لا يختلف اثنان على أن النظام السياسي بما تحمله كلمة النظام أو المنظومة من معنى هو الذي يضمن استمراريته عبر التغيير المستمر. وهنا وجب الإشارة إلى ما أقدم عليه النظام المغربي من تغييرات في شكل تنازلات دستورية وتعامل عقلاني مع مد تسونامي الربيع العربى حالت دون وقوع حوادث تذكر في حين خسف هذا المد بعدة أنظمة سياسية لم تمتلك في حينها الذكاء والجرأة على التغيير والتأقلم مع المتطلبات inputs الداخلية منها والخارجية. فالأنظمة البائدة والمنهارة لم تكن تعي بأن الزمن في حركة مستمرة وبأن العولمة الجارفة تؤدي بالضرورة إلى التغيير المستمر في المعطيات والمتطلبات التي يجب الانحناء لها أحيانا لأنه لم يعد ممكنا كما في السابق لأي نظام إمكانية القمع المفرط والقتل والدفن في جنح الظلام دون أن يراك أحد ولم يصير متاحا القيام بهاته الأفعال دون متابعة في ضوء تطور تقنيات التواصل الاجتماعي وطنيا و دوليا و في ضوء إحداث مؤسسات دولية كالمحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المنظمات الغير حكومية التي توثق وتدون مثل هاته التجاوزات صوتا وصورة. وفي نفس السياق وجب الوقوف على دهاء النظام المغربي في فك مخيم أكديم حيث وثق بكل احترافية جرائم بعض الانفصاليين الذين كانوا يطمحون إلى تشويه صورة المغرب على المستوى الحقوقي وإخضاعه للمراقبة الأممية في قضية حقوق الإنسان بالصحراء المغربية لكن السحر انقلب على الساحر وخرج المغرب أيضا منتصرا في هاته المناورات. لكن هاته النجاعة في تذليل القلاقل وهذا الذكاء والاحترافية في التعامل مع مختلف التحديات السياسية التي واجهها النظام السياسي المغربي يطرح علينا تساؤلا هو كالتالي: هل باستطاعته أن يهزم كل المطبات التي قد تواجهه وأن يطفئ كل الحرائق التي في جوهرها نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفساد مهيكل عبر لوبيات قوية عابرة لكل السلط القضائية والتشريعية والتنفيذية ومتداخلة بشكل مرضي بين عالمي المال والأعمال من جهة و قمة هرم السلطة التنفيذية في مشهد سوريالي أقل ما يمكن أن يوحي به هو تنافي المصالح فلا يمكن أن تكون قاضيا و متقاضيا أو مدعى عليه في نفس الوقت وإلا فإن مبدأ الحياد قد ضاع وضاعت معه مصالح الأمة وحتى في الليبرالية التي ندعي نهجها فالتنافس الحر والنزيه هي أحد أهم مبادئه حرصا على تكافؤ الفرص. إذن إلى متى سيصمد بناء هذا النظام السياسي أمام امتحانات إخماد حرائق هذا الوضع المختل والمرضي والذي يشبه إلى حد كبير ما كان عليه الحال في مصر قبل الثورة حيث استحوذ رجال المال والأعمال بشكل مباشر على السلطة التنفيذية وصاروا يعيثون فسادا واغرقوا البلاد بالديون في حين ضخموا ثرواتهم بنهم شديد وفي الأخير آلت الأمور إلى ما آلت إليه. ومرة أخرى نجد حاليا النظام السياسي المغربي في امتحان عسير هاته المرة أمام حراك سياسي معقد يتداخل فيه الإرث التاريخي والبعد العرقي والثقافي والبؤس الإقتصادي و الإجتماعي إنه حراك الريف كثالث أقوى تحدي لمرونة ومناعة النظام السياسي المغربي لكسب رهانه دون السقوط في فخ القوة المفرطة التي قد تحول مشكل الحراك ككرة ثلج تكبر مع تدحرجها عبر تسلسل الأحداث وتشكل خطرا على استقرار المملكة خصوصا مع تعاظم المتطلبات الخارجية أو الدولية إتجاه أي نظام سياسي نتيجة للعولمة الجارفة. فما هي إذن خصائص هذا الحراك ؟ وهل وجب أن يرقى إلى مستوى تصدر الأجندا السياسية ؟ وهل هناك قرار سياسي كرد على هذا الحراك وما هي سماته؟ وماهي إشكاليات تنفيذ هذا القرار ؟ لا يخفى على أحد أن منطقة الريف قد عانت الأمرين من طرف الاستعمار ومن طرف النظام المغربي فقد كانت منطقة الريف مسرحا لأعنف حرب إبادة جماعية على يد كل من المستعمر الإسباني والفرنسي حيث سجلت كأول منطقة في العالم استعمل فيها السلاح الكيماوي ومع بداية الإستقلال تعرضت لهجمة شرسة على يد النظام المغربي وصل إلى مستوى القصف بالطائرات الحربية تلى ذلك عسكرة المنطقة وتهميش كبير للساكنة مما دفعهم إلى هجرات متتالية إلى دول أروبا أما ما تبقى من سكان المنطقة فالتجؤوا إما للتهريب المعيشي أو للاتجار في المخدرات هذا في ظل تنامي وتوغل لوبيات الفساد من أجل احتكار ثروات المنطقة وفي ظل مضارباتهم التي أدت إلى غلاء المعيشة بشكل فاحش. إذن حراك الريف يمكن تصنيفه كمشكل سياسي متصدر للأجندات السياسية الوطنية الراهنة لأنه يمتلك جميع مقومات وخصائص التصدر من حمولة تاريخية عرقية اقتصادية واجتماعية ، من تحركات ومظاهرات جماهيرية يزداد زخمها يوما بعد يوم، من تحركات موازية لجمعيات وطنية و دولية ومن تغطية إعلامية كبيرة أيضا وطنية ودولية . في خضم هذا التدرج الخطير في الأحداث الذي أخذ يأخذ شيئا فشيئا بعدا أكبر ماذا كان رد السلطة العمومية كقرار سياسي هنا وجب التأكيد إلى أنه في بادئ الأمر كانت هناك محاولة تجاهل المشكل أو على الأقل الاستهانة به مباشرة بعد مقتل بائع السمك محسن فكري عبر تقزيم حجم الحراك وتبعات الحادث المأساوي في محاولة طي الملف كالعادة بسرعة وإنكار أي مسؤولية جنائية في مقتله. بعد ذلك أخذ الحراك يأخذ بعدا أكبر وصار من الضروري متابعة كل من تورط في الحادث لتهدئة النفوس وهو ما حصل بالفعل مع تنقل كل من رئيس الحكومة ووزير الداخلية شخصيا إلى منزل الشهيد مع تبليغ رسالة ملكية يتعهد فيها بضمان محاكمة عادلة وشفافة. كل هاته القرارات لم تمنع بعض الجمعيات واليساريين الذين كانوا يتحينون الفرصة لإعطاء بعد سياسي أكبر للقضية وهم معذورون نظرا لجمود بل لموت الآلة السياسية المنتخبة منها والغير منتخبة ولتجدر البيروقراطية المحلية التي تتقاسم مع اللوبيات المستفيدة من هذا الوضع وتريد الاستمرار على هذا الحال statu quo لكن مع تعاظم الحراك استشعر الماسكون بزمام الأمور ضرورة فعل شيء ما أكثر وطئا لجبر الخواطر وإطفاء الحراك بإقالة العامل وعدد من المسؤولين لكن هذا الإجراء لم إلى مستوى تطلعات الحراك أو رؤوس الحراك الذي صار أكثر توهجا ورفضا للحلول الترقيعية والسطحية هنا جاءت مرحلة العروض السياسية المتناقضة بين مخون للحراك و اتهامه بالإنفصالية والتبعية لأجندا خارجية وهو موقف الأغلبية الحكومية وبين مقر بمشروعية الحراك في محاولة بائسة لاحتواء الحراك كحزب الإستقلال والأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية. وهنا وجب التساؤل أيضا بعيدا عن منطق المؤامرة الذي قد يكون جائزا أليس من حق المتظاهرين الحق في غطاء ودعم معنوي من الفاعلين الخارجيين كالمنظمات الدولية الغير حكومية لتجنب قمع لا تغطية إعلامية له وإحراج أي محاولة نسف حراكهم السلمي بالقوة في ظل انسداد الآفاق وطنيا وقتل الثقة بين الريفيين والسلطة دون نسيان التنديد ببعض التصريحات العنصرية لقائد الحراك أما مسألة الأجندة الخارجية فمردود عليها فالعيب ليس في المتربصين باستقرار المملكة وما أكثرهم بل العيب في النظام السياسي الذي يشبه إلى حد ما جسم الإنسان فإذا كان بجسمك جرح ولم تعتني به وتسرع في علاجه ليلتئم فالميكروبات والطفيليات على اختلاف أنواعها تتربص به وتنتظر الفرصة للانقضاض عليه إذن فعامل السرعة والاستباقية والفعالية عناصر مطلوبة لتفادي إنتشار المرض وهلاك صاحبه . والحالة هاته فما هو إذن القرار السياسي الذي يجب تبنيه؟ لا شك أن مبدأ العقلانية هو المحدد لضمان المصلحة العليا للوطن والدخول في متاهات قد تعصف باستقرارنا وأمننا والكل يعلم أن رأسمال المغرب الوحيد هو استقراره لجلب العملة الصعبة وإحداث فرص الشغل عبر جلب السياح والاستثمارات وهنا أقول استقرارنا لأن جل إن لم نقل كل كبار رجال الأعمال وبعض المسؤولين الكبار وهذا ما يحز في نفسي لهم جنسيات مزدوجة وجوازات سفر خضراء وحمراء وعندما سيستشعرون الخطر يركبون الطائرات ويرحلوا عنا إذن ليس لنا مصير مشترك. فبناءا على تشعب المشكل ونظرا لحمولته التاريخية وحساسيته العرقية والثقافية ونظرا لانعدام الثقة تجاه السلطة وفي غياب أحزاب وطنية حقيقة ذات امتداد جماهيري ومؤطر له بعد مسلسل القتل الممنهج الذي لطالما نددنا به وبعواقبه لأن الأحزاب السياسية الحقيقية والتي تؤطر الجماهير الشعبية هي صمام الأمان لأي نظام سياسي، فبعد قتل كل أحزاب الحركة الوطنية أصبحنا كجسد مريض بالإيدز دون مناعة تذكر، نظرا لكل هذا وجب على صانع القرار أن يكون محاطا بخبراء حقيقيين محايدين بعيدين كل البعد عن دائرة مجموعات الضغط واللوبيات المستفيدة من استمرار الوضع على ما هو عليه، وأن يكون منفذوا القرار السياسي محليا غير متواطئين أيضا محليا أو مركزيا مع من لا يريد الإصلاح لاقتسام كعكة الريع. يجب أيضا الضرب بيد من حديد على كل مضارب يغتني على حساب تجويع الآخرين وأن تتم الإصلاحات بشكل فوري وشامل وفي إطار تصالحي ولاستعادة الثقة بين الريفيين والسلطة يجب رفع العزلة عن المنطقة برمتها بدواويرها وبلدياتها وعبر محاور عدة بطرق سيارة حديثة تربطها بكافة أنحاء المملكة يجب توفير شباك استثمار وحيد فعلي لتذليل مشاكل الاستثمار التي لا تعد ولا تحصى لتسهيل الاستثمارات الخارجية ولتشجيع الجالية على الاستثمار محليا يجب بناء مستشفيات فعلية بامكانيات بشرية و مادية يجب بناء جامعات و ملاعب و مراكز ثقافية وإعادة الاعتبار الفعلي للثقافة الأمازيغية يجب تشجيع السياحة المحلية لخلق فرص الشغل وأخيرا يجب أن يحس أولا وأخيرا المواطن الريفي بصدق الإجراءات التي تقوم بها الدولة المغربية اتجاهه في احترام تام لخصوصيته الثقافية بعد عقود من الإحباطات المتتالية والتوجس من كل ما هو مؤسساتي.