مما يميز هذا الزمن الذي نعيش فيه، كثرة الضغوط والانشغالات، كل واحد منا له أهداف ورغبات مادية كثيرة يريد ويحاول تحقيقها. نريد عملا أفضل وسيارة أحسن وهاتفا أحدث ومنزلا أوسع وأفخم وربما شريكا للحياة أجمل شكلا وأصغر سنا...! في هذا العصر، أصبح الناس أيضا يريدون المزيد من كل شيء، المزيد من أوقات الفراغ، المزيد من المال والمزيد من المتعة والممتلكات. ربما نظن أو نتمنى أننا في يوم من الأيام وبعد ما نصل إلى أهدافنا ونحقق رغباتنا الحالية، سنتوقف عن البحث والسعي وراء المزيد ونقول: "الآن نحن راضون، لقد حققنا كل ما كنا نريد تحقيقه وبلغنا أهدافنا التي كنا نسعى من أجلها". هل سيحدث هذا يوما ما؟ هل سيأتي يوم نتوقف فيه عن السعي وراء المتع والبحث عن المزيد؟ مع الأسف، لن يأتي هذا اليوم أبدا. وبالتالي، لن يتوقف الإنسان عن طلب المزيد. فكلما وصل الإنسان إلى هدفه القريب ظهرت له أهداف أخرى وكلما حقق نجاحا طمع في نجاح أكبر. وهكذا يستمر الإنسان طول حياته (طفلا كان أم شابا أم شيخا هرما)، هدف يرميه إلى هدف ورغبة ترميه إلى رغبة أخرى. هكذا خلق الله الإنسان وهذه طبيعته، دائما في بحث عن الجديد والمزيد. حاله بالضبط كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " رواه مسلم. وفي رواية البخاري: " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". فقط في هاته الحال وعندما يموت الإنسان، تنتهي رغبته في كسب المزيد من متاع الحياة الدنيا. هذا الطمع في المزيد وهذا التفكير المستمر في "كيف نحصل على ما نريد؟"، يسبب لنا الكثير من القلق وعدم الاستقرار، في حين أننا جميعا نريد أن نعيش مستقرين سعداء. الاستقرار والسعادة التي نسعى من أجلها، لا يمكن أن نعيشها حقيقة إلا إذا رضينا بما قسم الله لنا. وبدون الرضى بما قسم الله، سيبقى الإنسان يجري ويلهث وراء أهداف ورغبات لاحدّ ولا نهاية لها أبدا، تماما كمن يجري وراء السراب. لذلك اعتبر الإسلام الرضا والقناعة من أجل وأعظم النعم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه" (رواه مسلم). في هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث نعم عظيمة: نعمة الإسلام، نعمة الرزق الكافي لسد الحاجيت الضروروية للإنسان ونعمة الرضا والقناعة بما قسم الله. وعلى من يتمتع بهذه النعم الثلاثة أن يحمد الله ويشكره لأنه من المفلحين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فلنشكر الله على نعمة االإسلام ولنشكره على نعمة الرزق الكافي الذي بوجوده نحمي كرامتنا من ذل السؤال ولنكن راضين بكل ما قسم الله. وأنا متؤكد أنك ستشكر الله كثيرا على هذه النعم لو وقفت قليلا مع نفسك وفكرت كيف ستكون حياتك بدون هذه النعم؟ بدون إسلام وبدون رزق كفاف. لقد سبق أن قلت ضمن هذه السلسلة بأن الإسلام دين الفطرة وأنه يراعي فطرة الإنسان وما جبله الله عليه من صفات وغرائز، فالإسلام لم يأت لقتل أو كبت الغرائز والميولات الطبيعية والفطرية للإنسان وإنما جاء ليضبطها ويوججهها الوجهة الصحيحة. وإن طمع الإنسان ورغبته في المزيد، أيضا من الصفات التي التي جبله الله عليها. وبدون هذه الرغبة وهذا الطمع ستتوقف حياة الإنسان على الأرض. بدون رغبة في المزيد لن يقوم الإنسان بأي مبادرات ولن تحصل أي استثمارات. وهذا يعني نقصا في فرص العمل وضيقا في الأرزاق. وليس هذا بالتأكيد ما يريده الإسلام، لأن عمارة الأرض من أهم الغايات التي خلق الله من أجلها الإنسان. إن القناعة بالقليل والرضا بما قسم الله، لا نقصد بها منع الإنسان من التوسعة والرغبة في المزيد، فهذا شيء جبل الله عليه الإنسان كما قلت. الذي نقصده بالرضا بما قسم الله هو ضبط طمع الإنسان ورغباته وتوجيهها الوجهة الصحيحة والسليمة بشكل لا يتعارض مع قيم الإسلام. ومن أجل بلوغ هذه الغاية وتحقيق فضيلة الرضا والقناعة، لا بد مما يلي: • إن الإسلام لا يمنع أتباعه من كسب المزيد من متاع الحياة الدنيا ولا يمنعهم كذلك من التمتع بما لذ وطاب من نعيمها، يقول الله تعالى: (قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32. لكن هذا التمتع بطيبات الحياة الدنيا، لا يجوز أن يشغلنا عن الهدف الأول والغاية الأسمى التي خلقنا الله من أجلها والتي تتمثل في عبادة الله تعالى. فما دام انشغال الإنسان بدنياه وسعيه وراء كسب المزيد منها لا يؤثر على علاقته بربه ولا على عبادته إياه، وما دام المسلم خلال سعيه الدنيوي هذا لا يتجاوز حدود الله ولا حدود الناس، فلا حرج في ذلك إطلاقا، وليكسب المسلم ما شاء وليستمتع كما شاء. ولكن عندما يصبح الإنسان كالأعمى يجري وراء الدنيا غير ملتفت ولا آبه لحدود الله ولا لحدود الناس، فقد تجاوز المسموح . وهذا حال الكثير من الناس مع الأسف، حيث أعماهم الطمع وحب الدنيا فهم مستعدون لفعل أي شيئ وتجاوز كل والحدود من أجل بلوغ أهدافهم وتحقيق رغباتهم. • من أجل تحقيق الرضا والقناعة في القلب، لا تنتظر حتى تحصل على ما تبحث عنه. وجه اهتمامك ونظرك إلى الأشياء التي لديك وليس إلى الأشياء التي لا زالت تنقصك. لأنك إن وجهت اهتمامك فقط إلى الأشياء التي تنقصك، فلن تكون راضيا أبدا. لأن النقصان وعدم الكمال من طبيعة الحياة الدنيا. ومهما بلغت، لا بد أن ينقصك شيئ، بل أشياء. ومن ربط رضاه بحصوله على ما ينقصه، فقد نعمة الرضا إلى الأبد. ركز كثيرا إذا على الأشياء والنعم التي لديك وليس على ما ينقصك. • قدّر النعم التي لديك أحسن تقدير واعرف قيمتها واحمد الله عليها. استمع إلى هذا الحديث العظيم الحكيم الذي يحثنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير النعم بقوله: "من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها". رواه البخاري. لو حاول كل واحد منا أن يقف مع نعم الله عليه، فلن يستطيع أحد عدّ ولا حصر هذه النعم. وإذا أردنا المزيد من نعم الله وفضله، فلا بد من الرضى بما وهبنا سبحانه وتعالى وشكره على ذلك. يقول الله تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم:07 • انظر إلى من هم دونك ولا تنظر إلى من فضّلوا عليك بشيء. لأنك مهما بلغت فستجد دائما من لديه ما ليس لديك، ولن تستطيع أبدا أن تدرك كل أو مثل ما لدى الناس جميعا. ولا تنس أنك أيضا تملك الكثير من النعم التي لا يملكها غيرك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (رواه مسل). فإذا نظر الإنسان الذي لا يملك حذاء مثلا إلى إنسان لا يملك قدما، لا شك ستهون مصيبته. لقد أنعم الله عليك بالصحة في حين أن الكثيرين يئنون تحت وطأة المرض. وأنت تستطيع أن ترى بعينيك وتسمع بأذنيك وتنطق بلسانك...فكر في الكثير من الناس الذين لا يستطيعون ذلك. • إذا حرمك الله شيئا وأنت تريده أو أخذ منك شيئا كان قد وهبك إياه، فإياك أن تفقد ثقتك فيه سبحانه وتعالى. فوض أمرك إليه ولا تسخط ولا تنزعج ولا تشك الله إلى غيره. إنه الله، ربك وخالقك، يعلم ما لا تعلم ويرى ما لا ترى. وكل ما يفعله الله بك فهو في مصلحتك، لكنك ربما لا تعلم ذلك. اسمع ما يقوله الله تعالى في القرآن الكريم: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة:216 • ارض بالأمور والأشياء البسيطة والعادية ولا تربط رضاك فقط بحصولك على الأشياء المميزة دائما. لماذا لا بد أن يكون ما تملكه من نوع معين أو "ماركة" معينة؟ لماذا لا بد من شكل أو لون أو موديل معين؟ مع الأسف، بعض الناس لديهم عقدة حب التميز. كل ما لديهم يجب ان يكون مميزا وليس مثل ما يملكه الآخرون، وإلا فلن يرضوا أبدا. حتى في اختيار أسماء المواليد يلاحَظ هذا الأمر، إذ يصر البعض على اختيار أسماء لمواليدهم لا تشبه أسماء الناس. فأصبحنا نسمع أسماء غريبة عجيبة، فقط بسبب عقدة حب التميز وليشعر الإنسان أن اسم ابنه أو بنته لا يشاركه فيه أحد، خاصة من المعارف والأقارب! • إذا رضيت بما قسم الله لك، فإنك ستحس بالسعادة والراحة، لأن الرضا بما قسم الله والسعادة قرناء جميعا، والذي لا يرضى بما قسم الله له لن يذوق طعم السعادة أبدا. فارض بما قسم الله لك وأكثر من قول: الحمد لله.