تابعت كباقي الباحثين على مستوى العالم العربي منتدى الدوحة الأخير، والذي ركز بشكل خاص على "التنمية والاستقرار وقضايا اللاجئين". وسينعقد بالمملكة العربية السعودية لقاء "دولي" كبير اصطلح عليه بالقمة "الإسلامية الأمريكية" لتدارس قضايا المنطقة في ظل الأوضاع الكارثية بسوريا والعراق واليمن... وطرحت على نفسي كباقي المتابعين عن بُعد مجموعة من الأسئلة: ما الفائدة من مثل هذه المنتديات واللقاءات في ظل المآسي والأهوال التي يعيشها اللاجئون الذين يقدرون بالملايين؟ أين كانت مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية قبل حصول الكوارث بعالمنا العربي؟ أين كانت عقول إخواننا بالمشرق فيما كانت عقول الإيرانيين والغربيين تخطط لتقسيم بلدانهم؟ كثير من الباحثين المشارقة يتحدثون عن العقل السياسي العربي وكأنه بنية متكاملة، ميزتها الصدق المطلق في الزمان والمكان؛ وهو اعتقاد يدفع العديد منهم إلى إسقاط الماضي السابق على الحاضر المعيش وحتى المستقبل، بل أسروا أنفسهم والآخرين في العقل السياسي الماضوي الانتقائي بشكل فريد وغريب، فتجمد لديهم الفكر وغابت عن وعيهم دينامية الحياة التي تنبع من جدلية الفكر والفعل، فأزاحوا الشك واعتبروه "رذيلة" وغيبوا فضيلة الإبداع السياسي بشكل انعكس سلبيا على أوطانهم. ليس غريبا في هذا السياق أن نرى، في هذه الأيام خصوصا، تصريحات من هنا وهناك لمسؤولين مشارقة خليجيين على قنوات فضائية معينة تهين صورة الإنسان العربي عموما؛ بل وتظهره على أنه لا يفكر بالشكل الصحيح. الإخوة المشارقة لم يستوعبوا أنه في حالة الإخفاق والعجز يجري بطريقة ما تغييب الإرادات، وخصوصا السياسية منها؛ فبثنا نرى في زمننا إرادة الفعل والفكر السياسيين لديهم تعمل لحساب الآخر البعيد، وليس التصدي بطرق ما من أجل استثمار عوامل القوة والتحكم فيها بالشكل الصحيح. المشرق العربي بات اليوم على حافة الهاوية بسبب سياسات بعض أنظمته التي غيبت التفكير العقلاني الاستراتيجي الهادئ واستبدلته بالاعتماد والتواكل كليا على استراتيجيات الآخر دون مراعاة النتائج والتداعيات، فها نحن نرى انهيارا تاما للأمن الإقليمي بدول المشرق العربي مما جعلهم عرضة للتآكل من الداخل والخارج. وما المناورات العسكرية التي تنظم بين الحين والآخر إلا مجرد "ضربة بارود" تظهر بجلاء أن هناك شيئا ما في الأفق تتهيأ له جل دول المنطقة كل حسب طاقته ومصلحته الذاتية. عندما تسأل بعض رؤساء مراكز البحوث بالخليج عن علاقة دولهم بجيرانهم الإيرانيين يجيبونك بدون تحفظ "بأنه صراع تاريخي عنيف يفتقد لكل ميزات الحرب الشريفة"؛ بل ويضيفون "أن الفرس أهل دسائس ومكر وخداع وغدر. في الماضي، أغاروا على بلداننا الآمنة وقتلوا أبناءها دون جريرة، يقطعون العهود والمواثيق ثم ينكثونها، يطمعون في البلاد وفي خيراتها، ولا يرضيهم إلا أن يكون أبناء منطقتنا خدماً لهم، وحتى الخونة فهم يقربونهم حتى إذا نالوا منهم ما يريدون قتلوهم". أصبحت صورة الإيراني "المعمم" هما رهيبا ينوء بكلكله على كل العرب بالمشرق. لقد بات يمقته الكل من كثرة ما يسمعون عنه من الأهوال التي تصدر عنه تجاه إخوانهم العراقيين والسوريين واليمنيين، وأصبح الخوف من غدره أشد ما يخشاه العربي. وحتى التاريخ يزيد الطين بلة ويعمق الجراح، بالرغم من حقيقة وجود قاسم الجغرافيا بين دول الخليج وإيران. وعلى الجانب الآخر، عندما تسأل كبار باحثي المراكز الاستراتيجية الإيرانيين عن العلاقة مع دول الخليج، فإنهم ينطلقون دائما من خلفيات لا تبتعد كثيرا عن الدفاع عن مصالح بلدهم؛ ففي نظر بعضهم تبقى صورة الإنسان العربي لصيقة "بالبداوة والمكر والغدر"، وهو ما يتجلى بقوة في المقررات الدراسية. الإيرانيون لا يتوقفون عند ذلك؛ بل لا يتوانون في رسم الاستراتيجيات والخطط من أجل الحفاظ على مقومات نظامهم، ويعتمدون في ذلك بشكل أساسي على مراكز صنع القرار في إيران التي تحتل أهمية كبيرة خاصة في ظل مشاريع التوسع، حيث لا تتغير بتغير الأنظمة السياسية أو الأشخاص أو الكوادر. يذكر القارئ الكريم أنه عندما تولى الرئيس حسن روحاني السلطة بإيران غشت 2013، اتخذ عدة قرارات اتضح من بعد أنها جاءت كنتيجة لتوصيات تقدم بها عدد من الباحثين المقربين من دوائر السلطة في إيران كالملف النووي الذي أصبح يحتل أهمية بالغة من خلال هذه الدراسات السياسية. وللتذكير، فقد صدر قراران مفصليان في السياسات الإيرانية تجاه العالم آنذاك تمثلا في تعيين السفير محمد جواد ظريف وزيراً للخارجية، ونزع صلاحيات التفاوض النووي من هيئة الأمن القومي الإيراني برئاسة سعيد جليي وإسناد الملف النووي كلياً إلى وزارة الخارجية؛ وهو القرار الذي نتج عنه تحويل الملف من قضية ذات علاقة بالأمن القومي الإيراني في المقام الأول إلى مجرد قضية دبلوماسية سياسية. وبعد جولات تفاوض متعددة الأغراض تكللت بالتوقيع على الاتفاق النووي الإطار بجنيف في نونبر 2013. المراكز البحثية الإيرانية هي إذن من ترسم الخطوط العريضة للقرارات السياسية الاستراتيجية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطات في طهران، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: مركز دراسات رئاسة الجمهورية، مركز دراسات البرلمان، ومعهد دراسات وزارة الخارجية، ومركز دراسات مجمع تشخيص مصلحة النظام... كل هذه المؤسسات تضع بين أيدي صانعي القرار الإيراني المقترحات والتوصيات من أجل تكريس سياسات معينة تخدم مصالحها وفق ما تقتضيه الظروف. لقد فهم الإيرانيون اللعبة جيدا، واقتنعوا بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية؛ فهي أداة تساعد على استيضاح المواقف الدولية والتفاعلات الداخلية والتي على أساسها تبني الدول قراراتها الصعبة، وتؤسس لعلاقاتها بأطراف الحرب والسلام على حد سواء. وللأسف الشديد، إن الأشقاء بدول الخليج العربي لم يمجدوا العقل بالشكل المناسب؛ بل ما زالوا لم يستوعبوا بعد أهمية وجود مراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية، فيما الإيرانيون ينظمون المؤتمرات البحثية ويتخذون لها شعارات وعناوين تخدم ظروفهم السياسية يبرزون من خلالها أن النظام يركز "على النهج الدفاعي المحض"، وهي الصورة المراد تسويقها لكسب ود الآخر. العقلية السياسية العربية بالخليج فشلت فشلا ذريعا في توقع الأسوأ، وهي نتيجة متوقعة بل وحتمية. ولو كان حكام هذه البلدان يقرؤون توصيات مراكز البحوث والدراسات بالشكل السليم لما خرجت داعش إلى الوجود، ولما شرد الملايين بسوريا والعراق واليمن. لقد ضاع العقل السياسي بالشرق العربي بين متاهات الماضي وبين الارتهان للآخر. سياسات أدت إلى ترذيل استعمال العقل، بل وتعطيل كامل قدراته وإمكاناته عن الفعل الخلاق، والتفكير المنطقي والعقلاني السليم. وصدق من قال: "لا يكفي أن يكون لك عقل جيد. الأهم هو استخدامه بشكل جيد"، فهل يتعظ إخواننا بالمشرق العربي قبل فوات الأوان؟ - باحث في مركز الصراعات المقارنة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا [email protected]