من الحكمة أن تهدأ الحسيمة الآن، بعد أن أعلنت عن مطالبها الاجتماعية بقوة الاحتشاد في المسيرة الأخيرة. لا ينبغي أن تنسى الحسيمة، وهي تشهر دفتر مطالبها، أن هناك مناطق أخرى في المغرب أسوأ منها حالا على أكثر من صعيد... في الدارالبيضاء، وسطات، وخريبكة، وطاطا، وبركان، وطرفاية، وسيدي قاسم، إلخ. لقد نجحت المسيرة في التنبيه إلى حاجات محددة، وبخاصة بناء المستشفى المأمول لعلاج أمراض السرطان، وغير ذلك. كما أنه ليس من العقل، بالنسبة إلى جميع أهلنا في الحسيمة، استمرار "الآحاد" منهم في محاولة "كسر العظم": المغرب مغربنا في نهاية المطاف، وهو واحد بالنسبة لجميع مواطنيه. أما الدولة، فينبغي لها أن تقترب من المواطنين، بالاستباق إلى تلبية حاجاتهم. هناك بؤر جد هشة في البلاد، وفي أية لحظة يمكن أن تنفجر، نظير ما يقع بالحسيمة اليوم. إضافة إلى ذلك، ينبغي لعقل الدولة أن يستوعب أن مسيرة ديمقراطية، بمؤسسات ديمقراطية تمثيلية حقيقية، يمكن أن تشكل أهمّ "بارشوك" لصدّ الكثير من الارتجاجات الاجتماعية. لقد انقضت على حراك الحسيمة، منذ مقتل الشهيد محسن فكري، مدة ستة أشهر. وليس من الصعب على أحد ملاحظة أن عمر الحراك يوازي عمر "البلوكاج" الحكومي، ما يمكن أن يساعد في قراءة الوضع العامّ ببلادنا. وعلى الرغم من أهمية الحراك، المتمثلة في التنبيه إلى الوضع الاجتماعي-الاقتصادي القائم بالريف، إلا أن الأهمية الكبرى تتجسّد في ضرورة القطع مع "العبث" السياسي والاقتصادي والحقوقي الذي بتنا نعيش عليه حياتنا العمومية. إن "الحسيمة" ليست قضية "الريف" بمفرده، وإنما هي قضية المغرب بشكل عامّ. ها هنا، تبدو أهمية أن يكون للحراك نتائج إيجابية، على سكان الريف وعلى المغاربة جميعا. ولذلك، ليس بوسعنا غير الحرص على نجاح الحراك، في إطار ما يمكن أن يتمخَّض عنه من دينامية إصلاحية جذرية. كلما بدأت الدولة تهن وتشيخ، بفعل تمكُّن البيروقراطية والانتهازية والاستبداد، إلا وقُيِّض لها "من" يجدد لها حياتها، ويبعث فيها الأمل: الأمل في حياة مواطنية جديرة بالمغاربة قاطبة. ليس هناك قراءة وطنية أخرى لا تلتقي مع بعض أو كثير مما سلف من أفكار وملاحظات. وإذ من عادة المرء (المواطن) استهجان كل خطاب حول "الوطنية" مغلق، إلا أن بعض الإشارات والتصريحات الواردة من ساحة الحراك بالحسيمة، لا شك في أنها تستدعي غير قليل من الحذر والتوجُّس. ولعل في مقدمة تلك المؤشرات والتصريحات غياب رفع الأعلام الوطنية بمحاذاة الأعلام الجهوية (الثقافية)، إلى جانب "خرجة" أبرز وجوه الحراك، في سياق وصف "شريك" في الوطن ب"الاستعمار العروبي". لقد عاش المغرب أكثر من حراك، في أكثر من مدينة. والمفارقة أنه لم يكن لأحد الجرأة في "تحفيظ" هذا الحراك أو ذاك باسم هذه الجهة أو تلك. إن أية قوة لحراك الحسيمة إنما تنبع من أهمية الجمع بين الدعوة إلى تلبية مطالب أهلنا بالريف الاجتماعية والثقافية، والدعوة إلى تدبير سياسة عمومية ديمقراطية عادلة. إن مغرب ما بعد 20 فبراير ليس هو مغرب ما قبله، وبخاصة في ظل انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وقدرتها الكبيرة على التحشيد الجماهيري. ليست لنا جنسية أخرى، غير المغربية... في بلادنا نحيا وفيها نموت... لذلك، اتركونا نعِشْ بسلام.. ويبدو أن أول خطوة إلى السلام تبدأ بالحفاظ على جمرة المعنى في هذه البلاد: المعنى في ممارسة المواطنة، المعنى في مزاولة السياسة، المعنى في تقاسم خيرات البلاد، المعنى في الحياة بكرامة.