يوم الجمعة الماضي كان يوما استثنائيا في تاريخ المغرب، و2 يونيو، الذي صادفه، سيسجل يوم حزن في ذاكرة ذلك التاريخ بالنسبة لمساجد المملكة. ومقابل ذلك التاريخ والذاكرة، أثارت نوازل ذلك اليوم أسئلة مقلقة حول مستقبل مؤسسة المسجد في السياسة بشكل عام، و في المساهمة في تدبير قضايا شائكة مثل الاحتجاجات الشعبية والنضال الحقوقي والديموقراطي، وتدبير ملف الحريات العامة، بشكل خاص. ورغم الأزمة المزمنة للخطبة المنبرية التي لا ترقى إلى مستوى تطلعات المواطنين، لم يضق المسجد بمصليه يوما كما ضاق بهم في يوم الجمعة الماضية في عدد من مناطق الريف بالمغرب. ولم يسبق في تاريخ المسجد بالمغرب أن اتخذ المغاربة موقفا سياسيا من الخطبة المنبرية ومقاطعة صلاة الجمعة في المساجد بشكل جماعي كما فعلوا ذلك بمساجد منطقة الريف. لقد احترم المغاربة دئما قدسية المسجد، وتحملوا خطبا ثقيلة ومتخلفة، ورجحوا دائما صلاة الجمعة في المسجد عن صلاتها خارجه. واكتفوا دائما بالحد الأدنى المتمثل في أداء الشعيرة الدينية مضحين بحقهم في خطبة تحبب لهم الدين، وتنفس عنهم هموم الحياة، وترفع هممهم، وتستفز وعيهم، وتحفزهم إلى معانقة القيم الكبرى، قيم الحب والعمل، قيم الأخوة والتعاون، قيم الثقة والتضحية، قيم الوقت والبذل والعطاء... وكانوا إذا هاجروا مسجدا فإلى مسجد آخر أفضل منه يجدون فيه بعضا مما يستحق تلك الهجرة، من قراءة قرآنية جميلة، ولغة خطاب سليمة، وخطاب خال من المفارقات والمضحكات والخرافات، و... ورغم أن مظاهر الاحتقان بين المصلين ووزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية حول خطيب المسجد هنا وهناك بدأت في التنامي، فالمصلون لم يكونوا ابدا ضد خطبة الجمعة في حد ذاتها كخيار سياسي، بل كانوا يمارسون حقهم في النضال من أجل خطيب يرضونه. ورغم أن تدبير الوزارة الوصية للاحتقانات حول خطيب الجمعة يعطي مؤشرات عن أزمة مقلقة في الحكامة، ورغم أن ذلك التدبير يفضي أحيانا إلى انفلاتات أمنية خطيرة مثل واقعة مسجد قبيلة اولاد الشيخ ضواحي مدينة قلعة السراغنة الذي قاطع المصلون الصلاة فيه لأسابيع رفضا لخطيب عينته الوزارة، وانتهى بها إلى محاولة إغلاق المسجد يوم الجمعة الماضية مما تسبب في مواجهة دامية بين قوات الأمن والمواطنين يظهر فيديو معمم على اليوتوب هؤلاء المواطنين وهم يطاردون قوات الأمن رميا بالحجارة وهم يصرخون صراخ المنتصرين وقوات الأمن تفر من وجههم طلبا للنجاة! ورغم ذلك فهؤلاء المواطنون الذي عبروا عن موقف سياسي حساس بطريقة مرفوضة ضد عزل إمام وتعيين آخر مكانه، موقفهم السياسي لا يرفض خطبة الجمعة، بل خطيبا بعينه. ورغم كثرة حالات النزاع بين وزارة الأوقاف والسكان حول أئمة بعض المساجد، إلا أن الموقف السياسي الرافض لخطبة الجمعة في الريف يعد موقفا استثنائيا ينبغي للمؤسسة الدينية أن تتوقف عنده وتستخرج منه الدروس والعظات. إن أكبر درس ينبغي على المؤسسة الدينية استخلاصه هو أنها إن كان بإمكانها احتكار المنبر وتعيين خطيبه ووضع نص خطبته، فليس بإمكانها مطلقا التحكم بالمصلين. ولا قيمة وظيفية للمسجد نفسه وخطبة الجمعة فيه بدون مصلين وبدون تحقيق المقاصد الشرعية من صلاة الجمعة وخطبتها. ومن أهم الدروس التي ينبغي أيضا استخلاصها وتنبع من الدرس السابق، هو أن على وزارة الأوقاف أن تساير موجة الوعي الحقوقي والسياسي في المجتمع المغربي، وتدرك أنه إذا تقبل المجتمع بغضاضة أن تحرمه الخطبة من حقه في أن تكون أداة نقد للسياسات العمومية والاختلالات المجتمعية في يده، فإنه لن يقبل أبدا أن تكون أداة قمع لحرياته وحقوقه. ونازلة خطبة "الفتنة" التي أكد البلاغ المشترك للأحزاب السياسية في الريف أن وزارة الأوقاف عممتها الجمعة الماضية على مساجد مناطقه، وما نتج عنها من حملة مقاطعة خطبة الجمعة في عدد كبير من مساجده، كاف لمن أراد الاعتبار. ودرس ثالث يفيد أن المساجد لا يمكن ضبطها بالقوة، كما في حالة مسجد "اولاد الشيخ" وغيره، فمقاطعة خطبة الجمعة في الريف لم تتطلب عنفا يذكر، بل استجابة طوعية من المصلين حولت عدة مساجد إلى مشاهد مؤلمة من شبه فراغ. ودرس رابع يفيد أن استمرار خطب الجمعة في استفزاز المواطنين والمس بحرياتهم وحقوقهم الأساسية مثل الحق في الاحتجاج والتظاهر، من شأنه إدخال مقاطعة خطبة الجمعة في الأجندة النضالية للشارع المحتج، وهو ما من شأنه أن يعمم ذلك مستقبلا لتصبح عرفا نضاليا لفرض الإصلاح على خطبة الجمعة والشأن الديني بما يناسب تطلعات المواطنين. وإذا استمر هذا التوجه (استفزاز المصلين/ مقاطعة الخطبة) وتوسع، فقد تجد المؤسسة الدينية نفسها مستقبلا في مأزق غير مسبوق، يستحق نعته ب"الفتنة" الحقيقية. ودرس خامس يفيد أن الاحتقانات المتكررة بين الوزارة الوصية وبين السكان حول أئمة المساجد، يفرض الأخذ بعين الاعتبار حق المواطنين في أن يكون لهم رأي في إمامهم وخطيبهم، كما كان الشأن في ذلك دائما، فالجماعة هي من كانت تنصب الامام وتعزله، وعلى الوزارة أن تساير تنامي الوعي الحقوقي لدى المواطنين باعتماد مقاربات وسطية تشركهم، عبر جمعيات المساجد مثلا، في شأن حساس يهمهم هو الإمام والخطيب. ودرس سادس يفيد أنه إذا كان تدبير وزارة الأوقاف للمساجد، رغم الملاحظات الكثيرة حوله، قد جنب المغرب تحويل تلك المساجد إلى مجال للصراع السياسي والاديلوجي بين المواطنين، كما هو الشأن في كثير من البلدان الإسلامية، فإن توظيف تلك المساجد من طرف الدولة في الصراع السياسي، وفي المس بحقوق المواطنين الأساسية التي أقرها دستور المملكة نفسه، سيعطي نتيجة أخطر، وهي الصراع بين الدولة والمجتمع حول تلك المساجد، وما وقع في مساجد الريف مجرد صورة مصغرة لما يمكن أن يكون عليه ذلك الصراع. فالمساجد ينبغي أن تبقى بعيدة عن التوظيف السياسي سواء من طرف المواطنين أو من طرف الدولة. إن ما سبق يؤكد أن المطلوب هو أكبر من المطالبة باستقالة وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية، ويتعلق باعتماد موجة إصلاحات جديدة لدمقرطة الشأن الديني، تساير الدستور الجديد من جهة، وتساير التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، من جهة ثانية، وخاصة توجهه الكبير نحو وعي سياسي وحقوقي وديموقراطي يزداد تجدرا يوما عن يوم. وهذا يفرض على ذلك الاصلاح أن يكون عموده الفقري خدمة المواطن والمواطَنة بمفهومهما المعاصر.