يشتكي كثير من الآباء من عدوانية أبنائهم في فترات شتى من مرحلة الطفولة، وتختلف شكاواهم حدة وشدة باختلاف طبيعة الطفل والسياق النفسي والاجتماعي الذي تتبدى فيه المظاهر العدوانية الداعية للتشكي والتضايق. ولقد استرعت هذه المسألة انتباه المربين وأهل الفكر منذ زمان وتعاملت معها الشعوب بأشكال متباينة بحسب درجة وعيها وطريقة تصورها واستيعابها لدلالة النزعات العدوانية وأسبابها ومسبباتها. فهذه النزعات إذن ليست مسألة طارئة أو حادثة، لكن من شأن التغيرات الحضارية والتكنولوجية وما يرافقها من انقلاب وتحول أخلاقي وأسري أن يكسب السلوك العدواني مظاهر غير مسبوقة من قبل. ولا أدل على ذلك من الوسائل السمعية البصرية التي أضحت مصدر إيحاء وإثارة ما فتئت أن استنفرت همم الكثير من المهتمين بأمور التربية وشؤون الطفل. في هذا الحوار نناقش مع الأخصائي النفساني الدكتور أحمد المطيلي أسباب عنف الأطفال والإجراءات الوقائية لذلك وفي يلي تفاصيل الحوار: ● يلاحظ بعض الآباء ميولات للعنف لدى أطفالهم، ما هي أسبابها في نظركم؟ ❍ لطالما تساءل الفلاسفة والمربون قديما وحديثا عن دوافع النزعة العدوانية في النفس البشرية وسعوا لاستقصاء أسبابها ودواعيها. ولعل من نافلة القول أن نذكر بأن السلوك العدواني محصلة تفاعل عدة عوامل مشتركة، منها ما هو نفسي يخص الطفل نفسه ومنها ما هو أسري ومنها ما هو اجتماعي وثقافي. وسأسعى إلى أن ألم بهذه العوامل بغية تقديم نظرة شاملة عن دوافع وأسباب السلوك العدواني لدى الطفل. فلعلنا بذلك نعي الحيثيات المرتبطة بهذا الاضطراب ونقدر على الوقاية منه والتحكم في مجرياته. فلنبدأ إذن بالعوامل النفسية: العوامل النفسية: وفي مقدمتها الإحباط الذي يحول بين الطفل وبين تحقيق رغباته وبلوغ مراميه ويفضي به غالبا إلى سلوك عدواني كأن يصب الطفل جام غضبه على أخيه الذي يحرمه من التمتع بلعبة ما وقد يكسر اللعبة ذاتها. على أن الإحباط وإن كان أحد المسببات الرئيسية للعدوانية إلا أننا لا يمكن أن نجعل العلاقة بينهما كعلاقة السبب بالنتيجة. فليس كل حرمان يستتبع عدوانا، ولذا فقد يستجيب المعتدى عليه إما بالكف أو اللامبالاة وقد تحول الاستجابة لاشعوريا إلى عدوانية ضد الذات كأن يلطم الطفل خده أو يضرب رأسه عرض الحائط. فالعدوانية إن تعرضت للكف قد يستعاض عنها بالنكوص إلى مرحلة سابقة من النمو كأن يعود الطفل إلى التبول اللاإرادي ليلا بعد أن انقطع عنه أو التكلم بلغة الأطفال أو التشبث بأحضان الأم. وإذا لم يصرف الإحباط بالضحك والفكاهة أو السخرية ربما ترتب عنه اعتزال الناس والانطواء على الذات. وفي حالات أخرى قد يفضي الإحباط إلى نتائج إيجابية فيتحول إلى دافع قوي لبذل المزيد من الجهد لبلوغ المقصد. ويرتهن حصول هذه النتيجة أو تلك بعدد من الأسباب منها ما يتصل بالطفل نفسه ومنها ما يتصل بالبيئة الخارجية. وبيان ذلك كما يلي: شخصية الطفل: يلاحظ أن شخصية الطفل العدواني تتسم بسمات مميزة كالاندفاع والتهور وسرعة الانفعال والاستثارة وعدم تحمل الحرمان وضعف الرقابة الانفعالية وضعف القابلية للتوافق والمرونة والتفاوت بين حدة الانفعالات وطبيعة المثيرات. - سيرة الطفل: إن الخبرات الانفعالية التي يكتسبها الطفل منذ لحظة الميلاد وفي مقدمتها ما يصيبه من حرمان وضيق وطبيعة استجابة الوالدين وتعاملهما ومؤثرات البيئة الأسرية والمدرسية والاجتماعية كل أولئك يؤثر لا محالة في مشاعره العدوانية وتشكيل طرق الردود المحتملة لاحقا في حياته، فمن لم ينل قسطا كافيا من الحب في الصغر امتلأ قلبه حقدا وكراهية في الكبر على الأغلب. ومن تعرض للعدوان سهل عليه أن يسلك مسلكا عدوانيا مع الغير وفقا لآلية التماهي بالمعتدي، وهي عملية نفسية لاشعورية تقتضي أن يتشبه الطفل المعتدى عليه تشبها لاشعوريا بالمعتدي أبا كان أو أما أو أخا أو مدرسا أو زميلا أو ما شابه. وليس شرطا أن يرد الاعتداء على المعتدي نفسه بل يمكن أن يُرد الاعتداء على طرف ثالث أضعف مثل رفيق المدرسة أو الأخ الأصغر وقد يوجه العدوان رأسا إلى اللعب أو الحيوانات أو ما شابه ليشفي غليله. - الإحساس بالنقص: قد يتولد الإحساس بالنقص من خلل حقيقي أو متوهم في الجانب الجسمي أو النفسي. ومن شأن التحقير والتبخيس والاستهزاء أن يترتب عنه إحساس من هذا النوع. وقد لوحظ كذلك أن ثمة صلة بين وجود خلل أو نقص في المهارات اللفظية والسلوك العدواني، ذلك أن ضمور نمو الكلام عند الطفل يعيقه عن تطوير علاقاته الاجتماعية مع الغير ويمنعه من التواصل الناجع مع بيئته. وبحكم أن اللغة هي الأداة المثلى لنقل المعارف في المؤسسة المدرسية فإن أي تخلف في هذا الشأن يستتبع مصاعب جمة في القراءة والكتابة والتعلم، ويضاعف من الردود السلبية تجاه الطفل. وإذ يشعر بالنقص والمغايرة جراء هذا الخلل ينزع إلى الاستعاضة باليد عن اللسان لفض نزاعاته مع أقرانه. - عوامل أسرية: أثبتت مجموعة كبيرة من الأبحاث أن ثمة صلة بين اضطراب السلوك عند الأطفال لآباء ذوي شخصية مضادة للمجتمع كإجرام أحد أفراد الأسرة أو إدمانه على الخمر أو المخدرات...، - مخالطة رفاق السوء أو الجانحين: وتتبين أهمية هذا العامل إذا ما وضعنا في الحسبان أن هذه المخالطة تتعزز بمقدار ما يلاقيه الطفل من إعراض أو نبذ من قبل رفاقه في المدرسة أو الحي. ● وهل لموضوع عنف الأطفال علاقة بما يتابعونه من مشاهد العنف على التلفاز وألعاب الفيديو؟ ❍ لا يخفى على أحد أن الإدمان على مشاهد العنف التي تعرض على شاشة التلفاز أو في ألعاب الفيديو صباح مساء قد تكون مدعاة للاعتداء على الغير كلما تعرض للمنع أو الحرمان والإحباط وكأنها الأداة الوحيدة للمواجهة. ذلك أن السهولة التي تعرض بها مشاهد العنف تلك والتأثير الآني الذي تحدثه في النفوس يجعل منها الوسيلة المثلى لتحقيق الأهواء والرغبات والتنفيس عن المنغصات التي لا تخلو منها حياة كل طفل. كما أن الهيئة التي يعرض عليها أبطال الرسوم المتحركة أو الأفلام تجعل منهم نماذج مفعمة بالقوة وعلى درجة من الوسامة أو الوجاهة والأناقة على نحو يبعث على الإعجاب والاقتداء. وهو ما نسميه في لغة علم النفس بالتماهي، وهي عملية لاشعورية يتشبه بموجبها الطفل بمن يعجب به من الكبار كالأب أو المعلم أو حتى الشخصيات الخيالية للقصص والأفلام فيكون لها جراء ذلك أبلغ الأثر في نفس الطفل. هذا بينما الأوامر والنواهي والنصائح التي تقدم للناشئة قد لا تجدي فتيلا أمام التأثير الآسر لمن يعجب به من أفراد المجتمع. ومع أن التماهي عملية نفسية طبيعية يتم بواسطتها بناء الشخصية واكتساب السمات والاتجاهات والأعراف السائدة في المجتمع، إلا أن الطفل قد يتماهى بنماذج منحرفة تتعارض والقيم السائدة في البيت أو المدرسة. وكلما تعرض الطفل إلى مشاهد العنف هذه في وقت مبكر من حياته زاد تأثره واشتد. وخلاصة القول أن للعنف جدورا شتى نفسية وأسرية واجتماعية وثقافية تتشابك في ما بينها لتفسر لنا كيف يصير العنف وسيلة لتصريف الانفعالات السلبية في النفس والتخفيف من وطأتها وفق محددات لا حصر لها. ● هناك بعض الآباء لا يكونون عنيفين في حين أن أبناءهم يكونون أعنف. كيف ذلك؟ ❍ صحيح لأن العنف ليس وليد علاقة الآباء بالأبناء فحسب، وإنما قد ينشأ داخل الأسرة من جراء تسلط أحد الإخوة أو الأخوات، وقد ينشأ عن الإحباط والحرمان المتولد عن التفريط في حاجات الطفل النفسية. ناهيك عن الأسباب النفسية المتمثلة في الإحساس بالنقص أو قصور في التواصل اللفظي فضلا عن تأثير الرفقة السيئة ووسائل الإعلام على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك فلا مناص من الإقرار بأن التربية الأسرية السليمة والمتوازنة بين أفرادها كافة ومحض الطفل ما هو بحاجة إليه من محبة وحنو وتقدير وإكبار لهي من العوامل الرئيسية في تربية النشء تربية قائمة على المحبة لا الكراهية وعلى اللطف لا العنف. ● ما الذي ينبغي فعله تجاه عنف الأطفال من جهة، وكيف يمكن تفادي العنف لديهم من جهة ثانية؟ ❍ أول ما يجب فعله الوعي بمعنى العنف ودلالاته وعلاماته حتى نفهمه. ولا بد لفهم مظاهر العنف أن نتسلح بالثقافة النفسية التي تقدرنا على استكناه حقيقة العنف بأنماطه اللفظية منها والجسدية، والعارضة والمتواترة، والسوية والمرضية، والفردية والجماعية. ولن يكتمل فهمنا إن لم نراع السياق الزماني والمكاني الذي يتجلى فيه العنف لدى أبنائنا لنعي دواعيه وخلفياته فنتفادى الأسباب الداعية إليه من قريب أو بعيد. والأداة المثلى التي تمكننا من ذلك الإنصات لمشاعر الطفل وأحاسيسه ومبلغ الضيق أو الألم الذي يلم به قبل لجوئه إلى العنف وبعده. والحال أننا غالبا ما نرد على عنف الطفل بعنف مثله حتى ولو كان الطفل في موقع الدفاع عن النفس. وثمة من الآباء من يحرض أبناءه على رد العنف بمثله، ويفاخر البعض منهم حينما يسمع أن ابنه صفع زميلا له أو تغلب على طفل أكبر منه لأن العنف في عرف هؤلاء إنما هو علامة على الرجولة والشهامة أو البطولة ومظنة تباه وتفاخر. وما دروا أنهم بذلك إنما يشجعون أبناءهم على التعدي على الغير من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا. وبهذه السبل لا نساعد أبناءنا على تدبير العنف والرد عليه بالطرق المناسبة تبعا لدواعيه وخلفياته والسياق العام لظهوره، إنما نزيده احتداما حينما نعاقب الطفل المعتدى عليه ونشجع المعتدي ولا نردعه. ● هل هناك إجراءات وقائية ضد عنف الأطفال: ما هي؟ ❍ ثمة إجراءات وقائية فائقة الأهمية لو أحسنا الانتباه لها والأخذ بها لتمكنا من تقليص حدة العنف بدرجة كبرى. من هذه الإجراءات أذكر: تفهم الآباء لفهم نفسية الطفل: تقتضي التربية السليمة أن نفهم مشاعر الطفل ونقدر أسبابها ونتائجها أملا في أن نمكن الطفل من تعرفها وتصريفها بالطرق السليمة التي تجنبه الضرر والضرار. إذ من غير المقبول أن يعجز الطفل عن تمالك نفسه تجاه نزعاته العدوانية كما لا يجوز أن تتحول لاشعوريا إلى مخاوف مرضية أو فزع ليلي يقض مضجعه فلا يقوى على ردها والسيطرة عليها. فمن علامات النضج الانفعالي أن يشعر الطفل بقدر من الأمن النفسي والانضباط الوجداني والانفعالي يُقدره على مواجهة المواقف العصيبة باتزان أكبر وبتوتر أقل. ولا ريب أن الاستعداد الذهني والنفسي للآباء وفهمهم لنفسية الطفل وتأهبهم لمعاونته والأخذ بيده بعطف ومودة وثقة لمما يهيئ الجو الأنسب والوسائل المثلى لبلوغ الطفل المرتبة المرجوة في النمو الانفعالي السليم. اجتناب البواعث العدوانية: لاحظنا أن الإحباط والحرمان والغضب والإحساس بالنقص والتعرض للاعتداء كلها عوامل كفيلة بأن تزرع في نفس الطفل بوادر العدوانية المستديمة كما توشك أن تفضي بالطفل إلى الجناح. ثمة مواقف نعجز فيها عن تجنيب الطفل بعض الخبرات الأليمة مثل تعريض الطفل للفحص أو مناولته الدواء أو إجراء الحقن أو الاستحمام ونحو ذلك، وعندها يلزم الإسراع بأقصى ما يمكن لإراحة الطفل وتخليصه من البكاء والصراخ. كما يجب تبصير الآباء والمربين بالمخاطر التي تحدق بالطفل جراء الإدمان على مشاهدته لأفعال العنف وكذا الألعاب الالكترونية التي تركز على مشاهد الصراع والاعتداء والمواجهة المسلحة، ولا سيما لدى الأطفال الذين يبدون ميلا إلى هذا السلوك أو توقا لهذا النوع من التسلية. تطوير الكفاءات والمهارات الاجتماعية والمعرفية والانفعالية للطفل والتوجه إلى الآباء لتوعيتهم بكثير من الحيثيات المتخفية وراء التصرفات العدوانية للطفل بغية تبصيرهم بدلالاتها ومؤثراتها وتبعاتها الحالية والمستقبلة. كما يجب تدريب الآباء على تدبير سورات الغضب عند أبنائهم وتعويدهم على أسلوب التحاور والتفاوض بدل التنابذ والتشاجر. تحسين بيئة الطفل: لقد تم التنبيه غير ما مرة إلى ما للبيئة الاجتماعية من أثر في استثارة النزعات العدوانية للطفل. ومن ثم وجب الاهتمام المبكر ببيئة الطفل الأسرية والمدرسية بما في ذلك أهله ومعلّموه سعيا لإعادة توازن سلوكياته وعلاقته بمحيطه. ومن هذا القبيل تشجيعه على توثيق عرى المحبة والصداقة بأتراب له مسالمين حتى تنشأ بينه وبينهم علاقات إيجابية تنأى به عن اتخاذ العنف وسيلة لفض النزاع أو الدفاع النفس وتخل باتزانه النفسي وأمنه وأمانه. تصريف المشاعر العدوانية: ومن أنجع الوسائل المتبعة لتصريف المشاعر العدوانية مساعدة الطفل على الإفصاح عنها شفاهيا بواسطة الإنصات والحوار الهادئ. فمن شأن التعبير باللسان أن يقوم مقام اليد في تلطيف حدة العدوان وكسر شوكته. ومن الوسائل التعبيرية المفيدة في هذا الشأن التمثيل والرسم واللعب الفردي والجماعي. فمن المعروف أن ألعاب المنافسة مثلا لمما يعين الطفل على تصريف كثير من نزعاته العدوانية بما يبذله من طاقة وجهد وبما يسفر عنه من تسلية يعود بعدها هادئا مطمئنا وقد تخلص من التوتر ومشاعر الغضب. الرفق بدل العنف: من الشائع أن يرد الأهل على غضب الطفل وعصيانه بغضب مماثل ظنا منهم أن من شأن هذا المسلك أن يخفف من حدة الانفعال ويفضي إلى الانضباط والهدوء. غير أن هذا السلوك حينما يأتيه الأهل في هذه المرحلة المبكرة من عمر الطفل يؤدي إلى نتيجة عكسية تماما، فتحتدم الانفعالات وتزداد مشاعر الاستياء والغضب والضيق اضطراما وتأججا في نفس الطفل. وبعض الآباء يجنحون للاستجابة الفورية لمطالب الطفل ورغباته كلما ارتفع عويله أو اشتد غضبه سعيا لتهدئته وإسكاته. غير أن الإذعان لرغبات الطفل وأهوائه عند كل سورة غضب قد يعوده على هذا المسلك، وآنئذ سيصرخ ويولول للحصول على مبتغاه وهو إزالة موانع الغضب والحصول في الآن ذاته على الحنو والاهتمام، وقد يتحول في نهاية المطاف هذا المسلك إلى عادة مستحكمة تعكر صفو الأسرة وتنغص عليها راحتها وسكينتها. وعليه فإن مواجهة انفعالات الطفل الصاخبة لا تأتي أكلها بغير الهدوء البادي على محيى الوالدين واستجابتهم الرزينة لمطالب الطفل بلا إفراط ولا تفريط. وبذلك يساعدان الطفل على أن يتعلم تدريجيا كيف يضبط انفعالاته ويتغلب عليها عند الملمات وأن يتعود كذلك على تقبل الحرمان والصبر على المكاره والصدود التي يلاقيها برزانة وتعقل.