الساحة السياسية الوطنية أصبحت تعرف فراغا فظيعا، ولا يستطيع إنكار ذلك إلا كذّابٌ مضلّل أو متعجرف متكبر؛ والنخبة التي اصطفت وتكالبت على وليمة 7 أكتوبر زاعمة ومدعية أنها ستحمل المغرب إلى بر الأمان بمشاركتها في الحكومة، هي جزء من المشكل إن لم تكن المشكل كله، فبالأحرى أن تكون جاءت أو جيء بها من أجل حل مشاكل الناس ! عبدالإله بنكيران رئيس الحكومة السابق وبالرغم من كل انتقادنا اللاذع له على غرار كثيرين، بسب ما انتهجه من سياسات عمومية رامت الحفاظ على المؤشرات الماكرو-اقتصادية بما تقتضيه خطوط الائتمان المفروضة من طرف مؤسسات النقد الدولية، أكثر من حرصه على عدم النيل من إمكانات الطبقات المتوسطة والفقيرة والمعيشية، إلا أنه كان بحق الواقيَ الذي تشتهيه سهام نقدنا نحن ككُتاب ومتتبعين، أولا، وثانيا كان يمثل ورقة الجوكِر التي يعلق عليها الناس آمالهم، حتى مع إيمانهم بأنها من الصعب رؤيتها واقعا ملموسا. لكن على الأقل كانت للرجل جرأة نادرة للوقوف أمام الناس وقولُها بصوت جهور بأن ليس بوسعه خِداعهم أو الكذب عليهم بوعود لن يحققها لا هو ولا غيره في ظل إكراهات تفرضها أوضاع الخزينة العامة للدولة الآيلة للإفلاس، وصناديق التقاعد التي نخرها الفساد حتى باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وصندوق المقاصة الذي أضحى بقرة حلوبا يرضع حليبها الأغنياء ولا يصل للفقراء إلا النزر اليسير والهين. الجميع يتذكر كيف أن بنكيران بدهائه السياسي المتفرد وشخصيته الكاريزمية النادرة كان لا يخشى لومة لائم من أن يصدح في جموع الناس بأن عليهم التجلد بالصبر لإنقاذ الدولة لأن في إنقاذها إنقاذاً لمستقبلهم، كما كان يردد دوما، وهو الموقف الذي لم يستطع تبنيه خلفُه السيد سعد الدين العثماني الذي أبان عن غير قليل من ضعف الشخصية وجُبن غير مبرر لمواجهة احتجاجات الريف، على الأقل من منطلق دور الإطفائي الذي يلوذ إليه أغلب السياسيين عند عجزهم على تلبية مطالب الناس، وأبى إلا أن يؤكد لمن لا يزال غير مقتنع بحقيقته بأنه يترأس حكومة هجينة وحتى لقيطة ولا تمثل أحدا غير وزرائها والذين رسّموها. صعوبة وخطورة حراك الريف الذي ازداد تعقيدا من حيث حاولت الحكومة الحالية إخماده، وذلك بسبب الارتباك الناتج عن رعونة وزراء هذه الحكومة واهتزاز مواقفهم بسبب استوزارهم المشكوك في مشروعيته، تقتضي (الخطورة) وجودَ رجلِ دولة من ورائه قاعدة شعبية ولئن كانت من مناضلي حزبه، حتى تتقوى لديه الإرادة والرغبة والرجولة أيضا فيُقدم على مخاطبة قيادات حراك الريف بما توفر لديه من مشروعية سياسية أولا، وثانيا من قدرة على بسط إمكانات الدولة التي لديه، دون مواربة وبكل ما يلزم من صراحة لا توفرت بكل تأكيد فيه ولا ينازع فيها أحدٌ رئيس الحكومة السابق السيد بنكيران ! هاهُنا يبرز بشكل جلي مدى التوجس بل وحتى الجبن الذي أبانت عنه القيادات الحزبية، سواء الأغلبية منها أو المعارِضة، ولا سيما الحزب الذي ظلت قياداته تزعم أنه نجح في تنزيل مصالحة النظام مع الريف، ليتضح بما لا يدع مجالا للشك الآن أن ذلك كله كان مجرد أضغاث أحلام إن لم يكن مجرد أوهام تم تسويقها وتقديمها كهدية ( وكانت ملغمة) للنظام لينال الحزب إياه مقاليد تسيير الشأن العام أكثر مما تحصل عليه الآن من إدارة وترؤسِ مجالس جماعية وجهوية ومؤسسة تشريعية ! الظرفية الحساسة جدا والتي جعلت كل غيور على الوطن يضع يده على قلبه، خوفا من أن تتخذ منحى أخطر يهدد استقرار البلاد والعباد، كما تتطلب رجلا من طينة عبدالإله بنكيران لا من طينة المليارديرات وزعماء الكارطون العابثين بأحلام الناس، فإنها تتطلب ولا بد تدخلا للملك رئيس الدولة شخصيا وليس عبر الوسطاء حتى ولو كانوا وزراء على شاكلة الوفد الوزاري الذي حط الرحال بالمنطقة بأوامر من الملك، وهو يحمل معه بحقائبه أوراقَ فشل المهمة أكثر من أوراق النجاح، وكيف ينجح الوفد الحكومي وقد سبقت مهمتَه خرجةٌ إعلامية وسياسية غير محسوبة العواقب سمّت فيها قيادات الأغلبية ب"الانفصاليين"؟ قبل أن تسعى لمحاورة هؤلاء "الانفصاليين" وهو موقف –لعُمري- وحده كافٍ ليفشل أية مبادرة إخماد للاحتجاجات وهي في مهدها لافتقاده أول وأهم عنصر ينبغي توفره في مثل هذه المبادرات ألا وهو عنصر الثقة ! في الحاجة إلى الملك يعني إما أن يرسل رئيس البلاد إلى المنطقة وفدا من القصر وليكن متكونا من مستشارين ورجال أصحاب أيادي بيضاء ومن غير الذين تشوب سيرتهم شوائب يعرفها القاصي والداني، ليحاوروا ممثلي المجتمع المدني وقيادات الحراك مع إبداء النية الحسنة في عدم متابعة أيا كان بشرط عدم المساس برموز ومؤسسات المملكة، ووضع أجندة أو خارطة طريق لتحقيق مختلف المطالب تباعا وتماشيا مع الإمكانات المركزية والمحلية والجهوية؛ وإما أن يتنقل ملك البلاد شخصيا إلى مركز الحراك (الحسيمة) ويوجه خطابا إلى الأمة يقر فيه –وقد فعل مرارا- بالمطالب المشروعة لساكنة المنطقة ولكل الناس في مختلف ربوع البلاد، ويضمن الخطاب إشارات –على الأقل- أشبه بالاعتذار عن سوء تدبير مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، ثم تقديم وعد بتعديل حكومي من الأفضل أن يتم فيه تقليص عدد الوزراء إلى رقم أصغر بكثير من العدد الحالي في إشارة إلى إبداء حسن النية لترشيد النفقات أفقيا على أمل إعادة توزيعها عموديا، ما يمكن أن يطمئن المتلقين أكثر ويخمد الغضب الكامن في النفوس ! [email protected] https://www.facebook.com/nourelyazid