تقديم لما هبّت رياح الربيع في عدد من بلدان العالم العربي مبشرة بثورات شعبية على أنظمة الفساد والاستبداد التي حكمت بلدانها لعقود طويلة، كان الكثيرون من شباب وقادة الاحتجاجات يعتقدون أن التغيير سيأتي سريعا وأن أعلام الديمقراطية سترفرف في ساحات المدن العربية، كانت آمال الشعوب تتوق إلى فتح جديد يخلصها من قيود الاستعباد الذي عوض ويلات الاستعمار. آمال كانت تقارن ما تعرفه المنطقة العربية من تحولات بما شهدته دول أمريكا اللاتينية من انتقال ديمقراطي، ودول أوروبا الشرقية من عودة إلى الديمقراطية المدنية… فكانت تتمنى أن يشهد العالم العربي انفراجا ديمقراطيا أشبه بما وقع في القارتين... لكن، بعد مرور سنوات قليلة، بدأت الموجات الارتدادية في الظهور سريعا، وبدأت فلول وبقايا الأنظمة السابقة التي حسبت الشعوب أنها تخلصت منها في العودة تدريجيا إلى المشهد السياسي، والقضاء على المكتسبات الحقوقية التي نالها المواطن بعد الربيع. المغرب لم يخرج عن سياق ما عرفته باقي الدول العربية، إلا أنه كان "عزفا بنغم مختلف"، مباشرة بعد مسيرات 20 فبراير 2011، والتي للإشارة عرفت في بعض المدن أحداث شغب غير مسبوقة في عهد الملك محمد السادس وخصوصا في مدن الحسيمة، والعرائش وكلميم… ولم يتم تفكيك طلاسم هذه الأحداث التي تزامنت مع حراك شبابي سلمي متأثر بشعارات الربيع، ومناد بإسقاط الفساد والاستبداد. خطاب 09 مارس ودستور فاتح يوليوز الاستجابة جاءت سريعا عبر خطاب الملك محمد السادس يوم 09 مارس 2011، خطاب استحسنته الأغلبية، إن لم نقل الجميع، يتجاوب مع جزء مهم من مطالب حركة 20 فبراير دون ذكرها لفظا، ويقترح تعديلا دستوريا من أجل إدماج سلة الحقوق والاختصاصات والمؤسسات التي من شأنها تعديل طبيعة النظام الحاكم، والتخفيف من سلطته المطلقة. كان مطلب الملكية البرلمانية مطلبا مشتركا لدى عدد من الهيئات السياسية، إلا أنه لم يتم الإجماع عليه سواء من لدن الآلية السياسية أو القصر الذي لا يريد التفريط في مهامه بسهولة، فانهار حلم الوصول السريع ليعوض بحزمة إجراءات سماها البعض بخطوات الانتقال إلى ملكية برلمانية. استبشر المغاربة خيرا وصوتوا على دستور فاتح يوليوز 2011 ونظمت انتخابات سابقة لأوانها يوم 25 نونبر 2011، وفاز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى ليشكل حكومة أغلبية برلمانية برئاسة أمينه العام عبد الإله بنكيران، في تنزيل حرفي لمقتضيات الفصل 47 من الدستور الجديد. هكذا، استطاع النظام أن يتكيف مع مطالب الربيع العربي، وأن يصمد أمام ضرباته باعتماد إصلاحات هجينة تغير من شكل النظام دون أن تمس جوهره، مع إمكانية العودة بسهولة عندما تنقشع سماء المغرب وبعد أن تنجلي سحب 20 فبراير.. بنكيران ووظيفة الواقي للصدمات مع مرور الأشهر والسنوات، أخذ ينكشف القناع عن طبيعة الوعود التي قدمت، كان الهدف هو البحث عن إطار حديدي قوي من أجل امتصاص الصدمات مع تحميله كافة المسؤولية عن الأخطاء والتراجعات، استمرت جبهات الممانعة في التصدي للتغيير والانتقال الديمقراطي بعرقلة كل الخطوات الإصلاحية، أصبح محيط الملك أكثر قوة بانضمام فؤاد عالي الهمة إليه، وأصبح الوزراء يأخذون التعليمات من خارج مؤسسة رئاسة الحكومة، فواجهت حكومة "بنكيران" صعوبات من أعلى في تواصلها مع القصر ومستشاريه، ومن داخلها عبر ثلاجة القوانين "الأمانة العامة للحكومة"، ومن أسفل عبر معارضة شرسة في البرلمان، تعرقل مسار تشريع القوانين اللازمة لتنزيل الدستور. كان خروج حزب الاستقلال من النسخة الأولى لحكومة "بنكيران" الخطوة الأولى لبداية مسلسل التراجعات، وتم التعبيد للخطوة الثانية بإدماج حزب إداري عريق وحليف للقصر اسمه "التجمع الوطني للأحرار"، واستفراده بوزارتين مهمتين: وزارة الخارجية ووزارة المالية، داخل النسخة الثانية للحكومة السابقة، من أجل كسر هيمنة العدالة والتنمية على المشهد السياسي، الحزب الذي فشل في تحقيق طموحات المغاربة الكبرى في تغيير واقعهم باستثناء بعض الإصلاحات التي استفاد منها القصر ومقربوه أيضا. انتخابات السابع من أكتوبر و"البلوكاج" السياسي كان هدف صناع القرار أن يصلوا إلى خريطة سياسية واضحة المعالم مع اقتراب انتخابات السابع من أكتوبر، تفرز حكومة موالية للنظام بصيغته القديمة، والعودة تدريجيا إلى واقع ما قبل الربيع العربي و20 يناير وخطاب 09 مارس… لكنه لم يكن أمرا سهلا، خصوصا عندما قام حزب العدالة والتنمية بالتجديد لأمينه العام سنة إضافية، وإصرار هذا الأخير على الترشح وقيادة حزبه في الانتخابات التشريعية، متحديا مسيرة البيضاء، ودعم أطراف في الدولة لحزب الأصالة والمعاصرة، ليضع الدولة أمام مأزق صعب بعد نيله ل125 مقعدا وحيازته للمرتبة الأولى في الانتخابات، ويفرض نفسه مرشحا لرئاسة الحكومة بقوة القانون؛ غير أن خبرة النظام المتراكمة ومعرفته بنقاط ضعف وقوة الحزب الإسلامي الصاعد مكنتاه من خلق "بلوكاج" سريع مباشرة بعد إعلان النتائج بتشكيل تحالف ضم أحزابا من اليمين واليسار لإفشال مهمة بنكيران في تشكيل أغلبية برلمانية.. في المقابل، واصل الملك فتوحاته في إفريقيا محققا مكاسب سياسية واقتصادية سجلت باسمه، وكان أبرز مرافقيه طاقم مستشاريه الذين أصبحوا يشكلون الحكومة الفعلية رفقة الزعيم الجديد للأحرار "أخنوش" والمسؤول على خزانة الدولة الوالي القديم "بوسعيد". مرحلة دبّ فيها اليأس والذعر في نفوس العديد من المتتبعين، وعرفت نقاشات ساخنة عبر الصالونات المغلقة والتجمعات المفتوحة ومنابر الإعلام، وانقسم الجمهور بين داع إلى انتخابات جديدة تؤسس لأغلبية قوية، أو خلق حكومة سريعة لتجاوز أزمة "البلوكاج".. كان ضغط القصر فيها بارزا وحاسما، إذ أعفى عبد الإله بنكيران بجرة قلم وعين خلفه سعد الدين العثماني الذي تفاجأ بحجم المهمة.. ومنذ ذلك الحين، أصبح ذلك الرجل الذي لم نكن نعرفه….. شكل حكومة هيمن عليها التقنوقراط، وحزب الأحرار، ودخلها الاتحاد الاشتراكي ب"صباطه" وووو... في ظرف لم يتجاوز 15 يوما.. لاذ حزب العدالة والتنمية بالصمت وانزوى أمينه العام في غار الليمون، وانتشى حزب الأصالة والمعاصرة طربا، وتهللت أسارير الوافد الجديد لحزب التجمع الوطني للأحرار، واطمأن إدريس لشكر على مقعده ككاتب أول لحزبه، بينما فتحت رشاشات النار على حميد شباط وحزب الاستقلال، لتقسم نقابته وتعرقل مؤتمره عقابا له على تمرده في اجتماع 09 أكتوبر.. حراك الريف يعيد 20 فبراير إلى الواجهة ليجد المغاربة أنفسهم أمام مشهد سياسي باهت، يتلاعب بأمنائه العامين كالأراجوزات، لا علاقة له بنتائج انتخابات السابع من أكتوبر، ويستمر إغلاق أقواس الربيع تدريجيا… بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار.. فجأة، ينتفض بركانالحسيمة الذي كان يعيش حراكا رتيبا محدودا منذ مقتل محسن فكري مطحونا في شاحنة زبالة، اشتعلت جذوة الحراك لتعلن انتفاضتها أمام التهميش المعلن والإصلاحات الشكلية التي يتم تسويقها على أنها إبداع للنظام المغربي أمام ما تعرفه المنطقة العربية من تطاحنات.. انتفض الريف عبر حراك شبابي رفع مطالب اجتماعية تحت رايات أمازيغية وأخرى تعود إلى حكومة الخطابي رمز منطقة الريف، رافعين مقولته "واش انتوما حكومة أو لا عصابة؟؟"، كشعار مستفز لحكومة ظن واضعوها وكتاب سيناريو إخراجها أنهم قد أفلحوا في مهمتهم. شكل حراك الريف جرس الإنذار الذي انتبه إليه المغاربة واستفاقوا ليدركوا حقيقة العبث السياسي الذي يمارس تحت غطاء دستوري، وبعدما استفحلت وتيرة الاعتقالات في صفوف قادة الحراك، وتجمع المغاربة من مختلف ربوع المملكة في مسيرة حاشدة بالرباط يوم الأحد 11 يونيو الجاري رافعين شعارات 20 فبراير من جديد يتقدمها شعار إسقاط الفساد والاستبداد رافعين صور أخنوش والهمة والعماري ومطالبين باستقالة العثماني وحكومته.. وماذا بعد؟؟ أزيد من 5 سنوات بقليل، كانت كافية لتذكيرنا جميعا بضرورة تقييم سلة الاصلاحات التي قدمت عبر دستور فاتح يوليوز، للتساؤل جميعا عن طبيعة هذا التحول الذي يعرفه المغرب، هل هو إلى الأمام أم إلى الوراء، أم أنه ثابت في مكانه، لا يتحرك قيد أنملة.. تقييم المسار والتحولات وظيفة مختبرية، تستلزم تجند باحثين أكفاء والاستعانة بخبراء أجانب درسوا الانتقال الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، من أجل تفسير الظاهرة المغربية عبر مقارنتها بالتجارب السابقة تاريخيا أو مثيلاتها لدى دول الجوار.. لكن من الواضح أن هناك تحولا عميقا يجتاح المجتمع المغربي، يستلزم فهما ينبني على أدوات ووسائل جديدة لا يتوفر عليها النظام المغربي الحالي، ولم يهيئ نفسه لها، عندما ظل معتمدا على بقايا نخب سياسية فاقدة للمصداقية ومتعاونين يغلب عليهم طابع التسرع والمصلحة والتملق أكثر من التفكير الرزين لهذا الوطن، وانسحاب عدد من الزعامات التاريخية التي فقدت الأمل في التغيير.. وبينما يستمر حراك الريف في التوهج، تستمر عثرات الإصلاح الهجين وتنكشف سوءة أطروحة "الإصلاح في ظل الاستقرار".. * رئيس مركز هسبريس للدراسات والإعلام