أما وقد بلغت الأمور حدود التخوين المتبادل بين أبناء شعبنا، فقد حان الوقت لكي نعري عورة الواقع الذي يعيشه الفعل السياسي المغربي. فعن أي فعل سياسي تتحدث؟ قد يسأل سائل. وأين علامات هذا الفعل؟ ومن هم الفاعلون؟ من الطبيعي أن يبقى السؤال معلقا ما دام الشأن السياسي المغربي كان ولا يزال من اختصاص أقلية أطلقت على نفسها صفات ونعوت لم تكن في معظمها إفرازا طبيعيا للعملية السياسية بمفهومها السائد. إن ميلاد الحزب في المغرب انبثق عموما من رحم مفهوم الكفاح والجهاد ضد المستعمر، لكن هذا المفهوم ظل غامضا ومشكوكا في صدقيته حتى بعد الرحيل الشكلي للاستعمار، وانقسام الحزب الواحد إلى أكثر من فرقة وفصيل. تداخلت مفاهيم الحزبية مع أسئلة كثيرة؛ كان أهمها شرعية الوفاء، هل هي للحزب أم للنظام؟ وكأن دور الحزب انتهى مع نهاية الاستعمار، وأن أحقية تصريف الشأن العام باتت حقا مستحقا لتلك الفئة التي تبوأت المنصب الحزبي باسم الكفاح الوطني، أيا كانت أشكال هذا الكفاح وأدواته وأيا كانت التضحيات التي قدمتها فئات كثيرة لم تحظ أبدا بنصيب من الاعتراف بدورها الوطني. من الطبيعي إذن أن يهيمن الغموض وأن يسود الشك ما دامت نشأة الكثير من الأحزاب المغربية كانت نشأة غير طبيعية بل وقيصرية (سباعية) عند معظمها، إما لخدمة أولويات انتخابية مرحلية أو لإرضاء لعبة التوازنات التي هيمنت على المشهد (السياسي) المغربي خلال سنوات السبعينات والثمانينات. وهي الفترة التي كانت كافية للإجهاز على ما تبقى من بصيص الشعور الوطني لدى المنتمي الحزبي المغربي، أما المواطن فحدث ولا حرج. صحيح أن قضية الصحراء أبكمت الكثيرين (باسم الوحدة الوطنية) ودعتهم إلى الاصطفاف جنبا إلى جنب مع أحزاب نزلت من عوالم أخرى ولم تعكس في أي مرحلة من مراحل التاريخ السياسي نبض الشارع وشعوره العام، فبالأحرى رأيه أو صوته. اليوم فقط تدشن بلادنا مرحلة دفع الضريبة وثمن ما حدث من مراوغات للحقائق التاريخية. اليوم فقط ندفع ضريبة الإهمال لأسماء دفنت مع ماضيها وعوضت بكرتونات وأشباه سياسيين جيء بهم من العدم للعب أدوار ثانوية في مسرحية "اللعبة السياسية". واليوم فقط انقلب السحر على الساحر، وانكشفت حقيقة زيف الكثير من الأحزاب وتباعدها القطبي الصارخ عن هموم الشعب وآماله. ففي الوقت الذي كانت فيه أحزاب الداخلية تسرح وتمرح وتتقلد المناصب، كان الحرمان والمنع والتكميم هو مصير العديد من القياديين الذي حملوا على عاتقهم هموم هذا الشعب، وكانت عيونهم بصيرة وأياديهم مغلولة. نعم اليوم فقط نستطيع القول بأننا لا نملك مؤسسات حزبية قادرة على تسطير برامجها باستقلالية تامة عن أية ضغوط، وأيا كان مصدر تلك الضغوط. واليوم فقط بات الإجماع في أوساط كل الشرائح الاجتماعية المغربية على أن الحزب الذي لم يخضع لديناميكية التطور الطبيعي إنما هو عنصر من عناصر الملهاة، وأن شروط بقائه منتفية ومصداقية من يفرزهم من نواب ووزراء غائبة حتى لو تمكنوا من تزييف حقيقتهم و"مكيجت" (من ماكياج) صورهم للفوز بهذه الدائرة أو تلك أو هذه الجهة أو تلك. فما بني عن باطل كله باطل. إنها مرحلة النفوق الحزبي إذن. جاءت احتجاجات الحسيمة وقبلها العشرين من فبراير لتبرهن وبالملموس أن ثقة الشعب في أحزابه الوطنية منعدمة، رغم وجود أتباع وتابعي الأتباع، ورغم وجود مريدين خاضعين بصمت وعمى لعملية الدجل السياسي. فليس هناك من دليل أقوى على صحة هذا التوصيف من التدني الكبير في نسبة المشاركة السياسية، والانطوائية الواضحة التي تطبع تصرفات عموم الشعب تجاه الفعل السياسي، بل وغياب دور المؤسسات المنتخبة (من قبل أقلية)، ولجوء آلاف المواطنين بشكواهم ومطالبهم مباشرة إلى المؤسسة الملكية. جاءت احتجاجات الحسيمة لتدفع بمعظم الأحزاب الوطنية نحو جزيرة الصمت والسكون وانتظار خارطة الطريق، بل إنها حين نطقت كفرت بمشروعية المطالب الشعبية وكفرت بالدستور والديمقراطية وغلبت سلطة القمع. وحجة الضعيف دائما هي العنف. فهل نفقت؟ أما النفوق فمعناه واحد في معجم اللغة نفَقَ يَنفُق، نُفوقًا، فهو نافِق. نفَقتِ الدّابّةُ ماتَتْ: نفَق الفرسُ. ومن حيث لا تدري، نفقت الأحزاب ولا تزال. وألقت بنفسها نحو شواطئ الانتحار السياسي، إما عن جهل بواجباتها أو عن وعي بأنها لم تكن أحزابا في يوم من الأيام. غابت إرادتها وتأثيرها ومفعولها في الإرادة الشعبية لا لسبب سوى لأنها لم تتلمس الطريق الصحيح ولم تلتزم بأدوات الفعل الحزبي. كيف لا وهي التي جاءت من ورم التزوير والتلفيق والتقطيع غير العادل لمراكز النفود، والتوزيع غير العادل للثروة والفرص. فكانت النتيجة أن ساد المواطن الشعور بالحيف والظلم والغبن. أو ليس هذا بكاف أن يحدث ردود فعل شعبية، عفوية ولا حاجة لها إلى أي يد أجنبية؟ بلى وقد استوطنت المغرب مفاهيم العلاقات الخاصة والزبونية والرشوة؟ فكفر المواطن بالسياسة والسياسيين، لكنه أبدا لم يكفر بالوطن ولم يكفر بنظامه الملكي ولم يكفر بوحدته الترابية، فلماذا يا ترى؟ أما سأل المسؤول الحزبي نفسه يوما: لماذا يحب الشعب الوطن والملك ولا يحبه؟ إن العقم السياسي أحدث انقلابا في المزاج الوطني. انقلاب لن تكون بعده عودة ما لم تدخل التجربة السياسية المغربية غرفة الطوارئ، ولن ينفع أي ترقيع ما لم نقف مع الذات الوطنية وقفة المسؤولية ونسائل الفاسد ونحاكم ناهبي المال العام. آنذاك فقط سننتقل نحو مغرب آخر ودولة أخرى، إنما اسمها في المعجم السياسي "دولة الحق والقانون". *صحفي ودبلوماسي مغربي سابق