العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    الرجاء الرياضي ينهزم أمام ضيفه الجيش الملكي (0-2)    إسرائيل توافق على وقف إطلاق النار في لبنان بدءا من يوم غدٍ الأربعاء    الملك محمد السادس يوجه رسالة إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف    الأمن يحجز حيوانات معروضة للبيع    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي        تنفيذا للتعليمات الملكية السامية.. وفد من القوات المسلحة الملكية يزور حاملة الطائرات الأمريكية بساحل الحسيمة    طلب إحضار إسكوبار الصحراء ولطيفة رأفت.. هذا ما قررته المحكمة    بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        هيئة حقوقية تنادي بحماية النساء البائعات في الفضاءات العامة    دراسة: سوق العمل في ألمانيا يحتاج إلى المزيد من المهاجرين    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    النظام العسكري الجزائري أصبح يشكل خطرا على منطقة شمال إفريقيا    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    النقابة الوطنية للإعلام والصحافة … يستنكر بشدة مخطط الإجهاز والترامي على قطاع الصحافة الرياضية    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف: الوصفة الذكية التي أنقذت الملكية من دفع ضريبة الربيع العربي
نشر في اليوم 24 يوم 16 - 02 - 2014

يوم حُبست فيه الأنفاس واختلطت فيه الأوراق، وراح فيه بعض المغاربة يحضّرون أنفسهم للأسوأ، مخزنين الطعام ومتسمّرين أمام حواسيبهم منتظرين ما ستسفر عنه الموجة الفيسبوكية الزرقاء. يومها كانت شعوب مجاورة تخرج للاعتصام في الساحات، ولا تعود منها إلا بعد التأكد من طرد حكامها من قصورهم التي ألفوها. فيما كان أقصى ما رفعته لافتات المحتجين هنا، ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، وفصل واضح بين السلطة والثروة، وتمكين الشعب من السيادة الكاملة على تدبير شؤونه عبر حكومة يفرزها برلمان منتخب بطريقة شفافة وديمقراطية.
مطالب استقرّت تحت سقف الملكية، وحرصت الهيئات والتنظيمات التي أطرت المتظاهرين أنفسهم على منع أي انفلات أو تجاوز في الشعارات؛ إلا أن ذلك لم يمنع البعض من وضع أيديهم على قلوبهم، والخروج لمجابهة حركة «20 فبراير» باسم الدفاع عن الملكية وحمايتها. في صدارة هؤلاء كان يوجد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، وهو حينها الزعيم السياسي المعارض. موقف يعكس صعوبة الامتحان الذي كان النظام السياسي المغربي في مواجهته، حيث كانت الملكية في مواجهة سؤال تاريخها ومشروعيتها الدينية والسياسية، أمام آلاف شبان جيل الفيسبوك.
بين فبراير 2011 وفبراير 2013، انتهى الخوف في السنة الأولى، ودارت معركة رسم الحلبة السياسية في السنة الثانية، وكشفت الثالثة عن إغلاق شبه نهائي لقوس «الربيع العربي» وما أفرزه من تنازلات من جانب السلطة ومكاسب ديمقراطية ودستورية. عودة إلى المربّع الأول الذي تلعب فيه المؤسسة الملكية الأدوار الأساسية والكبرى، تحقّقت بفعل وصفة تجمع في مقاديرها بين سلسلة من القرارات والإجراءات والانحناءات أمام الموجة، ولعب جيّد على حبال التوازنات الدولية، التي خوّلت المغرب الاستفادة من علاقاته السياسية والاقتصادية الوثيقة بالأوربيين، وفي مقدمتهم فرنسا؛ واستثمار تحالفه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، اقتصاديا وأمنيا؛ وتعزيز روابطه بإمارات نادي الملكيات العربية.
فإلى جانب الجواب الذي قدّمه الملك في خطاب 9 مارس 2011، المُعلن عن مشروع الإصلاح الدستوري بفصوله ال180؛ استعملت السلطات خطة محكمة ومتكاملة، جمعت بين الحرص على «توازن» الشارع بين متظاهري «20 فبراير» و«الشباب الملكي»، ومزاحمة الأصوات المعارضة في الإعلام والمواقع الاجتماعية، من خلال تناسل المواقع والصفحات المؤيدة للنظام، وإغراقها في سيل من الرسائل والأخبار المضادة؛ فيما سارعت حكومة عباس الفاسي، في عز احتضارها، إلى «شراء» سلم اجتماعي مازالت حكومة عبد الإله بنكيران تدفع فاتورته الثقيلة، لما ترتّب عليه من مقابل مالي، ودخل الهولدينغ الملكي في مسلسل ل«شفط الشحوم»، حيث حذفت SNI من قائمة منتوجاتها كلا من الزيت والحليب، وغيرهما من المواد الأساسية…
وفيما تولّت أجهزة الدولة مهمة التحضير الهادئ لهذه الوصفة، اضطلع رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، بدور خاص في رحلة إغلاق قوس «الربيع العربي»، حيث زاوج بين الدفاع عن الخيار السياسي الدستوري المتمثل في الدفاع عن الوجه المحافظ للملكية وإمارة المؤمنين، وبين عمل ميداني غير مسبوق، واجه من خلاله نيران الشارع الملتهب، بتجوّله على مدى شهور بين مختلف أنحاء المغرب، مزاحما شباب حركة «20 فبراير» الخارجين للتظاهر. وأصبح بنكيران، منذ ذلك الحين، يُشهر في وجه خصومه ما يعتبره دورا حاسما قام به هو وحزبه في مواجهة التحرّك الاحتجاجي ونزع فتيله، موازاة مع ما يقدّمه من تنازلات أعادت المؤسسة الملكية تدريجيا إلى مربعها الأول، كأهم وأكبر مكوّن للسلطة التنفيذية.
في مثل هذا الأسبوع من السنة، وقبل ثلاث سنوات تحديدا، كانت رياح مختلفة عن المعتاد تهبّ على المغرب قادمة من الشرق. هذه الدولة الاستثناء التي استعصت على حكم أكبر إمبراطورية إسلامية أسسها العثمانيون الأتراك، واختارت منذ عقود أن تولي وجهها شطر الغرب بحثا عن التقدم والحضارة؛ باتت في مواجهة مدّ ثوري أشعلته نيران البوعزيزي في تونس، لتصل ألسنة لهبه إلى جميع أطراف الجسم العربي العليل. «الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد»، هذا ما ردّدته آلاف الحناجر التي خرجت لأول مرة في تاريخ المغرب بشكل متزامن ومنظم في أكثر من خمسين مدينة، لتردّده وجوه بالكاد جاوزت العتبة الأولى للشباب رافعة أعلاما سوداء.
أسابيع قليلة بعد انتشار عطر «الياسمين» القادم من تونس، وتناثر أوراق الفل المصري على مجموع الرقعة العربية، قُطع الشك باليقين، وكان الموعد الرسمي لانطلاق الفصل المغربي من «الربيع»، هو يوم الخميس 17 فبراير 2011، حيث سادت أجواء «ثورية» داخل مقرّ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بمناسبة ندوة صحافية دعا إليها شبان خرجوا من الشاشات الزرقاء ل«فيسبوك»، رفقة المنظمات الحقوقية التي تدعمهم.
غصّت القاعة بحضور غفير، أخذ الفنان الساخر أحمد السنوسي الكلمة في اللقاء، معتبرا أن المتردّد لا يصنع الثورة، وداعيا إلى توحيد الصفوف، و«مساندة شباب «20 فبراير حتى لو متنا فسيكون ذلك في سبيل الوطن». وخاطب «بزيز» الشباب الداعي إلى التظاهر قائلا إن الأمر لن يكون سهلا، وإن «النظام شرس، وحتى الذين كانوا في المعارضة سيواجهوننا». وفي نهاية الندوة شرع الشباب والحقوقيون الحاضرون في ترديد أناشيد الثورة رافعين شارات النصر.
لحظتها كانت أذرع السلطة الترابية والأمنية تتحرّك في جميع الاتجاهات لتدبير وضع سياسي وأمني غير مسبوق. وزير الداخلية حينها، الطيب الشرقاوي، يستدعي زعماء الأحزاب السياسية، والوزير الأول، عباس الفاسي يقلّده فيستدعيهم إلى بيته، وموضوع واحد في جدول الأعمال هنا وهناك: دراسة كلّ ما يمكن أن يؤدي إلى التهدئة، ونزع أقصى ما يمكن من أعواد الحطب كلما اقتربت النيران. فيومها كان اثنان من أكثر الأنظمة العربية قوة وبوليسية قد تداعيا تحت زخم الخرجات الشعبية غير المألوفة ولا المسبوقة. النظامان المصري والتونسي كانا، إلى غاية أيام قليلة سابقة، النموذج والقدوة التي بشّر البعض هنا باتباعها لمنع وصول الوافدين الجدد على الطيف السياسي، أي الإسلاميين، إلى الدائرة العليا لأسطوانة السلطة، ولإحكام القبضة الأمنية والاقتصادية على البلاد.

الخوف

عشية اليوم الموعود، أي يوم الأحد 20 فبراير، تلقت كل من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، دعوة إلى مجالسة وزير الداخلية السابق، مولاي الطيّب الشرقاوي. «درسنا مع الوزير كيفية تأطير المسيرات المُرتقبة، وقلنا له إن نزولنا إلى الشارع هو لتأطير الشباب والقيام بدور المراقبة»، يقول مصدر حضر ذلك الاجتماع. لكن، وما كادت ساعات قليلة تمرّ من يوم السبت 19 فبراير، حتى فجّرت وكالة المغرب العربي للأنباء قنبلة الإعلان عن إلغاء المسيرات المُبرمجة، ما اعتبر «انقلابا» راحت وسائل الإعلام العمومي تبثّ «بيانه الأول»، معزّزة إياه بتصريحات أحد الذين تزعموا الدعوة، باعتبارهم شبابا كانوا ينوون الخروج وتراجعوا. أسلوب أثار سخط العديد من متتبعي القناتين الذين اعتبروا أن الإعلام الوطني يستخف بعقول المشاهدين الذين هجر أغلبهم هذه القنوات في اتجاه الفضائيات الأجنبية والعالم الافتراضي.
في يوم الأحد 20 فبراير 2011 كان متظاهرون، شيوخ وصغار، يقفون جميعا تحت أمطار قرّرت أن «تخرج» بقوة في ذلك اليوم، وراء لافتة واحدة وردّدوا بصوت واحد: «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، و«الشعب يريد دستورا جديدا»، فيما جمع البعض بين ترديد الشعارات ورفع لافتات خاصة كُتب عليها: «لا للجمع بين السلطة والثورة»، و«الملكية البرلمانية سبيلنا نحو الديمقراطية». هكذا بدت ساحة باب الأحد في قلب العاصمة الرباط، صبيحة ذلك اليوم التاريخي.
ضباط ورجال أمن ومُخبرون وقيّاد وشيوخ ومقدّمون أحاطوا بالساحة القريبة من المقر المركزي لحزب الاستقلال، فيما غاب أعضاء هذا الحزب «العتيد» عن الوقفة تاركين لمنظميها إمكانية المطالبة برحيل عباس الفاسي وحكومته. ف«شباب 20 فبراير» الداعون إلى الخروج في مسيرات حاشدة؛ جعلوا كلا من حكومة الاستقلالي عباس الفاسي والبرلمان في مقدمة أهداف تحرّكهم الاحتجاجي. وأعلنوا ضرورة حلّ الحكومة الحالية والبرلمان، باعتبارهما «معقل الرشوة والفساد والشفرة، ولا يمثلان الشعب»، بتعبير الشابة تهاني مضماض خلال الندوة الأولى للحركة التي انعقدت يوم 17 فبراير. فيما كانت أولى أخطاء الحركة تولد معها: عدم تحديد سقف سياسي لمطالبها. فقد أحجم الجميع عن إعطاء أي تفسير للمطلب الأول ل«شباب عشرين فبراير»، والمتمثل في وضع دستور ديمقراطي. واكتفى الشاب أسامة الخليفي حينها بالقول إن هذا المطلب يعني إلغاء الدستور الحالي (دستور 1996) ووضع آخر ديمقراطي لا يكون فيه أي تناقض بين الفصول، ويستجيب بالكامل لإرادة الشعب المغربي، «نحن لا نناقش الأشخاص ولا شكل النظام، بل نريده دستورا ديمقراطيا، وعدا ذلك فليس من اختصاصنا بل من اختصاص الأحزاب السياسية»، يقول أسامة ردا على سؤال ل«أخبار اليوم» طرحته في الندوة الصحافية نفسها.
مرض مبكّر آخر ظهرت أعراضه منذ الخرجة الأولى، عندما بدأت بعض بوادر الانقسام، بتشكيل مجموعتين، إحداهما يسارية والثانية إسلامية، فكانت أبواق اليساريين سباقة إلى استحضار القضية الفلسطينية، وردّدت شعارات مستلهمة من ثورة الفل المصرية، من قبيل: «هوما ياكلو لحم وفراخ.. وحنا الفول دوّخنا وداخ»، و«هوما مين هوما مين.. طماعا ومضاربين.. أمراء وسلاطين.. وحنا مين احنا مين.. فقراء ومناضلين…». وبين الفينة والأخرى، كان المتظاهرون يتذكّرون المجازر التي كان يرتكبها العقيد معمّر القذافي في ليبيا، فيردّدون: «القذافي.. أساسان (مجرم)»، و«تحية مغربية للجماهير الليبية». ومن تونس، نقل المتظاهرون رسالة من البوعزيزي، بقولهم: «البوعزيزي صيفط ميساج.. من ثورة تونس قرطاج.. الثورة للطغاة هي العلاج…».

استنفار

خوف وارتباك واستنفار عمّ أجهزة الدولة هنا في المغرب، من مركز القرار إلى أم الوزارات إلى أصغر مقاطعة من تراب المملكة. اعتقالات ومواجهات وحرائق اجتاحت المملكة، مع عواصف هوجاء من الشائعات والشائعات المضادة، أسقطت الحكومة وحلّت البرلمان وحذفت شركات وعيّنت مسؤولين وأعفت آخرين. وكلّ شيء انطلق مباشرة بعدما أيقن الجميع بمرور هادئ وبأقل الخسائر لموعد 20 فبراير 2011 الذي انتظره الجميع.
التعاطي الرسمي مع ما أصبح منذ ذلك الأحد المشهود يسمى رسميا «حركة 20 فبراير»، بدت ملامحه أكثر وضوحا وغموضه أكثر انقشاعا. فقد مرّت الموجة وانحنى أمامها المغرب وأصبحت خلفه لا أمامه، فبادر الوزير الطيب الشرقاوي إلى استدعاء أمناء أحزاب الأغلبية والمعارضة، بهدف دراسة مقترحات الأحزاب و«آرائها» بخصوص التعديلات الواجب إدخالها على قانون الأحزاب وقانون الانتخابات. تاريخ الاجتماع كان هو يوم الأربعاء 23 فبراير، أي ثلاثة أيام بعد اليوم المشهود، ورغم أن مسؤولا حزبيا مثل الأمين العام لحزب التقدّم والاشتراكية، قرّر أن يقف ضد مبادرة شباب 20 فبراير، وأعلن عدم مشاركته فيها، فيبدو أن حرارتها تملّكته، فراح يستعرض أمام وزير الداخلية لائحة مطالبه السياسية، ليوقفه الشرقاوي عند نقطة التعديلات الدستورية، مُعلما إياه بأنه أخطأ في العنوان، وأن مكان مثل هذا الحديث ليس هو ذلك الاجتماع.
في خلفية ذلك اللقاء، كان القائمون على الشأن الأمني و«الإدارة الترابية» بالمملكة يسهرون على إنزال خطّتهم لاحتواء تسونامي 20 فبراير، فتقاطرت التعليمات الصارمة على المسؤولين الأمنيين إقليميا وجهويا، عنوانها عدم التسامح مع أي تحرّك احتجاجي وإجهاضه في المهد. وصبيحة اليوم الذي استدعى فيه الشرقاوي زعماء الأحزاب، تم أيضا استدعاء «زعيم الحكومة»، الأمين العام لحزب الاستقلال، عباس الفاسي، في عزّ محادثاته مع نظيره رئيس الحكومة القطرية هناك، ضمن أشغال اللجنة العليا المشتركة. مرافقون للفاسي قالوا إن مكالمة عاجلة تلقاها الوزير الأول، فقام من مكانه معتذرا وشدّ الرحال إلى المغرب الذي حلّ به في الرابعة من صباح الخميس.
«ساد توتّر وتخوّف كبير لدى جهات في السلطة، رغم أن حجم التظاهرات كان صغيرا»، يقول مصدر مقرّب من دوائر القرار، والذي أوضح أن ضعف تحركات ما بعد 20 فبراير تتجسّد أكثر في ظهور بعض التناقضات بين الداعين إلى التظاهر، وبروز أجندات سياسية حاولت التحرك وإخراج نقاشاتها من الصالونات إلى الشارع وقيادة المبادرة التي قام بها الشباب. مصدرنا المطّلع على بعض من كواليس القرار الرسمي قال إن الدولة كانت تراقب تطوّر الحراك، «وقد بدا لها بعد أسبوع من 20 فبراير، أن حجم الاستجابة لدعوات التظاهر لم يكن كبيرا، ولم تسمح بالخروج يومي السبت والأحد المواليين إلا «باش تضحّكهوم فراسهوم» وتُظهر ضعف حجم الاستجابة». مصدرنا فسّر التغيّر المفاجئ في الموقف الرسمي بعد 20 فبراير وتحوّله إلى اعتماد الصرامة في مواجهة التظاهرات، بكون «الدولة اعتبرت أن تسامحها يوم 20 فبراير وابتعادها عن امتظاهرين هو ما شجّع الناس على الخروج، وأنها إذا أنزلت قواتها لتراجع الكثير من المترددين».
وبعدما شكّلت جماعة العدل والإحسان، منذ المسيرة الأولى لحركة 20 فبراير، لمكوّن الأكبر والأساس للحركة في كل مسيراتها، وظلّت اللمسة التنظيمية المحكمة لجماعة الراحل عبد السلام ياسين تميّز خرجات الحركة الأسبوعية، من خلال الحضور المكثف والانضباط التنظيمي واحترام الشعارات التي تنطبق والتوجه السياسي للجماعة واختياراتها الظرفية، ومع توالي الخرجات الأسبوعية، وتعمّق الهوة التي تفصل شباب الجماعة عن نظرائهم المنحدرين من تيارات يسارية و«تقدمية»، وبعدما أدى مسار الأحداث إلى اعتماد الدستور الجديد وانتخابات 25 نونبر 2011؛ فجّرت جماعة العدل والإحسان قنبلة من العيار الثقيل، وأعلنت انسحابها النهائي من صفوف حركة 20 فبراير الاحتجاجية، بمجرّد فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات، وتعيين عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة.

الملك يبادر

أسبوعان اثنان فقط بعد الخروج الأول كانا كافيين كي يقدم الملك جوابه عن التحرك الشعبي غير المسبوق في عهده، ليطلّ على شعبه في خطاب تاريخي يوم 9 مارس 2011، مبشّرا بإصلاحات كبرى، وبالتخفيف من تركيز سلطات الملكية التنفيذية، ونقل بعض السلطات التي ظلّ يمارسها الملك في دساتير الحسن الثاني، إلى الحكومة في شخص وزيرها الأول الذي سيُصبح في الدستور الجديد رئيسا للحكومة، وبتعزيز صلاحيات البرلمان في التشريع والمبادرة ومراقبة الحكومة. قال الملك محمد السادس في هذا الخطاب إنه يخاطب الشعب المغربي «بشأن الشروع في المرحلة الموالية من مسار الجهوية المتقدمة، بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، وما تقتضيه من مراجعة دستورية عميقة».
الباحث المتخصص في العلوم السياسية، رشيد مقتدر، فسّر سرعة استجابة الملك محمد السادس للمطالب الداعية إلى التغيير بوعيه الكبير بحساسية المرحلة، «وإدراك لما تحمله من تحديات مستقبلية غير محمودة العواقب، وهناك عامل العمق التاريخي للمؤسسة الملكية وتجذرها المجتمعي، إلى جانب مراكمة الملك الشاب لتجربة سياسية جديدة غنية في الحكم تستند إلى التفاعل الإيجابي السريع والسعي إلى المزيد من القرب مع نبض الشارع، وهو ما جعل التجربة المغربية في تدبير مرحلة الربيع العربي تعتمد خيار الإصلاح السياسي والتغيير في إطار الاستمرارية، ما أثار اهتمام العديد من السياسيين والباحثين كنموذج لبلد استطاع الحفاظ على استقراره ولحمته في زمن التحولات والعواصف».
«المؤسسة الملكية في المغرب تعاملت بشكل استباقي وذكي وبنهج استراتيجي مع ما وقع»، يقول القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي وأستاذ القانون الدستوري، حسن طارق، الذي أضاف أن رد فعل المؤسسة الملكية على خروج حركة 20 فبراير كان سريعا، «فبين 20 فبراير و9 مارس أقل من ثلاثة أسابيع، وعلاوة على السرعة، كان الرد في عمق الإشكالية السياسية والدستورية، حيث توجه الملك مباشرة إلى مصدر التوتر، وأجاب عن السؤال المركزي، ولم يقدم جوابا أمنيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا كما فعلت أنظمة أخرى».
من جانبه، قال أستاذ علم السياسة، محمد ضريف، إن طبيعة الرد الذي بادرت إليه المؤسسة الملكية فاجأت جزءا كبيرا من الطبقة السياسية المغربية نفسها، التي سارع قسم كبير منها إلى إشهار ما يُعرف بالاستثناء المغربي، قبل أن يفاجؤوا بخطاب 9 مارس. فيما يضيف حسن طارق أن خطاب الملك جاء مطابقا للإشكالية التي طرحتها حركة 20 فبراير، والمتمثلة في «حالة التكلس السياسي التي كان يعرفها المغرب، والناجمة عن عدم الربط بين المسؤولية والمحاسبة، وعدم الربط بين نتائج الاقتراع والحكومة». فيما كان التوجه السائد منذ 2008، حسب حسن طارق، يوحي بأن الأزمة في المغرب توجد على مستوى الأحزاب، وأن الحقل الحزبي هو الذي يحتاج إلى تأهيل.
الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية، رشيد مقتدر، يحرص هنا على الوقوف عند التباينات الموجودة بين الدول العربية في تعاملها مع «الربيع العربي». ورغم إقراره بكون الأنظمة العربية تتسم بهيمنة الدولة على المجتمع، يعود في المقابل ليعارض وضع كل الأنظمة العربية في خانة الاستبداد والتسلط، والحكم عليها ككتلة موحدة دون ذكر الاختلافات الموجودة بينها، «ونؤكد رفضنا لهذا المنهج النمطي التعميمي الذي يبقى موجها بخلفيات إيديولوجية وأبعاد سياسية، كما أنه لا يأتي بأي جديد في ما يقدمه من تحليلات أو تفسيرات».
مقتدر يؤكد أن السلطوية داخل الأنظمة العربية مستويات متقاربة ونماذج مختلفة، «فهناك السلطوية الجامدة (الأنظمة الشمولية والعسكرية) وهناك السلطوية التقليدية، وهناك أخيرا السلطوية المرنة أو الديمقراطية الموجهة أو المتحكم بها، وهي نماذج سياسية تمنح هوامش سياسية وفقا لخطوط حمراء محددة لقواعد اللعبة السياسية، وتفسح مجالات معينة للفاعلين السياسيين للتحرك والمنافسة دون التأثير في طريقة اشتغال النظام أو تغيير القواعد الناظمة للعمل السياسي». ويخلص مقتدر إلى أن ما يفسر بروز ما سمي ب«الربيع العربي» أو «الثورات العربية»، هو انسداد آفاق التغيير السياسي والاجتماعي في سياق القواعد المنظمة للعبة سياسية ظلت محدودة الرهانات، «فشكلت «الثورات العربية» في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها رغبة جماهيرية تلقائية في تقويض لعبة الحكام السياسية ونخبهم وتحالفاتهم المصلحية بالبحث عن آفاق سياسية أرحب خلال مرحلة ما بعد الثورة».

القمع بعد التساهل

في المغرب، كان أحد العوامل التي أبقت الطريق مفتوحا أمام الملك ليقود المبادرة في الإصلاح، هو حركة 20 فبراير نفسها، التي جعلت لنفسها من خلال الشعارات التي رُفعت في مسيراتها، سقفا لا يتجاوز المؤسسة الملكية، ويقف عند مطلب الملكية البرلمانية. كما اختارت الحركة أن توجه شعاراتها واحتجاجاتها إلى مؤسسات وشخصيات ورموز، وإن كانت قريبة من المحيط الملكي، إلا أنها كانت أي شيء إلا الملك. وعندما كانت بعض الشعارات تنفلت من رقابة المنظمين، وتمس شخص الملك مباشرة، كانت أغلبية الجهات المنظمة تتبرأ وتنفي. ف«المؤسسة الملكية نظرت إلى المطالب التي رفعتها حركة 20 فبراير على أنها مشروعة، من قبيل الدعوة إلى إسقاط الفساد والاستبداد والاحتكار والريع…»، يقول الباحث محمد ضريف، موضحا أن الملك نفسه كان قد دعا في عدد من خطاباته إلى إصلاح القضاء واعتماد الجهوية الموسعة والحد من الفساد والتجاوزات… «فلم تتعامل المؤسسة الملكية مع الحركة بالمنطق الكمي، أي كم عدد الذين خرجوا في المسيرات، بل تعاملت معها من الناحية الكيفية، أي هل مطالبها مشروعة أم لا، ولا أحد يمكنه الوقوف ضد شعارات إسقاط الفساد».
بين الأربعاء 9 مارس والأحد 13 مارس أربعة أيام، مدة قصيرة لكنها كانت كافية لتقفز مؤشرات بورصة التفاؤل إلى أقصى مستوياتها، وتعمّ الفرحة جلّ القلوب التي ضاقت في السنوات الأخيرة من خشية التراجع إلى عهود الظلام، وتصدّرت صورة الملك واجهة الأحداث باعتباره رمزا للأمل والتفاؤل لدى المغربي البسيط، بما يحمله في قراراته وجولاته من مشاريع التنمية والتضامن، وما تبثّه خطبه من بشائر الإصلاح والتطوّر. لكن الخطاب الجديد الذي تلقاه المغاربة في اليوم الرابع من هذا الاحتفال، كان صادما ومرا بطعم العلقم: هجوم قوي وكاسح لعشرات من رجال الأمن المدجّجين بالهراوات والمرتدين لخوذاتهم الحديدية وصدرياتهم الواقية من الرصاص، ضد بضع عشرات من الأشخاص الذين قال بعضهم إنه لا يتفق مع السقف الذي حدّده خطاب تاسع مارس، وإن طموحه يعلو ليتجاوزه، فيما اعتبر آخرون منهم أن تحقيق ما حمله خطاب الملك يتطلّب مواصلة الخروج والتظاهر وممارسة الضغط على معاقل الفساد وجيوب المقاومة التي لن يُثنيها التصريح الملكي لتتراجع عن مواقعها.
شيخ المعارضين اليساريين، محمد بن سعيد آيت ايدر، وأحد أبرز المناضلين من أجل إصلاح الدستور، محمد الساسي، ومجموعة من الصحافيين، كلّهم كانوا شهودا على هجمة اقترفها رجال الأمن ضد من تجرؤوا على النزول إلى الشارع يوم الأحد الموالي للخطاب. لماذا هذا التدخّل القمعي؟ «لأن المتظاهرين كانوا ينوون تحويل الوقفة أمام الولاية بساحة «لحمام» بالدار البيضاء، إلى مسيرة غير مرخّصة»، تقول قصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء صدرت حينها. هذا الحرص على التبرير قانونيا عبّرت عنه السلطات بإحضارها بعض وكلاء الملك إلى عين المكان، ومسارعة عشرات من رجال الأمن، الذين نفذوا الهجوم، إلى استصدار شواهد طبية تقول إنهم تعرضوا للضرب على يد المتظاهرين.
فبمجرّد انتهاء الخطاب الملكي بدا أن تعليمات صدرت إلى القوات العمومية من أجل قمع أي مظاهرة في الشارع بشدة، فسارعت هذه القوات إلى التدخّل بطريقة عنيفة في عدة مدن، من بينها الرباط وشفشاون وتطوان… وأصبح «من الواضح أن الدولة تريد حذف أي ضغط من الشارع، وحصر النقاش في الصالونات المغلقة، واحتكار عملية اختيار الفاعلين وتحديد التوجهات»، يقول الخبير الاقتصادي والمناضل اليساري، فؤاد عبد المومني، في تدوينة شخصية. فيما تحتفظ البيانات الصادرة في هذه الفترة بلائحة طويلة من التدخلات والاعتقالات، حيث كانت السلطات تستهدف الوجوه البارزة للحركة، من قبيل هؤلاء الذين تم اعتقالهم يوم الأحد 13 مارس بالدار البيضاء، أمثال أسامة الخليفي وأحمد مدياني ومصطفى مرموقة وآخرين، فيما كان نصيب خرجة الحركة في المحمدية تدخلا عنيفا وحصارا أمنيا لمقر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الذي لجأ إليه المتظاهرون.

تحرّك في الداخل والخارج

أربعة أشهر وعشرة أيام، أي مائة وثلاثون يوما الفاصلة بين 20 فبراير و1 يوليوز، مرت على المغرب مختلفة عن كل الأيام، بين اليوم الأول الذي خرجت فيه أكبر حركة احتجاجية في عهد الملك محمد السادس، واليوم الأخير الذي سجّل فيه عهد خليفة الحسن الثاني أكبر نسبة تصويت منذ اعتلائه العرش، بأكثر من سبعين في المائة؛ مرت 130 يوما حافلة بالصخب والمظاهرات والمناظرات. وشهدت هذه الفترة الاستثنائية من تاريخ المغرب الحديث إيقاعا قياسيا في المشاورات والنقاشات والمبادرات، حيث تحرّكت جميع أذرع وروافد الدولة الرسمية وغير الرسمية في جميع الاتجاهات. فالدبلوماسية تحرّكت بقوة في العواصم الغربية المؤثرة، خاصة منها واشنطن وباريس، طلبا للدعم والإبقاء على الثقة في قدرة المغرب على إثبات استثنائيته. فبعد عشرة أيام من الخطاب الملكي، طار وزير الخارجية والتعاون حينها، الطيب الفاسي الفهري، إلى واشنطن حيث التقى نظيرته هيلاري كلينتون. وقبل ذلك بأسبوع واحد كان المغرب في قلب تحرّكات دبلوماسية عليا في باريس، لمحاولة إنهاء محنة الليبيين مع الراحل معمر القذافي. «إن المغرب في وضع جيد يؤهله للقيادة في هذه المنطقة لأنه يسير على الطريق المؤدي إلى تحقيق التغيير الديمقراطي. وقد سمحت حكومة صاحب الجلالة الملك محمد السادس على الدوام لمواطنيها بالتعبير عن أنفسهم بشكل علني وسلمي، وكانت صريحة ومتعاونة في ما يخص التحديات التي تنتظرها. لقد أثبت الملك لمدة طويلة التزامه بالإصلاح»، تقول هيلاري كلينتون في تصريح صحافي يوم 23 مارس 2011.
من جانبه، سارع الاتحاد الأوربي إلى إبداء دعمه للمملكة في مواجهة اضطرابات الشارع، حيث أدرج المغرب ضمن أربع دول عربية قرّر الاتحاد مساعدتها ماليا على تحقيق الإصلاحات السياسية. وبين البيان الأوربي الأول في 8 مارس 2011 وبيانات أخرى صدرت في ماي ويوليوز من السنة نفسها؛ كسب المغرب تدريجيا مكانة الدولة النموذج في المنطقة، التي يسعى الأوربيون إلى دفع الآخرين إلى الاقتداء بها. دعم تخلّلته صفعة قاسية وجّهها الاتحاد الأوربي إلى المغرب بعد نحو شهرين من خطاب 9 مارس، بإدانته استعمال القوات العمومية للعنف في مواجهة المتظاهرين.
دعم صريح آخر تلقته سلطات الرباط جاء من ملكيات الخليج الخائفة من الإصابة بنيران الثورات. وبلغ هذا الدعم ذروته السياسية في غشت 2011، حين عرض مجلس التعاون الخليجي على كل من المغرب والأردن الانضمام إليه، شريطة عدم تمكين المواطنين المغاربة من الإقامة في دول الخليج دون إجراءات محددة للإقامة، وألا يتملك المغاربة في دول الخليج كما هو الحال بالنسبة إلى المواطن الخليجي، وأن يستمر العمل بالتأشيرة قبل دخولهم إلى أي دولة خليجية.

«انفتاح» الإعلام
وشراء للسلم الاجتماعي وتراجع الهولدينغ الملكي

انفتح الإعلام العمومي بشكل غير مسبوق خلال فترة الحراك الشعبي، ليظهر بعض الرموز المؤيدة لحركة «20 فبراير» في بلاطوهات البرامج الحوارية التلفزيونية، منها الظهور الشهير لعبد الحميد أمين، الحقوقي الذي طالب بحذف بعض الطقوس التقليدية المرتبطة بالمؤسسة الملكية، واستضافة قيادية شابة من حركة 20 فبراير في برنامج بقناة «ميدي1 تي في». في مقابل ذلك، خضعت هيئات تحرير الإعلام السمعي البصري ل«تأطير» صارم قادها نحو احتواء النقاشات الدائرة، مع إبقائها تحت السقف المطلوب.
حكومة عباس الفاسي سارعت بدورها إلى الالتئام بالمركزيات النقابية الكبرى، موقعة معها على اتفاق 26 أبريل 2011 الشهير، الذي مازالت حكومة عبد الإله بنكيران تدفع فاتورته الثقيلة، لما ترتّب عليه من مقابل مالي اشترت به الدولة حينها «السلم الاجتماعي». والهولدينغ الملكي المتمثل في الشركة الوطنية للاستثمار دخل في مسلسل ل«شفط الشحوم»، حيث حذفت SNI من قائمة منتوجاتها كلا من الزيت والحليب وغيرهما من المواد الأساسية، علما أن هذا المسلسل بدأ قبل الربيع العربي، وتحديدا يوم 25 مارس 2010، عندما أعلنت ONA وSNI اندماجهما وتغيير استراتيجية حضورهما في الاقتصاد الوطني، وانسحابهما التدريجي من مجال التنافس الاقتصادي، مراعاة لمكانة الملك وحماية للمناخ الاقتصادي…

عودة الملكية القوية

في خلفية كل هذا، كانت الوصفة الملكية التي جاءت في شكل دستور من 180 فصلا، حملت في طياتها جوابا آخر، بعد الجواب الذي قدّمه الملك في خطاب 9 مارس المُعلن عن مشروع الإصلاح الدستوري؛ الجواب الجديد الذي كان مهندسو الاستفتاء ينتظرونه على أحرّ من الجمر، وتبادلوا التهاني والعناق بعد تلقيه، كان هو ما سيُعتبر منذ ذلك اليوم جوابا من الشعب إلى الملك، عنوانه إقبال كبير على التصويت، والتصويت بنعم. «كان يمكن أن نتصور ردود فعل أخرى، لكن الاختيار الذكي انتصر، وكل ما جرى كان امتدادا لهذه الفكرة»، يقول الاتحادي حسن طارق، مضيفا أن الورقة الدستورية الجديدة حملت تعزيزا لوضع المؤسسة الملكية «ليس بمنطق الصلاحيات، بل بمنطق تجديد المشروعية، بانسجام وتناغم مع مشروعية ديمقراطية وانتخابية وشعبية تتجسد في الحكومة والتنصيب البرلماني». وذهب طارق إلى أن المؤسسة الملكية استفادت بالفعل من الحراك الذي أطلقته 20 فبراير، «وأعادت تعريف نفسها كفاعل استراتيجي لا يتضايق من وجود شريك في السلطة التنفيذية».
لكن مرحلة ما بعد 9 مارس لم تكن مرحلة نُزهة في الطريق إلى الديمقراطية، بل مرحلة معركة حقيقية بين الطامحين إلى دولة عصرية تسود فيها الحريات والحقوق، وبين معاقل الفساد المستفيدة من الريع السياسي قبل الاقتصادي. والتطوّر السياسي للمغرب لم يكن بعد استفتاء فاتح يوليوز صعودا خطيا نحو مزيد من الديمقراطية والتخفيف من تركّز السلطات والحد من مركزية الفعل الموازي للمسار الانتخابي والاختيار الشعبي. وما منحه «الربيع العربي» من مكاسب سياسية واجتماعية خلال العام 2011، سرعان ما عادت السنتان المواليتان لتسحبانه بشكل تدريجي وناعم. ووصول أكبر حزب سياسي معارض إلى الإمساك بزمام الحكومة، لم يكن انطلاقة رسمية لرحلة مستمرة نحو تقوية الجهاز التنفيذي النابع من صناديق الاقتراع، بل شهد البنيان السياسي والمؤسساتي للمملكة، منذ ذلك الحين، تناميا لحجم ومجال تدخل الفاعلين المنحدرين من التعيين والمجال التقنوقراطي، بدل الانتخاب والخضوع لمنطق المحاسبة، وكانت سنتان من عمر أول حكومة بعد لدستور الجديد أشبه بالوقت المستقطع من المباريات الرياضية، حيث توقّف مسار الإصلاح لينتهي بسقوط الفريق الحكومي الأول لعبد الإله بنكيران.
حزب التقنوقراط تعزّز بوزارات جديدة، بعضها كان دائما في خانة الوزارات «السياسية»، مثل وزارة التعليم، وبعضها الآخر خرج حديثا من جبة التقنوقراطية، مثل وزارة الداخلية. ورغم أن كتلة الوزراء غير المنتمين تبقى عدديا أقل من عدد وزراء الحزب الذي يقود الحكومة، أي العدالة والتنمية، فإن طبيعة القطاعات التي بات يحوزها الوزراء غير المنتمين تجعلهم أقوى وأكبر حزب داخل الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران، فيما أصبحت قطاعات الدفاع والأوقاف والداخلية والفلاحة والتعليم والتشريع كلّها ميادين باتت خارج دائرة تدخّل الأحزاب السياسية الأربعة المكونة للأغلبية الحكومية، ومرتبطة بشكل مباشر بالمؤسسة الملكية.
«آليات الوساطة الحزبية والنقابية والمدنية تعاني عطبا في البنيات والوظائف، والأحزاب لم تلتقط رسائل 20 فبراير، التي دعتها -عملياً- إلى تغيير تعريفها للعمل السياسي من كونه مجرد تدبير للعلاقة مع الدولة، إلى تدبير العلاقة مع المجتمع»، يقول حسن طارق، مضيفا أن هذه الأحزاب ظلت في غالبيتها وفية لدوْرين اثنين: «انتظار الإشارات من أعلى أو تثمين القرارات الواردة من أعلى، وهو ما يجعلها على الأرجح، في المعادلة السياسية الجديدة، عبئاً على الدولة عوض أن تكون مُغذيةً طبيعية لشرعية هذه الأخيرة».
وبعد التنازلات المتوالية التي حملتها القوانين التنظيمية الجديدة، التي أخرجت جزءا كبيرا من الوظائف التنفيذية من يد الحكومة ووضعتها في يد القصر؛ زاد المجلس الدستوري من تأكيد هذا التوجه، من خلال أحد قراراته الأخيرة التي حرمت رئيس الحكومة من تعيين الأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، معتبرا ذلك مساسا باستقلالية المجلس، ومسندا هذه المهمة إلى الملك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.