعتكفون في رحاب المسجد الحرام، والطائفون بالكعبة المشرفة والساعون والركع السجود، ما يعيد تشكيل صورة الحشود من ضيوف الرحمان أثناء مواسم الحج. وفي العشر الأواخر من رمضان تمتلئ جنبات وأدوار وأروقة المسجد الحرام، وساحاته وسطوحه، بأفواج من المعتمرين الذين يتوافدون على أم القرى لأداء مناسك العمرة وصلاة العشاء والتراويح، فيما يحرص الكثير منهم حضور ختم القرآن الكريم بالمسجد الحرام في ليلة السابع والعشرين التي يتحرى فيها ليلة القدر. وموازاة مع ذلك، تنتعش الحركة التجارية بمختلف المراكز والمحلات التجارية بالمنطقة المركزية للمسجد الحرام طيلة أيام وليالي رمضان حيث يحرص المعتمرون وقاصدو بيت الله الحرام على شراء الهدايا والسلع التذكارية لرحلة العمر. كما يهفو المعتمرون والزائرون على حد سواء إلى مهوى أفئدة المسلمين، مأوى ومثوى النبي الكريم، المدينةالمنورة ليعيشوا فيها أجواء من الروحانية والسكينة بجوار قبره عليه الصلاة والسلام، واستحضار عظمة الإسلام بين معالمها الدينية والتاريخية العظيمة. * و.م.ع