لا شك أن الحراك الاجتماعي القائم اليوم في بعض المدن المغربية هو رد فعل عن سياسة حكومية لم تجعل من أولوياتها قضايا اجتماعية وعلى رأسها العدالة الاجتماعية. ذلك أن الحزب الذي يقود الحكومة هو حزب ليبرالي يميني محافظ تحت غطاء ديني، ومن الطبيعي أن تكون أولوياته يمينية تخدم مصالح الطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج. غير أن المفارقة غير المفهومة هي تواجد أحزاب يسارية في هذه الحكومة اليمينية. ألم تعد لليسار هوية اجتماعية توجه اختياراته؟ أليس من منطق الوضوح السياسي أن يتموقع اليسار في المعارضة لتأطير الحراك الاجتماعي الذي يتولد حتما عن هذه السياسة اليمينية، عوض تزكيتها؟ ألم تكن هذه فرصة اليسار للعودة إلى حضنه الطبيعي الشعبي للدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية التي يتم الإجهاز عليها من طرف سياسة حكومة يمينية؟ إن الوضع المتردي لليسار اليوم في المشهد السياسي ظاهر للعيان، حيث ضعفت قدرته على التأطير السياسي والاجتماعي، وضعفت قدرته على التأثير على الحراك الاجتماعي، بما فيه الحراك القائم اليوم. كما لم يعد له تأثير على الحراك الطلابي، كونه لم يعد له وجود بارز في الجامعات. إضافة إلى أن نتائج انتخابات 2011 و 2016 أبانت عن تدهور شعبيته من سوء إلى أسوء. إن هذه الوضعية تحتم على اليسار إذن مراجعة مواقفه ورؤيته للأمور في اتجاه العودة إلى حضن القوات الشعبية، وذلك عبر الالتحام بقضاياها. والقضية الأساسية التي يتطلع إليها الشعب اليوم هي العدالة الاجتماعية، التي تعتبر صلب الهوية اليسارية. لقد خاض اليسار في الماضي معركة النضال الديمقراطي منذ السبعينات، للضغط على النظام حينها لينخرط في الاختيار الديمقراطي. وقد نال مساندة شعبية منقطعة النظير طول تلك الفترة. والآن وقد حصل توافق على اعتماد الخيار الديمقراطي من طرف الجميع، وقطع المغرب أشواطا هامة على مستوى المسلسل الديمقراطي وعلى مستوى حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، غير أن على مستوى الأوضاع الاجتماعية فقد ظلت متدهورة عند فئات عريضة من الشعب المغربي، وظلت الطبقة المالكة للثروة والسلطة هي المستفيد الأول من عائد التنمية. هذا ما يحتم عودة اليسار إلى أللالتحام بالشعب لخوض معركته الجديدة: معركة العدالة الاجتماعية. إن بقاء اليسار تائها في حكومة ذات أغلبية يمينية وتزكيتها، لأسباب غير واضحة، له انعكاس بداية على المشهد السياسي، إذ أضحى لا تمايز فيه ولا تعدد، وأصبح معه المغاربة، وخاصة الشباب منهم، غير قادرين على فهم معنى حزب يساري ويميني ومحافظ. هذا الوضع جعل من العمل السياسي عملا عبثيا، حيث لم يعد يثير اهتمام الناس ولا يحفز على المشاركة السياسية، مما قلل من جدوى الديمقراطية بل جعلها دون معنى. ثم إن شرود اليسار وذوبانه في حكومة يمينية، عوض الالتحاق بالمعارضة لتأطير النضالات الاجتماعية لمواجهة هذه السياسة، له انعكاس سلبيي على مستوى الوساطة، حيث يصبح الشارع في مواجهة مباشرة مع النظام حينما وسيطا يتمتع بمصداقية شعبية، مثلما يحدث اليوم في الحراك الاجتماعي، الذي ظل دون تأطير سياسي ولا بوصلة. وفي الأخير فإن هذا الموقف المفارق لليسار له انعكاس سلبي أيضا على مصداقيته وعلى مصيره. إن عودة اليسار كقطب بارز في المشهد السياسي قادر على مواجهة قوى يمينية والتناوب معها على الحكم، لا يتأتى، أولا، إلا بالعودة إلى الالتحام مع القوات الشعبية واحتضان المعارك النضالية التي تخوضها من أجل العدالة الاجتماعية، مثلما خاض في الماضي معركة النضال الديمقراطي. كما لا يتأتى، ثانيا، دون العودة إلى ثقافة اليسار التي تروج للفكر النقدي والتقدمي وللرؤية الاشتراكية والإنسانية التي تشكل بوصلة لاختياراته لمواجهة الاختيارات اليمينية المحافظة. ينبغي التذكير أن النظام في السبعينات والثمانينات عندما أراد مواجهة المد اليساري الذي كان يتقوى حينئذ، لجأ، في اختياراته الاستراتيجية، إلى تشجيع التيارات المحافظة والفكر المحافظ المعادي لليسار، سيما تلك التيارات التي توظف الدين. ولتقوية إيديولوجية هذه التيارات لجأ إلى التربية والتكوين، حيث نهج سياسة تربوية تقوم على التضييق على الفلسفة والتقليص من وجودها بالجامعة وتعويضها بشعب سماها إسلامية. غير أنها في واقع الحال ليست سوى دراسات تروج للمحافظة وتزكية الماضي وتنشر ثقافة تحط من قيمة النقد وتشكك في العقل وتغدي التفكير الميتافيزيقي، وتعتمد قوالب فكرية جامدة، تدعم الحفظ دون النقد، والنقل دون العقل، والخضوع للنصوص بدلا من الاجتهاد والبحث العلمي المنزه، والترتيل دون التفكير. وقد أعطت هذه السياسة ثمارها اليوم، حيث احتلت الأحزاب المحافظة (التي وظفت الدين كغطاء لعملها السياسي) كل المواقع التقليدية لليسار، بل أضحت التيار المهيمن على المشهد السياسي بكامله. هذا يدل أن الصراع السياسي له مدخل ثقافي. إن الفكرة الرائجة اليوم التي تقول أنه انتهى عهد الإيديولوجيات هو خطاب مضلل، إنها إيديولوجية مضللة. لابد لأي عمل وأي ممارسة (ضمنها العمل والممارسة السياسية) من إطار مرجعي نظري فكري يعبر عن فلسفة أي عن رؤية للوجود تشكل بوصلة لاختيارات في هذه الممارسة، مثلما استعملت التيارات اليمينية المحافظة إيديولوجية دينية لمواجهة اليسار والقوى التقدمية. يقتضي عودة اليسار إلى الواجهة تبني عمل سياسي مزدوج: العودة أولا إلى أحضان القوات الشعبية لخوض معركة العدالة الاجتماعية مثلما خاض في الماضي معركة النضال الديمقراطي. والعودة ثانيا إلى تبني ثقافة وفلسفة يسارية متنورة وتقدمية لمواجهة المد اليميني المحافظ بكل أشكاله، أي تبنى فكرا يساريا عقلانيا يعلم المواطن منهجا لتبيان الحقائق، واستعمال عقله لفهم الطبيعة المحيطة به والأحوال الاجتماعية التي يحيا فيها. هكذا سيتمكن المواطن من إدراك أن ‹‹الأقدار›› ليست إلا ‹‹أوضاعا›› سياسية واجتماعية. وأن الإنسان هو المسؤول عن هذه الأوضاع . هذا الوعي هو الذي سيجعل المواطن ينخرط في عمل سياسي له معنى بالنسبة إليه، إذ تصبح السياسة أداة لتحسين الأوضاع الاجتماعية للطبقة التي ينتمي إليها في مواجهة وصراع مع الاختيارات النقيضة لها...هكذا يصبح العمل السياسي له جدوى وذو جاذبية...