02 سبتمبر, 2017 - 07:11:00 في هذا المقال التحليلي، يقول علاء الدين بنهادي، وهو دبلوماسي مغربي سابق، وأستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري، إن "حراك الريف"، كشف عن مأزق سياسات المؤسسة الملكية في التعاطي مع الأزمات، وهو ما يفسر، من وجهة نظره، حالة السكون والتخبط التي أصبحت تطبع سلوكها منذ فترة، وتفضيلها سياسة كسب الوقت. ويضيف بنهادي إن السلطة تراهن اليوم "على انهيار نفسية شباب الحراك واستسلامهم، رغبا أو رهبا، وعلى الطبقة الاجتماعية الحليفة لها، النافذة اقتصاديا، وكذلك على أحزاب لم تعد تقوى على الحياة بعيدا عن حبل تغذية النظام لها لفقدانها الشرعية الشعبية والمصداقية السياسية، وأيضا على شريحة من عامة الناس ذوي الوعي والسلوك المتدني، ولجوئها أيضا لسياسة اللامبالاة القاتلة التي تتصرف بها دائما حينما لا تجد مخرجا لأزماتها أو إمعانا في القتل البطيء والصامت، المعنوي والاجتماعي، لمعارضيها". وفيما يلي الجزء الأول من هذه المقالة التحليلية: الظواهر الاجتماعية مثل الظواهر الطبيعية من قبيل غليان الماء عند بلوغ مائة درجة حرارية، تكاد تصل إلى النظرية العلمية، كلما اجتمعت الشروط الموضوعية والذاتية، من استبداد وفقر وعزيمة ورغبة في الحرية والانعتاق،كلما أدت إلى اندلاع احتجاجات تتفاوت في الطبيعة والدرجة حسب السياق التاريخي وحسب درجة الضغط والغليان، كما وقع في المغربمع حركة 20 فبراير 2011 وحراك الريف يوم28 أكتوبر 2016، على خلفية مقتل الشهيد محسن فكري في شاحنة للنفايات، ولم ينصف، احتجاجات أدت إلى غضب الساكنة، واختارت الشارع وليس الأحزاب، لأنها لم تعد تثق في دورها، تعبيرا عن مظلمتها ومطالبها.نقول قضية الريف وليس حراكا، لأن الريف، وإن كان حراكا، فهو أكبر من الحراك، مثله مثل قضية الصحراء، أزمة متجذرة في التاريخ والوجدان الجماعي والثقافي بين الساكنة والملكية. إننا أمام مجتمعات عربية، رغم المسافات الجغرافية بينها، وحَّدَتْها نفس السياسات القمعية وانتهاك حقوق الإنسان المتبعة من قبل أنظمة تستكثر على شعوبها الحق في اختيار ومحاسبة من يمثلها وفي توزيع عادل للثروات الوطنية والحق في المواطنة الكاملة. لقد أوقعت الأنظمة نفسها في مأزق مزدوج، عام 2011، حينما خيرت الشعوب بين الفقر والاستبداد، فإذا بالشعوبتضعها هي أيضا في مأزق أخطر، وهو سواء استجابت لمطالبها أو لم تستجب لها، فالنتيجة واحدة، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن،هي"ارحل". لم يكن هذا شأن حراك حركة20 فبراير، لأسباب سنأتي على تناولها في هذه الورقة البحثية، لكن مع قضية الريف، ولأسباب تاريخية ضاربة في عمق الوعي الجمعي الريفي وجغرافية تخص منطقة بعينها ومكوناتها الثقافية والاجتماعية الجامعة والحاضنة، ولأسباب سياسية أعقبت التطورات التي جاءت بعد إجهاض مطالب 20 فبراير الأساسية، فإن فرضية أن يتطور الشكل النضالي في الريف ويرتفع سقف المطالب ليلامس السياسي في أعلى صوره، بالنسبة لأزمة ذات الجذور الجمهورية والثورية، 1926-1921 و1958، بل ليتحدد في مواجهة لها شرعيتها التاريخية ووعاؤها الوجداني لدى الساكنة، بين المحيط والمركز، أي بين الملكية والريف. هذا ما يفسر رفض ساكنة الريف وساطة أي مؤسسة تنفيذية أو حزبية، محلية أو وطنية، أولا لشعورها بأن هناك جهات أمنية وقضائية وجهات أخرى تتعامل مع الحراك بمنطقها وحساباتها وصراعاتها بعيدا عن الحكومة، وثانيا لرغبتها في توجيه صوتها مباشرة لمن يتحمل، على الأقل بالنسبة لها، مسؤولية مأساتها ومعاناتها وشعورها بالاستهداف السياسي والأمني والاقتصادي، وهي المؤسسة الملكية،والتي لها محطات توتر وقسوة مع الريف خلال معركة أنوال، 1921-1926، ثم عامي 1958-1959، وعام 1984، واليوم 2017. هناك عنوان بارز في طريقة تدبير قضية الريف ومطالب ساكنته وقادة الحراك، عجزت الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الموالية لطرح النظام، لا على مستوى القرار السياسي فحسب، الذي يجب أن يتخذ لإنهاء الاحتقان، من قبيل إبعاد الحل الأمني وإنهاء الاعتقال التعسفي لشباب الريف، ولكن حتى على مستوى التواصل، خاصة بالنسبة للملك، والخروج بموقف يعبر عن توجه الدولة الإيجابي بهذا الخصوص. من المؤسف جدا أن يتدخل رئيس دولة أجنبية، فرنسا، ليبلغ المغاربة، وساكنة الريف تحديدا،"مشاعر"الملك تجاه ما يجري هناك. هذا أمر يمس سيادة الدولة وتدخل سافر في شؤونها يذكرنا باتفاقية الحماية المشؤومة لعام 1912. يختلف السياق المحلي والدولي بين حراك 20 فبراير 2011 وقضية الريف أكتوبر 2016، فالأول، وإن كان له أسباب محلية،فإنه يندرج في سياق موجة احتجاجات وغضب عمّت الوطن العربي تدحرجت ككرة الثلج وأسقطت رموز أنظمة فيتونس ومصر وليبيا واليمن، وأدخلت دولا أخرى، كسوريا،في حرب أهلية دمرت الدولة والمجتمع وفتحت البلاد لكل القوى الغربية والعربية الطامعة في سوريا والمنطقة، كما هزت أركان الحكم في دول ثالثة كالمغرب، إلا أن النظام تحرك قبل أن يصل الحراك ذروته، بدعم من الأحزاب، خاصة من حزب العدالة والتنميةوقوى اليسار المخزني، والغرب، فرنسا وواشنطن تحديدا، وبادر بسلسلة إجراءات إصلاحية شكلية مثل تعديل الدستور وفق مصالحه، والدعوة لانتخابات مبكرة، انتهت بصفقة مع حزب العدالة والتنمية، لامتصاص الغضب الشعبي والالتفاف على المطالب الحقيقية للحراك، وعلى رأسها الملكية البرلمانية ومحاكمة المفسدين وهيئة تأسيسية منتخبة لصياغة دستور جديد يعكس الوضع السياسي وميزان القوى الجديد، ويحقق المطلب التاريخي للحركة الوطنية، أن تسود الملكية ولا تحكم، أي ملكية دستورية حقيقية. أما قضية الريف، فأحييت من جديد، أولا بسبب مقتل الشهيد محسن فكري وعدم معاقبة المسؤولين الحقيقيين عن وفاته بتلك الطريقة اللاإنسانية، وثانيا بسبب الإحساس بالمظلومية المتوارث عبر الأجيال، وعدم إنصاف الدولة لساكنته في جميع المحطات التاريخية التي سنأتي عليها لاحقا، والتي تركت جرحا غائرا لدى أهل الريف لا يمكن أن يندمل إلا عبر مشروع مصالحة حقيقية يطال جميع مناحي حياة الإنسان الريفي، مصالحة لا تسقِط، كما فعلت هيئة الإنصاف والمصالحة، حق الساكنة الشرعي والقانوني، ماضيا وراهنا، في معاقبة الذين تسببوا في معاناتها ومأساتها، معاقبة مادية للأحياء ورمزية للأموات، وإعادة الاعتبار لقادتها ورموزها، وعلى رأسهم الأمير عبد الكريم الخطابي وصحبه والقائد محمد سلام أمزيان ورجاله، وأيضا حقها في التعويض المادي، واعتذار رسمي من المؤسسة الملكيةلكونها مسؤولة سياسيا عن الجرائم التي ارتكبت في حق أهل الريف، والتعهد، بضمانات دستورية وسياسية،بعدم العودة لمثل تلك الأفعال المشينة والمدانة. للأسف، عادت الملكية، في دستور 2011 الممنوح، أقوى مما كانت عليه في الدساتير السابقة، واستعادت تدريجيا مركزها ومبادرتها بدعم من حكومة بنكيران، التي عملت على إجهاض حركة 20 فبراير والتنكر لدورها في وصول حزبه لرئاسة الحكومة، ومحاكمة شبابها ومنح النظام الغطاء الشرعي والقانوني لإضعاف وتقويض عمل الحركات والهيئات المناضلة السياسية والحقوقية والإعلامية المستقلة المطالبة بتنفيذ مطالب 20 فبراير كاملة. هناك فرق جوهري بين حراك20 فبراير وقضية الريف، الأول كانت انطلاقته وطنية من الأول، وكانت مكوناته حزبية واقتراحية، اليسار الموحد والعدل والإحسان وتنظيمات أخرى، أما قضية الريف فقد بقيت مرتبطةبخصوصياتهاالجغرافية والثقافية والاجتماعية وشرعيتها التاريخية، معركة أنوال1921-1926، بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي، وأحداث الريف1958، بزعامةالقائد محمد سلام أمزيان، و1984، ولم يخرج عن هذا الإطار، بل لم يسجل عن شبابالريف طلية التسعة أشهر من عمر الأزمة،أي إشارة مباشرة إلى حركة 20 فبراير كامتداد لها، وكان قائدهم يمتح من أحداث المنطقة التاريخية ورموزها، ونجح في ملامسةهموم المناطق الأخرى، المتوترة من قبل، فتضامنت معه، ودفعها إلى إطلاق حركات احتجاج نظرا لتشابه الواقع، على الأقل في شقه الاجتماعي والاقتصادي، وهذا ما كان الزفزافي يهدف إليه كاستراتيجية لتطويق النظام من كل جانب وإشغاله بباقي المناطق حتى لا يستفرد بالريف. حراك 20 فبراير، نظرا لتلازمه تاريخيا مع ثورات الربيع العربي ضد الاستبداد والفساد، كانت له مطالب سياسية، طالت النظام السياسي وبنيته وبيئته ورجالاته، فيما حراك الريف بقي ملتزمابالمطالب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، رغم أنه يكتنف مضمونا سياسيا، يظهر ويختفي في خطاب قائد الحراك الزفزافي، طغت عليه مفردات تنهل من المرجعية الدينية، كما وجه في أكثر من مرة رسائل مباشرة وغير مباشرة لرأس هرم السلطة، الملك، حينما، مثلا، رفض الاجتماع مع الوفد الحكومي ورفع في وجهه شعار الأمير عبد الكريم الخطابي "هل أنتم حكومة أم عصابة؟". يتبع..