يجمع علماء النفس والاجتماع على أن الإنسان ابن بيئته ومدني بطبعه، يتأثر بمن حوله ويؤثر فيهم سلبا وإيجابا، أي إنه يخضع للجو العام السائد في جماعته، ويخضع آخرين داخل جماعته إليه. وبين الخضوع والإخضاع تنشأ سلوكات ونظم تحدد موقع الفرد داخل الجماعة وموقع الجماعة داخل المجتمع وموقع المجتمع داخل المنتظم الدولي.. في هذا الموقع يكون الفرد في جماعته إما عزيزا أو ذليلا، وتكون الجماعة إما مرفوعة الرأس وإما مهانة تابعة لغيرها. وحينما نقول الجماعة نقصد بها الأسرة الصغيرة ومحيط الأصدقاء والمجتمع . هذه السلوكيات والنظم التي أشرنا إليها تقف وراءها عادة الرغبة في إشباع الحاجات الفطرية أو الحاجات العاطفية، كحب الظهور بمظهر ما، وحب الشهرة أو الرغبة في التقبل (تقبل الآخرين للفرد) والاهتمام به... وهلم جرا، ومع هذه الطموحات التي لا حدود لها - والتي غالبا ما تكون بشكل أو آخر على حساب آخرين - تنتهك حرمات وتتجاوز حدود وتنشأ عادات تؤدي في مجملها إلى التهميش والإذلال والقهر والقمع وقس على ذلك، وتكون النتيجة خلق جروح نفسية أخرى تضاف إلى جروح الطفولة، والتي غالبا ما تؤدي في النهاية إلى انفجار نفسي واجتماعي يتيه فيه الفرد والجماعة معا، انفجار تعمى فيه البصائر والأبصار وسط عاصفة في وضوح النهار، هوجاء لا تبقي ولا تذر. وحتى نكون أكثر دقة نعود قليلا إلى الرغبات والنزعات. ونقول إن هذه الرغبات أو النزعات تبقى معقولة إلى حد ما إذا لم تخرج عن إطارها الطبيعي، لأنها رغبات تشترك فيها جميع الكائنات الحية، ولأن الحق في العيش عليه تدندن جميع الكائنات الحية، إنساناً كانت أم حيوانا، وطيورا كانت أم زهورا، سواء في البر أو البحر. فالخبز والماء والنزوات الجنسية والمآرب النفسية وقضاء الحاجات قواسم مشتركة بين جميع المخلوقات، إلا أن ما يدعو إلى القلق والريبة هو الإفراط في إظهار هذه الحاجات والرغبات بما ينتهك الحرمات. ونأخذ كمثال على ذلك - حتى يتسنى للقارئ الكريم تحديد الإطار الذي نتحدث فيه - جشع المفسدين في تحقيق الذات على حساب المستضعفين في الأرض، ونأخذ المغرب كنموذج. يذهب علماء النفس والاجتماع إلى أن جميع الطاقات داخل المجتمع، سواء كانت فردية أو جماعية، تنشأ من التركيب الأسري للفرد، وعليه فكلما كانت البنية الأسرية مبنية على أسس روحية قوية وسليمة من العاهات النفسية كلما انعكس ذلك على المجتمع كله انعكاسا إيجابيا (ثقة عالية في النفس، جرأة في اتخاذ القرار، تفكير سليم، السير بخطى ثابتة نحو النجاح...)، وكلما كانت البنية الأسرية قائمة على أرضية هشة، حيث يسود الظلم والضرب والتجويع والتقليل من الشأن والاحتقار، كلما انعكس الأمر على المجتمع سلبا (كالخوف المفرط، التردد، عدم الجرأة في اتخاذ القرار، الفشل في كل الاتجاهات...). وإذا أخذنا واقع الحال بالنسبة للمغرب كنموذج وأسقطنا الأمر على سياسييه نجد أن أغلبهم - إلا من رحم ربي - قد ترعرعوا في جو أسري مشحون بالاختلالات والاضطرابات النفسية، مليء بالظواهر اللاأخلاقية، كالخيانة الزوجية والعنف الأسري والمكر والخداع واللصوصية وعدم الالتزام بمبادئ الدين والارتماء في أحضان الرذيلة وعدم وجود ارتباط وجداني عاطفي بينهم وبين آبائهم، نظرا لعدم وجود ثقافة الاهتمام أصلا بالأطفال لدينا في المجتمع، وهلم جرا. ويدخل في عدم الاهتمام هذا كذلك توفير كل شيء للطفل بنوع من الدلال (الفشوش)، وعدم مرافقته اجتماعيا وتوجيهه أخلاقيا بغية التخلص من قلقه، وهذا أكبر خطا. فترى الابن في واد والأب في واد آخر. وهذا ما يطلق عليه في علم النفس غياب نظرية التعلق (والتعلق نظرية تصف طبيعة العلاقات بين البشر وتعتقد بأن الطفل بحاجة إلى تكوين علاقة مع شخص واحد على الأقل من مقدمي الرعاية لكي يحصل على النمو العاطفي والاجتماعي بطريقة طبيعية، فهي تشرح كيف تؤثر علاقة الطفل بأبويه على نموه).. من عاش الحنان رق قلبه ومن عاش الحرمان شح جيبه.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. وقد ضل من ظن العميان ستهديه . في مرحلة الطفولة هذه بالذات تبدأ طريقة تفكير المرء في التشكل سلباً أو إيجاباً وتبدأ معها مشاكل السلوك، فالسلوك إما حسن وإما غير ذلك، سلوك سيء عدواني. وهكذا تبدأ تظهر أنواع الاضطرابات الأخلاقية في المجتمع، فتصاب القيم بالتصدع، إذ يبدأ التمرد على القيم الدينية والتملص من عراها، فينتشر العري والسفالة ويتم التحريض بغية التخلص من المنتقدين لهذه الظواهر عن طريق تكميم الأفواه والتهديد والوعد والوعيد، ويبدأ النهب والسرقة والنصب والاحتيال والترهيب والقمع والقتل والسجن وكل المسميات التي تترجم الانحراف السلوكي المجتمعي الناتج عن عدم التوافق الاجتماعي بسبب أمراض نفسية باطنية، وعليه يكون سلوك السارق - اقصد الصغير والكبير - السياسي- ترجمة حرفية لما عاشه من الحرمان والجوع في صغره. ويكون سلوك الظالم المعتدي- المخزن- نسخة أصلية لما تعرض له من ضرب واغتصاب في طفولته، ويكون اللامبالي بك - رئيس الحكومة - قد عاش اللامبالاة وتم التخلي عنه، ويكون الذي يعد ولا يفي بوعده - قد كذب عليه أبوه لما كان صغيرا كأن يقول له سأشتري لك كذا وكذا ولا يفعل، وهكذا دواليك. إذن، نرى أن آراء علماء النفس والاجتماع متداخلة جدا ويصعب الفصل بينها . ويمكن هنا أن نستشهد بضراوة الحرب الفيسبوكية بين أبناء المجتمع المغربي، وهو نوع من العنف والعنف المضاد بين المتظاهرين والسلطة؛ فالجروح النفسية في الطفولة عند الساسة المغاربة وعند أبناء الشعب حاصلة وظاهرة للعيان، والسؤال المطروح هل يمكن لهذه الجروح أن تلتئم وكيف؟. إن الجواب على هذا السؤال لا يحتاج إلى تفكير طويل، فمن وجهة نظر علماء النفس ينبغي أن تكون أسس العلاقة السليمة بين الأب والأبناء مبنية على ثلاثة مفاهيم: أن يرسل الأب إلى أبنائه إشارات تبين لهم أنهم مهمون في حياته ومهتم بهم ومرئيون. - أن يلبي الأب لأبنائه حاجاتهم وفقا لما يكفله لهم الشرع والقانون. أن ينشط الأب حاسة سمعه ويرهفها لأبنائه، لأن لامبالاته بهم تقتلهم نفسيا ووجدانيا، فتصبح ردود فعلهم تجاهه إما باهتة وإما قاسية. *العرائشي الفخور من السويد