حسب الميثولوجية الإغريقية يعتبر كرونوس إله الزمن، ومنه اشتُق اسم الكرونوميتر الذي نسابقه ويسابقنا طوال حياتنا. وحسب الأسطورة فثمَّة من أوْحى إلى هذا الإله الحاكم أن واحداً من أولاده سيهدد سلطانه. ولمُماحكة هذه النبوءة كان الإله المفزوع يعمد إلى أكل أولاده فور ولادتهم. لكن زوجته ريا ضاق صدرها بصنيع زوجها فأخفتْ ابنها السادس زِيّوس ووضعت مكانه حجراً ملفوفاً في قماش لِيلْتهِمها كرونوس كعادته دون أن يَنتبِه إلى حقيقة الأمر. وتشاء الأسطورة أن يَتربَّى زيوس بعيداً عن أعين والده حانقاً عليه متحيِّنا الفرصة للانتقام منه. وفعلاً، حين اختمرت الظروف تمكن زيوس من جعل أبيه يتقيأ كل أولاده الذين ابتلعهم. وبعدها وبمساعدة إخوانه العائدين سيُطيح زيوس بأبيه الظالم كرونوس ليُمسي حاكماً للكون. إذا نزلنا من سماء أثينا وقمم جبال الأولمب، حيث الأساطير والآلهة المتناحرة، وجلسنا نتدبر تاريخ البشر على الأرض، سنفاجأ كيف أن أسطورة كرونوس وزيوس ما فتئت تتمظْهر مرارا وتكراراً. قد تتلبس روح كرونس فرعوناً متألهاً أو حزباً فاشيستياً أو نظاماً مافيوزياً يستأثر بحكمٍ لا حكمة فيه. كما أن زيوس قد يظهر في شكل نبي أو ثائر أو جماعة حانقة ممتعضة من جنون كرونوس. يتربَّى زيوس غالباً في غفلة من كرونوس، إمّا في المنفى أو في جلسات سرية تتستر عن الأعين. والأصل في كل ''الكرونوسات'' أنهم يعشقون الحكم، ألَمْ يصف المهدي ابن تومرت السُّلطة بأنها ''أعز ما يُطلب''؟. لكن ما يزيد من شراهة كرونوس وشراسته هو وسوسة المُوَسوِسين بأن هناك من يتربص بعرشه، فلا يتورَّع عن أكل أولاده مهما كان عددهم. والأكل يكون بالنفي أو السجن أو التقتيل إن اقتضى الأمر. وكلما اشتد طغيان كرونوس إلا وازداد "تطرف'' زيوس، وكلّما كَثر عدد الأبناء المأكولين إلّا وأزفت نهاية الأكّال. تلك سُنّة الله ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً. في المقابل أحسبُ أننا لسنا مضطرِّين لتبَنِّي مقاربة ''حتمية الصِّراع''، ويحزُّ في النفس أن نقطع بألاّ حلّ سوى ''العنف الثوري''. نُحاول دفْع السُّنَن بالسّنَن ليس ضعفاً أو "دروشة" بل حكمة وشجاعة. فهلّا عوْدة إلى أثينا ولنبحث في قواميسها عن مخْرجٍ نحفظ به ماء وجه كرونوس ونحاول استرجاع زيوس إلى حضن والده ونخرج باقي الأبناء من الغياهب فنصون العباد والبلاد. من بين آلاف المصطلحات اليونانية، تومئ لنا كلمة بادٍ جمالها: ها أنا ذي ...إنها ''الميتانويا''، كلمتين في كلمة: ''الميتا'' وتعني ما وراء، ثمَّ ''النوس'' ويراد بها العقل، وتعني تغيير الفكر الباطني أو تجديد الذهن. شيء يشبه التوبة والأوْبة ومراجعة النفس... وهو بالضبط ما يحتاجه كرونوس. الميتامونيا السياسية مارسها الكرونوس الألماني بعد الحرب العالمية الثانية فأدَّت إلى ما نراه حالياً، كما مارستها إسبانيا بعد الجنرال فرانكو فكانت النتيجة طيبة، ومارستها دول إفريقية وأمريكية بعدما اقتنع كرونس بألاَّ فائدة تُرجى من أكل كل أبنائه، وأن من حق زيوس أن يعود إلى حضنه الطبيعي. تخلَّص كرونوس نهائياً من فكرة وجود مؤامرة على الكرسي، وعاد هو الآخر إلى أثينا وفتش في قواميسها فأغْوتْه كلمة لا تقل بهاءً عن الميتانويا، إنها "ديموكراسيا''... نعم هي الديمقراطية، يؤمن بها كرونس بعد توبة نصوح، يتبرأ من البطانة التي ألّبته على أبنائه حين وصمتهم بالانقلابيين والانفصاليين والفتَّانين، كَبُرتْ كلمةً تخرج من أفواههم ... يربت كرونوس على كتف زيوس ويتعاهدان أن يجعلا الماضي وراء ظهريهما ورفاهية الوطن نصب أعينهما. لسنا بصدد الكلام عن إيوتوبوس (eu-topos) والذي معناه مكان الخير والفضيلة، و"المستورد" هو أيضاً من سفح جبل الأولمب. إنما حديثنا عنْ خيار واحد أوحد، وإلاَّ اضطررنا أن نقوم برحلة أخرى، ليس إلى أثينا هذه المرة، ولكن إلى حلب أو الموصل أو ربما إلى الجحيم...