يعيش حزب الاستقلال أزمة، لأن قيادات الأحزاب لم تعد من أمن الدولة المباشر، وديمقراطيتها الداخلية، لاستيعاب الشباب الذي حرك الثورات وأسقط الأنظمة في الربيع العربي، أصبحت ضمن الخطة الجديدة لأمن النظام. الحسن الثاني عين كل قيادات الاستقلال بعد علال الفاسي، وأراد الوافا تكرار نفس المشهد دون أن ينجح، لأن الشروط تغيرت بعد 20 فبراير 2011 في المملكة، رغم كل الادعاءات ضد الحركة التي نقلت بعض حرارة الأحداث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 64 موقعا على طول الخارطة المغربية، وما حدث في قلب حزب الاستقلال أن شباط، المطعون بالفساد في تسييره لمدينة فاس، والناقل لعبارات القذافي ضد الشباب المتظاهر يستعين بالربيع العربي ضد خصمه عبد الواحد الفاسي في أكبر حملة تشويه " مقصود ومبرمج " لحراك الشعب المغربي نحو الديمقراطية. ولن يقوم مجلس الرئاسة بحل المشكل بين عبد الواحد الفاسي وشباط، لأن المفكر عبد الكريم غلاب يناصر عبد الواحد الفاسي، والدويري حليف محلي وتقليدي في فاس لشباط، وبينهما يطرح بوستة المرشح الثالث لإسقاط الإسمين معا، وبأمر من القصر طار بوستة إلى جنازة الفلسطيني الحسن إلى جانب ولعلو مرشح اليوسفي لأمانة الحزب بعد حفل تأبين بن بلة، الذي لم يحضره لشكر والمالكي والشامي... وظهر أن مفتاحي الحل في حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي يتحركان تحت مظلة واحدة. لا ينكر أحد داخل الأحزاب بدءا بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ووصولا إلى حزب الاستقلال أن الوضع " مخدوم وتحت السيطرة "، لأن جناحا في الدولة لا يريد عبد الواحد الفاسي قائدا، لأنه سيحول " حزب الاستقلال " المحافظ إلى نسخة ثانية من حزب العدالة والتنمية، وستتقوى حكومة بن كيران في عهده، وعوض أن تكون تبعيته للقصر ستكون للحزب الحاكم، وتحالف الفئة الوسطى المحافظة في الطبقة الوسطى ( حزب العدالة والتنمية ) مع شبكات العائلات وباقي المحافظين ( حزب الاستقلال ) ستكون له انعكاسات على بناء المغرب، خصوصا وأن المحافظة الاقتصادية ( الاستقلال ) والمحافظة الأخلاقية ( العدالة والتنمية ) حليفان موضوعيان في حركة المجتمع والتاريخ. وقد خسر العهد السابق ملايين الدراهم لفك الارتباط بين المحافظتين المذكورتين في صفوف حزب الاستقلال بعد وفاة علال الفاسي، ونجحت هذه الاستراتيجية تماما بوصول شباط إلى موقع المرشح لأخذ مكان علال الفاسي لقيادة حزب الاستقلال. أليس من الصعب أخلاقيا أن يتصور أحد من الجيل السابق، شباط في مكان علال الفاسي ؟ وقد خمدت حرب العدالة والتنمية على عمدة فاس، لمعرفة رئيس الحكومة أن المقصود ليس قيادة شباط لحزب الاستقلال إنما لوقف عبد الواحد الفاسي من الوصول إلى قيادة الحزب، وإن تحققت له هذه الأمنية، فإن جزءا من الحزب سيلتحق، مصلحيا وعقديا بحزب العدالة والتنمية، وفي هذا الوضع لن يخسر حزب رئيس الحكومة لأن ما سيخسره في السلطة سيعوضه من لحم حلفاءه. وفي خطاب شباط ما يغري بن كيران، لأن سكوت الإسلاميين عن وصول عمدة فاس لقيادة حزب الاستقلال ما يفيد أول تعديل للحكومة الحالية، وذلك بإدخال الاتحاد الاشتراكي إلى النسخة الثانية من حكومة بن كيران، ويدرك رئيس الحكومة أن من يدعم شباط في هذه اللعبة هو القادر وحده على تحقيق هذا المطلب الذي عجز عنه في تشكيل الحكومة، وآذان الحزب الإسلامي صاغية إلى مصالحه في كل الحالات للحفاظ على قيادته لحكومة ائتلافية لا تزال تتلمس طريقها، ويمكن أن تعاد هيكلتها في حال خروج حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي من أزميتهما التنظيمية. ويعتقد الجميع أن اتجاه حزب الاستقلال إلى رئاسته لتعيين مرشح توافقي، يعني عودة الحزب إلى مساطره القديمة، ولن يكون التوافق حول الاسم داخل الحزب، بل وخارجه أيضا، ولن يعود الحزب في هذه الحالة إلى عائلة علال الفاسي ولا إلى شباط، الذي أدى واجبه ومعركته " المخدومة " ويعود الحزب إلى قيادة " شبابية " من غير روح فبراير، وسلوك " محافظ وعادي " ومندمج في مستوى الحركية الحالية، فالأوساط رشحت توفيق احجيرة لينتقل من اللجنة التحضيرية للمؤتمر إلى قيادة الحزب، وقد وضعته التسريبات سفيرا للمغرب في الجزائر قبل زيارة العثماني إلى الجزائر العاصمة، كما رشحت البقالي الذي فقد حقيبته الوزارية باسم التحفظ الصادر من القصر، ولإثبات أن الملك بعيد عن معارك الأحزاب، رغم إقحام الوفا لإسمه، يرشح " جناح في الدولة " هذا الإسم، للقطع مع الخلفية التي ورثها المغرب عن الحسن الثاني، كما يعود غلاب ليضيف إلى قيادة البرلمان قيادة حزبه ... وكلها قيادات شابة من الصف الثاني قدمت الكثير من الخدمات ولا تزال، ولن تخرج قيادة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي عن نفس المساطر والتهييئات، ويمكن بعد " تجديد " قيادتهما ومرور ثقة حزب العدالة والتنمية في بن كيران التفكير بشكل جدي في تعديل حكومي. اليوم تتفكك " القيادات التي عينها الحسن الثاني " على الأحزاب، ولا تتفكك نواة السلطة الموروثة عن العهد السابق إلا لتجدد بيروقراطيتها ولوبي مصالحها، وقد تكرر الدولة الطريقة نفسها، لكن مع أشخاص آخرين، يسايرون الدينامية الموجودة، فمن الصعب قبول شيخوخة الفكرة إلا إن حملها شاب، والموت كله إن قبلت الدولة فكرة شائخة وحاملها شيخ. وقد انتظرت الدورة سقوط الاتحاد الاشتراكي في أزمة لينتهي حزب الاستقلال إلى أزمة مماثلة، وتعيش أحزاب الإدارة أزمة لأنها منقطعة عن الحكم وقد خلقت له فقط، وحزب العدالة والتنمية يحترق بالسلطة ويعيد إنتاج نفسه برئاسة بن كيران للحكومة والحزب، مما يعني وصول المغرب إلى حالة عامة من الإفلاس الحزبي، وخطورته كامنة في: وجود أحزاب إدارة لا رجالات دولة، وقد أسقط مزوار بعد فضيحة " التعويضات " الصورة الأخلاقية للجيل المتحالف مع البام زمن تأسيسه من طرف الهمة. وجود أحزاب " وطنية وشعبية " بأزمات تنظيمية معقدة، لرفضها روح " فبراير " ( حركة 20 فبراير ) كما يحدث في الاتحاد الاشتراكي، أو تزوير تراث هذه الحركة من خلال شباط في منافسته على قيادة حزب الاستقلال. ولن تكون عافية الحزبين، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، في صالح النظام، كما قد يكون عدم السيطرة على القيادات الجديدة، عاملا على إسقاط حكومة بن كيران، والدفع ببرنامجه إلى أبعاد مؤثرة. وفي الحالتين: يريد مهندسو اللعبة بقاء الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، ومستقبلا حزب العدالة والتنمية في " فوضى تنظيمية مفتوحة " لا تتمكن من خلالها الأحزاب أن تكون ضاغطة، فالنقابات تأخذ مكان حركة 20 فبراير في الاحتجاجات، ولهذه النقابات الحق في تغطية الأحزاب والقيادات السياسية الجديدة على الأرض، كي لا تدير الأحزاب اللعبة، بل تدار الأحزاب من طبقة عمالية " خبزية " بدون أفق لتغيير الدولة أو الدعوة إلى إصلاحات جذرية. ولاحظنا جميعا كيف تحرك الأموي مع العزوزي في البيضاء لحسم أوراق الاتحاد الاشتراكي وكيف تحرك شباط لعرقلة وصول عبد الواحد الفاسي لقيادة حزب الاستقلال، وهذه الصورة تكشف لماذا تريد الدولة لأحزابها أن تكون تحت السيطرة ووفقا لأجندتها، وبطريقة مختلفة عن الماضي ؟ إدارة مخلفات الربيع العربي قد تؤدي إلى محو نتائجه تماما، ولولا الخوف من الفراغ، وتمكن حزب العدالة والتنمية من حرق ورقة رئيس حكومة الظل: مزوار، لنفذ صقور النظام ما يهددون به، لكن المخيف من هذه العملية: أولا، بقاء الأحزاب في حالة مفتوحة من الفوضى المنظمة. ثانيا، نزول النقابات مكان حركة 20 فبراير، وخروج الوضع عن السيطرة بعدها إن زاد اليأس في صفوف الشعب والانتظارية عند المستثمرين، كما قالت بنصالح عن الباطرونا، وإن تعمقت الانتظارية في المشهد الحزبي، لن نجد أنفسنا سوى في حالة إفلاس حزبي واقتصادي يهدد بتكرار الدرس اليوناني كما قال بن كيران وقد يكون إفلاس الأحزاب والشركات مرة واحدة مدعاة لحالة استثناء، يعيد فيها الحكم تنظيف الطاولة ليسمح للأحزاب بالهيكلة " تحت ظرف أمني قاس "، وللشركات بتطهير نفسها والذهاب بعيدا في الأعمال، وتصور هذه الوضعية خطر إلى حد بعيد على مستقبل النظام ككل. وأي حالة استثناء " مغلق " تعيشه الأحزاب والشركات والمؤسسات كما نعيشه اليوم سيكون له ما بعده، لأننا أمام مرحلة انتقالية إلى 2016 ومرحلة انتقالية بعدها، إن لم تحترم الأجندة، فالانتخابات البلدية تأخرت لعام كامل، ولما لا يتأخر تنزيل القوانين لولاية حكومية أخرى ؟ قد تكون صناعة الانتظارية بعد الحسن الثاني جزءا صلبا من الحكم، لكن المبادرة في 9 مارس2011 أنقذت النظام والعودة إلى ما قبل هذا التاريخ اعتداء حقيقي على أمن الوطن، لأننا ضحايا لمآسيه المصطنعة. ومن خلال تحديد الحصيلة، نجد أن بن كيران يهدد برياح الربيع العربي مرارا وتكرارا، لأنه يدرك الفكرة الرجعية التي تعمل عليها دوائر في الدولة، والعودة إلى ممارسات الدستور القديم وبقاء الوثيقة الدستورية الجديدة بلا حقل عمليات، خطر على استقرار الدولة. والواجب " تحرير " الممارسة الحزبية، فكما رفع الملك يده تماما عن انتخابات قيادة حزب الاستقلال، على باقي دوائر الدولة رفع ثقلها عن الأحزاب، وتمرير ما تريده القواعد، والواقع أن مثل هذا السيناريو معقد، إلى حد بعيد، لأن شباط رغم ملفاته المعروفة يزكيه استقلاليون، وتحريك القضاء في هذا الظرف يعني تسييسه، وعمدة فاس يستغل دفاع الدولة عن مزوار لأنه قائد حزب من أجل حماية نفسه هو الآخر إن وصل إلى قيادة حزب الاستقلال. بدأ الخطأ عندما لم يتحرك القضاء في الوقت المناسب، ولو أن وزراء ومنتخبين في دول ديمقراطية متابعون في قضايا فساد، ويمارسون حياتهم السياسية إلى حين الحكم عليهم. وفي هذه الترتيبات، نقرأ بوضوح أن الدولة ترغب في " مستوى " من الفوضى المنظمة داخل الأحزاب لا تتسلم فيها القيادات الشابة والإصلاحية القيادة، ولا تفقد الأمل، فيكون ردها غير متوقع. والسهر على أن تؤدي الأحزاب دورها في خدمة الولاء وخدمة قواعدها، معادلة لم تنجح في أي حزب بعد إكمال دورته الأولى في السلطة، وعندما نجح اليوسفي في هذا الدرس عام 2002، قرر النظام الخروج عن المنهجية الديمقراطية. لم يكن عباس الفاسي سوى قائد لهذه العملية الخاصة ضد اليوسفي، واليوم يقود إلى جانب الراضي صديق الحسن الثاني أكبر أزمة، إن لم نقل مؤامرة ضد الحزبين الوطنيين العريقين في البلد لخدمة أجندة يسير فيها الحزبان ضد مصالحهما، ومصالح المشهد الحزبي. لقد ظهر جليا أن هذه الاستراتيجية " الفوضى المنظمة " للأحزاب، والتي يعول عليها أن تكون في حزب العدالة والتنمية قبل 2016، هي القادرة على عدم ترصيص الإصلاحيين في صف واحد، كي لا يكون تنزيل الدستور الحالي " متقدما وديمقراطيا أكثر "، وفي هذه المعادلة تطمح الإدارة أن تكون سقوف الأحزاب " متواضعة " كي يظهر القصر مبادرا وفي الصف الأول، كما حدث في كتابة دستور فاتح يوليوز، ولا يمكن أن يكون تنزيل الدستور مختلفا عن كتابته، لكن الملاحظ قد يجد صعوبة في فهم لماذا النظام لا يستوعب من قاطع الوثيقة الدستورية، ويساهم في تفتيت الكتلة الإيجابية التي قالت نعم للدستور. قد يكون من البرغماتية ونفعية مهندسي اللعبة أن تتشكل لعبة تنزيل الدستور من المؤدين فقط للوثيقة، ويصير الخلاف حول مسائل تتضخم وتصغر حسب إدارة المشهد واستيعاب اليائسين، والمقاطعين والكتلة الصامتة. وكل الخوف من الموقف الذي تراكمه هذه الأغلبية الصامتة الراغبة في الاستقرار والإصلاح " الجدي والمسؤول " والقادر على إعادة توفير دافع للقول، إن اليوم غير البارحة. لا يجب على محيط القصر أن يأخذ اللعبة إلى حسابات مرحلية لا تفيد الاستقرار، لأن الإصلاحات أصبحت بحكم ليس أكثر من إعادة إنتاج " تحسينية " لممارسات سابقة، ودائما الأحزاب أول المشاتل وآخر المعاقل، ومن لم يدرك هذه المفارقة تنفجر في وجهه ...