كثير من الخطباء يحاولون إبهار مخاطبيهم بالقدرة على ارتجال الخطاب، وكثير من المخاطبين ينبهرون بقدرة الخطيب على الارتجال الآني لخطابه، وينتقدون كل خطيب يقوم بتلاوة خطابه المكتوب مسبقا على ورقة ، ولنا أن نتساءل ما الفرق بين الخطاب المرتجل والخطاب المكتوب؟ يستمد الخطاب المرتجل جاذبيته وقوته وقدرته على سلطنة وإبهار المخاطبين، من كونه كثيرا ما يكون بعيدا عن الواقعية وأقرب إلى الأحلام والخيالات التي تتغذى على المشاعر الحماسية، والإنسان بطبيعته كثيرا من ينفر ويتهرب من صعوبات الواقع ، ويدرك ان تحقيق أهدافه على أرض الواقع يتطلب منه الكثير من الصبر والتضحيات و المعاناة وأحيانا يجب عليه أن يتصبب عرقا للحصول على قوت يومه، لذلك يميل دائما إلى الاستسلام للأحلام والخيال لأنها شيء سهل ، ويزداد هذا الميل كلما كان الانسان وسط الجماهير التي تستمع الى خطيب مفوه قادر على دغدغة المشاعر وبيع الوهم والخيال لمخاطبيه وهم في غمرة الحماس ، ويزدهر هذا النوع من الخطاب والخطباء في المجتمعات التي تغلب عليها السذاجة وضعف التعليم والثقافة. كثيرا ما يتأثر الخطيب الذي يرتجل خطابه هو بنفسه بتجاوب الجماهير مع خطابه ،وتصبح دغدغة المشاعر متبادلة بسبب الزخم الحماسي الكبير، لدرجة أن الخطيب بنفسه ينبهر بجماهيره ويصبح هو بنفسه ضحية الأحلام والخيالات التي يقوم بتسويقها لمخاطبيه ، وهنا تكمن خطورة هذا الخطاب المرتجل حيث يسقط الكثير من الخطباء والزعماء في أخطاء خطابية فادحة وربما قاتلة ، وتكتشف الجماهير عاجلا أو آجلا أن الزعيم كان يسوق لها الأوهام والأحلام ، لهذا تجد الكثير من الثورات صعوبات بالغة في التحول من الثورة إلى الدولة ، لأن الثورة مبنية على الأحلام الوردية والدولة تتعامل مع صعوبات الواقع والفقر والجهل والمرض ،ولن يستطيع رئيس الدولة توفير الخبز ومحاربة البطالة بمجرد ارتدائه للزي الحركي أو العسكري وهو يحن إلى أيام الثورة وأحلامها ، وكثيرا ما تضطر الجماهير إلى إعادة الانقلاب على الثورة. الخطاب المكتوب مع أنه يفتقر إلى هذه الجاذبية والسلطنة التي يتوفر عليها الخطاب المرتجل، يكون أقرب إلى الواقعية وأبعد من الأحلام والخيال،والخطيب الذي يستعد لخطابه ويكتبه ويراجعه مرارا وتكرارا قبل إلقائه يتجنب الأخطاء الخطابية الفادحة والقاتلة التي يقع فيها الخطاب المرتجل ، كما أنه يحتفظ بالواقعية ولا يبيع الأحلام والأوهام لمخاطبيه ، ولا يزدهر هذا النوع من الخطباء وهذا الخطاب الواقعي إلا في المجتمعات المتقدمة التي قطعت أشواطا كبيرة في التعليم والثقافة والتوعية ، ونحن مازال أمامنا طريق طويل لنصبح مجتمعا مثقفا واعيا وقويا ينخرط بشجاعة في مواجهة صعوبات الواقع، ويستعصي على الخطابات التي تستغل سذاجة الجماهير التي تعاني من الأمية وضعف الثقافة والتعليم ،ورغبتها الجامحة للخروج من الفقر والحرمان لتبيع لها الأوهام والأحلام. وحيث أن الخطاب المرتجل في حد ذاته مجازفة ومغامرة خطيرة بالنسبة للخطيب، فانه كذلك يساهم في حماس الجماهير ودفعها الى المغامرات والمجازفات الخطيرة وهي محمولة على بساط الريح تطارد الأحلام والأوهام، وحيث أن الخطاب المكتوب يعتبر خطوة محسوبة بدقة، فانه يساهم في خلق الوعي الجماهيري بالإمكانيات التي يتوفر عليها المجتمع ومدى قدرتها على الاستجابة لطموحاته ، ويساهم كذلك في خلق الاستعداد لدى هذه الجماهير للصبر على المعاناة وتقديم التضحيات عند الضرورة ، قصد تجاوز الصعوبات على أرض الواقع من أجل الوصول إلى الأهداف. وإذا تساءلنا مرة أخرى من هو الأذكى ؟ هل هو الخطيب الذي يستعد لخطابه ويكتبه ويراجعه مرارا وتكرارا قبل إلقائه ؟ أم الخطيب الذي يرتجل خطابه بناء على قدراته الخطابية والتعبيرية الفورية ؟ فلاشك أن الجواب واضح (وضوح الشمس في نهار جميل واضح وباين )على رأي عبد الهادي بلخياط.