دُعيت إلى حفل صدور العدد الأول من صحيفة مغربية محلية جديدة صدرت من فاس لتنضاف إلى زخم المطبوعات المحلية والوطنية التي تملأ رفوف وحوانيت ومراكز التوزيع دون أن تقرأ، وبعد آيات الشكر والترحيب، زف رئيس تحرير الجريدة الجديدة الأستاذ (س) -أحد الوجوه المعروفة بحب الثقافة المهوسة بالكتابة- إلى الحضور المميز، بالخبر الذي صفق له الجميع، متمنيا أن يحظى مولوده الجديد الذي اسماه، تيمنا، باسم جريدة عربية دائعة الصيت واسعة الانتشار والشيوع. أمرٌ طبيعي أن يُقْدِمَ مثقف على إصدار جريدة محلية، وحتى وطنية، لكن الغريب وغير الطبيعي، بل والمثير للدهشة، هو كيف يعجز هذا المثقف -الذي يأنس في نفسه الكفاءة والقدرة على إصدار صحيفة، ليس من السهل على أي كان أن يستصدرها- عن ابتكار اسم أصيل لها، وينتهي به الحال إلى النقل والتقليد الأعمى، وكأن العناوين والأسماء قد شحّت في السوق أو انعدمت؟ فهل ذاك بسبب الكسل العقلي وضعف الخيال، الذي لا يمكن تجاهله أو التوقف أمامه بصمت، خاصة يتحول إلى تقليد سلبي وأعمى، ويتحول إلى عقيدة ضاربة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وتغطي الفضاءات العريضة ولا تقتصر على ميدان النشر والإعلام فقط، لتشمل – ضمن ما تشمل- أسماء المدن والقرى والأحياء السكنية والمتاجر والمقاهي والشركات العامة والخاصة، التي ظللنا نقتلع الأسماء الأجنبية من بيئاتها ونسمي بها كل محلي ووطني، من أسماء الأحزاب والتنظيمات السياسية والمدنية، وأسماء المحال التجارية، وأسماء الأبناء والبنات، وألقاب المطربين والمطربات ولاعبي كرة القدم، وأسماء الثياب النسائية، وغير ذلك كثير، ما يؤشر إلى امتداد حالة الجمود العقلي وخمول الخيال إلى درجة أصبح يتعذّر معها أن يحقق البعض لذاته، وأن يرضى عنها من خلال أعماله العادية وسلوكياته والمستقلة وإنتاجيته الذاتية، وتتعثر قدراته على سك أسماء معبرة عن حياته والثقافات الوطنية وابتداعتها لأغراض الاستخدام المحلي. ربما ينساق البعض مع المثل المأثور "التشبه بالرجال فلاح"، فيقول قائلهم: لماذا هذا التهويل لعملية تَشبهٍ ونَقلٍ بسيطة لاسم جريدة لجأ إليها ناشر، كما يفعل غيره كثير جدا. لكن واقع الحال وحقيقته تقول بأن الأمر في غاية الخطورة، لأن العناوين والأسماء، أيّا كانت، لها سحرها وتأثيرها وسلطتها، فهي كما يقول المثل الشعبي "إيمارت الدار على باب الدار" وهي العنوان الشرعي للمسمى أيا كان، والمدخل لكل الثقافات، ولأن النقل والتقليد يقتل في الإنسان روح التحدي والإبداع، وينمي ثقافة الخمول والجمود، والخوف من التجديد والتغيير الذي يخافه معظمنا، ويعتقد أنه مفروض عليهم من خارج أنفسهم، فيحولونه إلى بدع محرمة، يؤمن معظمنا بأنها كلها ضلالة وأن كل ضلالة في النار، ما يجعلنا نصبح كالقرود، بل أكثر عرضة منها للانجراف نحو تقليد الآخرين في كل شيء، في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وليس على قضية استنساخ عنوان لجريدة معزولة قام به ناشر تُبّع مقلد، بل هو ديدن الكل، السياسيين والمثقفين، الذين يحذون النعل بالنعل في كل شيء، كما يقولون، حتى في تسمية إنتاجاتهم الفنية والأدبية والعلمية والسياسية، التي يصدرونها، بعناوين وأسماء أجنبية، عربية وغربية، أوروبية وأمريكية، فكل شيء يعرف النقل والاستيراد وقرصنة لأسماء. فهناك عدد ليس بالقليل من الأحزاب والتنظيمات السياسية التي عرفها المغرب في تاريخه القديم والمعاصر، قلدت أسماء القوي الناجحة من الأحزاب الغربية والشرقية، تكاسلاً في البحث والاستنباط، أو ضعفا لأنها لا تمتلك جوهر النجاح من حيث الموهبة والدأب والمثابرة والإمكانيات، أو إعجاباً وانبهاراً، كما يقلد الصغير الكبير، لشعوره بالنقص والضعف ورغبته في التخلص من الضعف والنقص من خلال التشبه والشبه بالقوي.. وتحقيق درجة من الرضا والاطمئنان المؤقت.. فإذا نظرنا إلى سلسلة الأمثلة الكاشفة لممارسات التقليد والنقل العشوائى في أسماء الأحزاب وعناوين الصحف والجرائد المغربية، فإننا لاشك سنجد أن نسبة كبيرة من الصحف التي صدرت خلال ربع القرن المنصرم والتي تصدر الآن، جلها منقولة عن أسماء وعناوين جرائد وصحف أجنبية، دون أن يكلف المستصدرين أنفسهم عناء البحث عن أسماء مغربية أصيلة لصحفهم. ومن يرصد رصدا بسيطا لبعض من نماذج تلك الصحف المغربية التي انتزع أصحابها أسماء الصحف الأجنبية والصقوها على ديباجات صحفهم بطريقة "الكوبي كولي" دون أن يطرف لهم جفن، يجد أنها ظاهرة مجتمعية مرضية، سببها عقدة الأجنبي والشعور بالنقص والتأثر الشديد بالآخر، والإدمان على تقليده في الملبس والشكل والهيئة والمسكن والمشتريات وحتى في التفكير وطريقة الكلام، وغير ذلك كثير جدا، دون أن يكون في ذلك مصلحة حقيقية أو نفع أو ملاءمة لشخصية الإنسان وظروفه الخاصة، تماما كما هو مشاهدا اليوم من تقليد، بل تنافس شباب البلدان المغاربية والعربية، من موريتانيا إلى اليمن، مرورا بالجزائر والسودان ومصر والأردن واليمن والسعودية والمغرب، على تحطيم الرقم القياسي، في إحراق الأجساد، تقليدا لما فعله محمد بوعزيزي، لمجرد أن ثورة تونس قد نجحت بإشعال النار في جسده.. الحدث الذي يجب أن ينتهي وقته وصلاحيته مباشرة بعد أول عملية، لتظهر أساليب وطرق أخرى مبتكرة، تكون أكثر وقعا على الظالمين وأعوانهم الذين يحاولون بشتى الطرق تحطيم الثورة، لأنه ليس المهم التقليد في الوسائل، لكن المهم التقليد في الغايات. فلابد للأحداث والإنسان من أن يبحث عن ذاته وأن يفهمها ويطورها ويغنيها بما يناسبها من خلال الجد والكفاح والطموح والتحصيل في كافة المجالات المفيدة والبناءة البعيدة عن التقليد السطحي وعن القشور الهشة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث لا يمكن لعنوان صحيفة دولية رائجة عالميا، أن تؤثر في صحيفة ممعنة في المحلية، ومتواضعة التوزيع إلى حد كبير، لا تبيع سوى عشرات النسخ التي لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وتذهب مرجوعاتها إلى باعة "الزريعة وكاكاو"؛ أن تجعل منها صحيفة دولية، لمجرد أنها طرزت عنوانها باسم أجنبي موشح بكلمة الدولية، في الوقت الذي يمكن أن يلقى غيرها من الصحف رواجا كبيرا عندما يتحرر أصحابها من داء النقل والتقليد كما فعل الأستاذ رشيد نيني حين أصدر مجلته الناجحة التي أسماها "أوال" الاسم الذي ابتدعه ولا شبيه له في عالم الصحف.. وعلى نفس الدرب سار الكثير من الأحزاب، التي ظن مؤسسوها أنه بمجرد تسميتها بأسماء أحزاب أجنبية عظيمة، ستصبح أحزابهم، بقدرة وتأثير تلك الاسم، أحزابا مهمة هي الأخرى، فتنافس كبيرها وصغيرها، إسلاميوها وليبراليوها، واشتراكيوها وشيوعيوها على هذا النقل والتقليد، ولازالت تتنافس عليه كل التشكيلات السياسية المغربية بكل ألوانها القديم منها الذي عاصر استقلال البلاد، والجديدة التي تولدت عن تطورات سياسية أو أفرزتها عوامل اجتماعية أو انشقاقات حزبية، والتي تشكل النسبة الكبيرة، كما حدث مع حزب "المؤتمر الوطني الاتحادي" الذي أسسه بعض النقابيين في أكتوبر/تشرين الأول 2001 بعد انشقاقهم عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذي ترأسه كأمينه العام ، السيد عبد المجيد بوزوب، قد انتحل اسمه المركب من أسم حزب أجنبي كما فعل غيره كثير.. ولم يسلم من النقل والتقليد أكبر الأحزاب الإسلامية "العدالة والتنمية" الذي لم يكن بأكثر أصالة من غيره من الأحزاب الأخرى، إذ عجز قادته، كغيرهم، عن سك اسم مغربي له، فجاءوا باسم جاهز من تركيا العلمانية واتخذوه عنواناً لحزبهم، وأختم مقالتي بالتذكير بأن النقل والتقليد، ظاهرة مرحلية اعتيادية بالنسبة للأطفال، ومقبولة في مرحلة المراهقة، وذلك لأن الطفل أكثر تأثراً من البالغ الراشد، يقلد أكثر لأن معلوماته وخبراته قليلة، وعندما يكبر يصبح أقل تأثراً وتقليداً وأكثر تأثيراً واستقلالية. ومن هذا المنطلق فليس عيباً أن يتبنى الأفراد، أو تتبنى الصحف والأحزاب وحتى الأمم والمجتمعات في مرحلة الضمور السياسي والاجتماعي والثقافي الفكري والعلمي، وفى مرحلة الوهن الاقتصادي والإنتاجي، فكرة النقل والتقليد الإيجابي، الذي أعتقد أنه نوع من السلوك والثقافة المطلوبة في مثل هذه المراحل، لأنه يقوم على أساس فكرة الانتقاء والغربلة والترشيح بهدف نقل الصالح وترك الطالح، وهو ما يسمى بنقل تجارب الغير، وقد نجح أفراد كما نجحت أمم كاسبانيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والتايوان وماليزيا، بفضل إتباع هذه الطريقة الذكية في التعامل مع معطيات الواقع، ومتغيراته المفروضة. لكن يبقى النقل والتقليد بلا فهم أو تريث، و الدوران في فلك الغير بلا إرادة ولا وعى، الذي تعيشه الأمة العربية، حالة مرضية تحمل بين جنباتها مخاطر طمس للهوية، وذوبان الكيانات الضعيفة داخل الكيانات القوية التي تذكرنا بقصة الغراب الذي قلد الطاووس يوماً ولم يفلح، فلا هو ترك نفسه غراباً كبقية الغربان ورضي بصورته وهيئته، ولا هو تعلم من الطاووس شيئاً، ولا هو استطاع أن يكون طاووساً..