قبل أسابيع قليلة جرى توقيف عبدالحميد النجاري، خطيب الجمعة في مدينة بركان، بعد تطرقه لحادث زوال غطاء الكعبة بسبب الرياح القوية التي ضربت المنطقة خلال تأدية الحجاج لمناسك الحج لهذه السنة، معتبرا أن تطاير غطاء الكعبة هو فأل خير لزوال الظلم الذي استفحل في البقاع المقدسة، وهو ما دفع بوزارة الأوقاف لتوقيفه، على اعتبار أنه زج بالسياسة في خطبة الجمعة، وهو ما يتنافى والحياد الواجب توفره في القيمين الدينيين بحسب الوزارة. حالة النجاري ليست الأولى من نوعها، بل سبقتها قصص مشابهة لخطباء أُسقطوا من على منابرهم لأسباب عديدة تصب في مجملها، في الخروج عن الخطوط التي ترسمها الوزارة لخطبائها وعليهم التقيد بها. التوقيفات جرى بها العمل في مناسبات عديدة، وتكاد تكون مألوفة في كثير من الأقطار العربية والإسلامية، والمغرب ليس استثناء، وهو ما يفسح المجال للحديث عن قضية تبدو حساسة لعدد من الأنظمة العربية التي يشكل فيها الدين محركا رئيسا في حياة شعوبها. وعلى الرغم من وجود وسائل أخرى مؤثرة في المجتمع غير خطب الجمعة، من بينها مواقع التواصل الاجتماعي، التي أضحت أداة ناجعة في يد المواطنين للتطرق لمختلف القضايا التي كانت إلى زمن قريب مستترة ومصنفة ضمن الطابوهات. اليوم، أضحى الفيسبوك وتويتر سلاحا لتصريف مواقف الشعوب والضغط على صانعي القرار حول قضايا مختلفة، إلا أنه لازال على ما يبدو للخطب هيبتها الخاصة. فتطور وسائل الاتصال لم يلغ الدور الكبير الذي لازالت تلعبه منابر المساجد كوسيلة تتعدى دور الوعظ الديني. عدد من الدول بينها المغرب لازالت تحكم قبضتها على مضامين الخطب وترسم للخطباء خطوطا يفترض عدم تجاوزها، ويتوجب عليهم ألا ينطقوا إلا بما يُهمس في آذانهم. شرعية السلطة من شرعية الدين يرى المحلل السياسي، محمد شقير، أن شرعية السلطة قائمة على التحكم في الحقل الديني الذي تمثل المساجد أبرز وسائله. فمن خلال خطبة الجمعة تعمل السلطة على تمرير إيديولوجيتها وتكريس شرعيتها الدينية، وهو ما يبرر سعيها الحثيث إلى التحكم في آليات الخطبة ومضامينها، ومن ثمة التحكم في خطباء الجمعة وتقييدهم بعدم الخروج عن الإطار العام المحدد من طرف وزارة الأوقاف. وفي حال عدم امتثال بعض الأئمة للقوانين المسطرة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يجري توقيفهم عن العمل، وهو ما لمسناه في نماذج عديدة في مختلف مساجد المملكة، آخرها قصة خطيب بركان. التوظيف السياسي للخطب، بحسب شقير، يتجسد، أيضا، في توحيدها في المناسبات والأعياد الوطنية لتمرير رسائل محددة من طرف السلطة، دون إغفال جانب الاهتمام الذي أضحت توليه الدولة للخطباء، بعدما سعت وزارة أحمد توفيق إلى الرفع من تعويضات الأئمة ورواتبهم في عدد من مساجد المملكة، الأمر الذي يجسد كون هذه الفئة تحت مجهر السلطة.
الخطب VS وسائل التواصل من جهة أخرى، يرى الباحث في الشؤون الإسلامية، محمد عبد الوهاب رفيقي، في تصريح ل”اليوم24″ أن خطب الجمعة اليوم، تقلص دورها بشكل كبير عما كانت عليه سلفا، إذ كان خطيب الجمعة سابقا هو المخاطب الوحيد للجمهور، ويجري انتظار يوم الجمعة باعتباره موعدا أسبوعيا يسمح بالاستماع للخطاب الديني. اليوم، صار الأمر متاحا للجميع من خلال مقاطع تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي فالخطاب الديني أصبح متوفرا بشكل كبير جدا وبأنواع كثيرة، ومن مشارب مختلفة. واعتبر رفيقي أن انحصار دور خطيب الجمعة لا يعني أن الخطبة فقدت تأثيرها، بل لازالت تحتفظ بقوتها الكبيرة وتستقطب فئات أوسع بكثير من تلك التي تستقطبها مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها تشهد حضور من يستخدمون تلك المواقع ووسائل التواصل ومن لا يستخدمها، بمعنى أن جمهورها يشمل مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية. وفي ظل التأثير الكبير الذي تمارسه مواقع التواصل التي تتطرق لمختلف المواضيع بجرأة أكبر مقارنة مع منابر المساجد، قال الباحث في الدراسات الإسلامية إن الخطابات الدينية الموجودة على مواقع التواصل ليست لها تلك القوة والرمزية والمعنوية التي تملكها خطب الجمعة من حيث الزمان والفضاء الذي تقام فيه، فضلا عن الأجواء الروحانية التي تملأ المكان، كل ذلك يجعل تأثير الخطيب في المصلين قويا أكثر من كل مخاطب آخر، لذلك قد لا يتأثر الإنسان بكل الوسائل الأخرى، لكن يتأثر بخطبة الجمعة. ونتيجة لهذه السلطة، فالأمر يستدعي المراقبة، بحسب أبو حفص، متابعا “صحيح أنه يجب تمتيع خطباء الجمعة بهامش من الحرية حتى تغدو خطبهم مؤثرة وفعّالة، أكثر مع الحرص على توظيفها من أي جهة كانت”. واعتبر الباحث في الدراسات الإسلامية أن المسجد يجب أن يكون بعيدا عن الشأن السياسي، سواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية أو تعلق ببعض الأمور المتعلقة بالدولة، والتي لها فضاءاتها، لذلك ينبغي أن يكون المسجد بعيدا عنها، خاصة حينما يكون الأمر محل اختلاف. وأضاف أبو حفص أن تمتيع الخطيب بهامش الحرية سيسمح له بالإبداع في مضامين الخطب، عوض تلك الخطب المملة والروتينية التي تنفر عددا من المصلين، الذين أصبحوا يفضلون حضور الصلاة مباشرة دون سماع الخطبة، نظرا إلى رتابتها وافتقادها للإبداع على مستوى المواضيع المختارة. وبخصوص توقيف عدد من الخطباء يرى أبو حفص أنه منطق معقول، في حال ما تجاوز الخطيب الخطوط العامة التي ينبغي أن تكون عليها الخطب. “بعض الأئمة يعمدون أحيانا إلى نشر أفكار التطرف التي لازال المغرب يعاني من تداعياتها منذ أحداث 16 ماي سنة 2003، والتي كان من بين أسبابها أن خطب الجمعة كانت غير خاضعة للمراقبة والخطابات المتطرفة، وكان يجري تمريرها عبرها”، بحسب الباحث في الشؤون الإسلامية.
تخوف مشروع اعتبر منتصر حمادة عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث في تصريح ل”اليوم24″ أن تأثير الخطب مستمر عبر الزمان والمكان، وطبيعي أن تتخوف الدولة منها وتضعها تحت مجهرها “لأن هناك ثوابت وطنية ودينية، وخطبة الجمعة كما هو معلوم، تساهم في الحفاظ على هذه الثوابت وصيانتها، وهذا أمر قائم في شتى المجالات التداولية”. مراقبة مضامين الخطب وتسخيرها كوسيلة للدعاية أمر مشترك بين عدد من الدول “لو تأملنا مضامين خطبة الجمعة في الزمن الذي كان فيه تنظيم “داعش” يتحكم في رقعة جغرافية ما، سنلاحظ أنها موجهة للدفاع عن المشروع الإسلامي الحركي في نسخته القتالية أو قل “الجهادية”، وكذلك الأمر مع خطبة الجمعة في إيران الشيعية، أو في حال تمكن تنظيم إخواني مثلاً من التحكم في دواليب دولة أو نظام هذه أمور متوقعة”، بحسب منتصر حمادة. أما موضوع تحكم الدولة في مضامين الخطب، فيرى منتصر حمادة أنها “مغالطة” تروجها “الأقلام الإسلاموية”، على اعتبار أن السائد في الحالة المغربية أن الوزارة الوصية ترسل مذكرة تتضمن إشارة عن الموضوع الذي من المستحب أن يتطرق إليه الخطيب، “وله كامل الصلاحية في تناول الموضوع، لغة ومضموناً، طالما يحافظ على ثوابت المجال التداولي الذي ينتمي إليه، وهذا هو الأصل”. وأردف رئيس مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث قوله، إن هناك ما يشبه ميثاق شرف من المفروض أن يلتزم به الخطيب، بعيدا عن الفوضى “وإلا يصبح حينها من حق الخطيب أن يصفي حسابات سياسية أو دينية أو طائفية مع منافسيه، وبالتالي على الإمام احترام مقتضيات ذلك الميثاق، لأنه يتحمل مسؤولية أخلاقية أولاً، قبل أن تكون مسؤولية إدارية أو قانونية”.
كرونولوجيا التوقيفات مسلسل إسدال الستار على منابر الخطباء طالما أثار الكثير من الجدل في المشهد الديني في المغرب خلال السنوات الأخيرة. أئمة عبروا عن مواقفهم إزاء قضايا معينة، فكان الجزاء التوقيف عن العمل. عبد الله نجاري، يعد آخر حلقة الموقوفين لحدود الساعة، سبقه إلى ذلك خطيب مسجد بن تاشفين بفاس محمد أبياط، الذي تم إعفاؤه من مهمته سنة 2016، ما أثار احتجاجات وانتقادات واسعة وصلت حد مقاطعة صلاة الجمعة بالمسجد المعني من طرف المواطنين، وهي الحادثة التي اعتبرت سابقة من نوعها في المملكة. ففي ظل توقيف عدد من خطباء الجمعة، يستغرب الكثير من التناقض الحاصل في موقف الدولة إزاء مواضيع الخطب. ففي الوقت الذي تعمد فيه إلى تخصيص خطب الجمعة للدعوة إلى التصويت في الانتخابات مثلا أو توحيدها في الأعياد الوطنية والمناسبات، تذهب في المقابل إلى توقيف خطباء بدعوى إقحام ما هو سياسي فيما هو ديني، وهو ما يرى فيه البعض تناقضا وموقفا مزدوجا للوزارة الوصية على القطاع في التعامل مع الأئمة. السياسة لم تكون لوحدها المصيدة التي أوقعت الخطباء في شراكها، بل لمهرجان موازين أيضا نصيب في الموضوع. عبدالله نهاري كان من بين الأئمة الذين انتقدوا مهرجان “موازين” وعُرف بعبارة مشهورة ألقاها في إحدى خطبه “سيأتي يوم يأخذ فيه الأئمة الرخصة من موازين”، وهي العبارة التي انتشرت بشكل واسع بين رواد مواقع التواصل قبل أن يأتي قرار توقيفه سنة 2011. وفي أعقاب حملة المقاطعة الأخيرة التي شملت ثلاث علامات تجارية احتجاجا على غلاء الأسعار، تم توقيف الخطيب مصطفى الموهري بمسجد إبراهيم الخليل بسلا، بدعوى التحريض على مقاطعة بعض المنتجات الاستهلاكية، وهو الأمر الذي نفاه الخطيب، مشيرا إلى أنه تطرق قبيل رمضان لموضوع لمسألة الاحتكار وغلاء الأسعار في الأسواق خلال الشهر الفضيل، مع الإقبال الكبير للناس على شتى المواد الغذائية. تفاعلا مع قرارات توقيف الخطباء تتناسل ردود فعل رافضة لتكميم أفواه عدد من الأئمة، وثنيهم عن التطرق لعدد من المواضيع التي تزعج جهات معينة، في ظل انتقادات لطبيعة الخطب التي يتم إملاؤها على الأئمة، دون السماح لهم بهامش من الإبداع فيها.