لي قصة مع فكرة الثقافة الإبتكارية أود أن أشاركها مع القراء الكرام. آمل أن تساهم هذه القصة الشخصية في تعميق فهمنا للثقافة الإبتكارية واحتياجنا لها. لقاء وأخيرا رأيتها رأْيَ العين ..! فقد كنت لا أراها إلا في صور المجلات والكتب حيث أقرأ ما تكتب بنهم وشغف. كم أنا ممتن للأستاذ الكريم الذي دعاها لتقطع كل هذه المسافات لتزورنا هنا بالمغرب، وهنا بمدينة مراكش. كانت "إيدي ساشيكو"، الفيلسوفة وعالمة الللسانيات اليابانية، جالسة في مقصف كليتنا كفجر بهيٍّ تنتظر قدومي بتواضع آسياوي وسَمتٍ ياباني أصيل. تبادلنا بعض التحايا باللغة الإنجليزية ثم جلست لمحادثتها. كان يرافقنا في الجلسة أحد طلبة الماستر. تحدثنا عن المغرب وعن اليابان وعن اللغات وعن أشياء أخرى أذكر أنها كانت قليلة لكن لا أذكر ما هيه! ذكرت لي السيدة إيدي أيضا أن الطالب الذي كان برفقتنا مدّها بإحدى محاضراتي التي كنت أشرح فيها لطلبة الماستر نظرياتها في "التأدّب التداولي"، وبأنها سعدت كثيرا لأننا نتدارس نظرياتها، وبأنها أُعجبت بالطريقة الواضحة والميسرة التي أشرح بها هذه النظريات. كانت تقول كل ذلك بأدب ولياقة عظيمين حتى خُيِّل لي أني أنا صاحب تلك النظريات وليس هي، وأنها مجرد تلميذة جالسة عند قدمي تأخذ عني المبادئ الأولى للعلم! إنها الأخلاق اليابانية التي يعيشها اليابانيون دون أن يكثروا الحديث عنها! بعد يومي أو ثلاثة من لقائي الأول بالسيدة إيدي، دعتني إلى فنجان قهوة والتحدث في أمر قالت إنه هام. إيدي ساشيكو هي من مؤسسي مجلة "جورنال أوڤ پراڭماتيكس "الشهيرة ومن هيئة تحريرها. لم تساهم فقط في تعميق نظرتنا للغة بل ساهمت أيضا في تغيير نظرتنا للظاهرة اللسانية، وخصوصا تلك الجوانب منها التي تتعلق باستعمال اللغة في المجتمع. في ماذا تريد أن تحادثني يا ترى؟ دعوة اعتقدت في البداية أنها كانت تريد أن تشكرني بطريقة خاصة على الندوة التي نظمتها والتي جمعتها بطلبة كليتنا. لكن لم يكن الأمر كذلك. "تعلم يا سيد الحلوي أن اللسانيات المعاصرة قد سيطر عليها نموذج واحد مبني على فهم الغربيين للغاتهم ولثقافاتهم. ولقد آن الأوان لإعادة النظر في هذا الپاراديڭم على أسس فهم شعوب أخرى لأنفسهم ولثقافاتهم. فمفاهيم "العقل" و"اللغة" و"التأدّب" ليست كليّة .. وقد آن الأوان أن نفهم نحن في العالم غير الغربي أن نفهم أنفسنا كما نحن لا كما يرانا الغرب". كنت أستمع لكلمات السيدة إيدي، التي أثرت اللغة اليابانية بشكل ملحوظ على إنجليزيتها، وأنا مقتنع أنها ستشرح ما تقصده بشيء من التفصيل بعد هذا الكلام العام. "لقد أسست، أنا ومجموعة من العلماء الآسياويين والأمريكيين لتقليد سميناه ب"التداوليات التحررية"، وهو مؤتمر دولي نقيمه مرة كل سنتين نتداول فيه مسألة إعادة بناء العلوم الإنسانية من وجهة نظر ثقافات غير غربية" .. أجبت بشيء من التردد واع بنفسه أريد منه أني لن أتفق مع ساشيكو فقط لأنها ساشيكو: "لكن الغربيين هم أول من انتقد النزعات الكليانية يا سيدة إيدي". "هذا صحيح يا سيد الحلوي. ولكن نحن لا نريد أن ننتقد الپاراديڭمات الغربية فقط، بل نريد أن نعيد بناء العلم بشكل يعكس هويتنا. إننا نريد أن نبتكر أنفسنا بالعلم" كانت كلمات إيدي قليلة وهادئة، ولكنها مسّت وترا حساسا في حياتي بمجرد ما استعملت عبارة "نبتكر أنفسنا بالعلم". فقد كانت فكرة "الإبتكار" كلمة هامة في حياتي الشخصية ومفتاحا لكل نجاح أحققه. تعلمته في البداية من أبي (أطاله الله عمره) ... أبي السّوسي الذي هاجر في بداية الستينيات من منطقة آيت عبدالله إلى مدينة الرباط ليتعلم مهنة الحلويات العصرية بسرعة قياسية ويمارسها بعد ذلك بروح إبداعية غير مسبوقة:. لا أزال أذكر عندما قال لي ذات يوم: "أنا لا أكتفي بصناعة الحلويات التي أتعلمها، بل أبدع أشكالا جديدة من خلال تأملي للأشجار والنباتات وأشكالها المختلفة." هذا عين ما فعلته نفسي في مجال الدراسة والتحصيل عندما كان عمري 12 سنة فقررت أن أبدع حرفا أبجديا خاصا بي كنت أستخدمه في كتابة مذكراتي، وعندما "أصدرت" مجلة و رقية من عددين في سن الرابعة عشرة أكتب كل موادها وقصصها بنفسي وأقص صورها من المجلات القديمة لألصقها باستعمال مادة "الصابون البلدي" عندما لا أتوفر على لصاق سائل. كانت لعبتي المفضلة هي أن أتخيل بأني في حرب مع مملكة "النمل العملاق" وأن مهمتي هي أن أخترع نوعا من القنابل تفتك بالأشرار بشكل سريع. والقنابل هي مادة "أوقيد الشمع" الذي كنت أنشر مادته الورقية الشمعية، فأضع فيها رأس الأوقيد القابلة للإشتعال ثم أطويها طيّا. بعد ذلك أضعها أمام وكر النمل اللعين (اللهم مغفرتك يا رب!)، فأشعل الطرف الأدنى ل"القنبلة" لتنفجر ملتهمة كل النمل الذي كان "يحاول الهجوم على مملكتي". لقد كنت أحس عندما أبتكر شيئا مهما كانت بساطته بمتعة لا توصف. لقد كنت أستمتع بما أسميه الآن "تناقض الإبتكار". فكل فعل ابتكاري يتضمن تناقضا مثيرا ... لكي تبتكر عليك أن لا تفعل شيئا، وألا تقلد أحدا، وألا تُحد بالحدود التي يضعها عقلك ووعيك وفهمك لنفسك وللعالم المحيط بك .. ينبغي فقط أن تدع الكلام "ينْكلم" والخيالَ يسير بنفسه باستقلال "تام" عنك. لكنك من جهة أخرى ينبغي أن تقتصّ أثر "الأنفع" و"الأجمل" و"الأنبل" ... يعبر الجانب الأول من الإبتكار عن رغبة الكينونة في أن تكون "أيَّ" شيء. ويعبر الجانب الثاني في الإبتكار عن رغبة الكينونة في أن تكون "قيمةً". الجانب الأول هو "الحرية" عندما نمارسها، والجانب الثاني هو التخلُّق عندما يكون "هيئة ثابتة في النفس". الإبتكار هو "الحرية" عندما تختار أن تكون خيرا. كانت فكرة "الإبتكار" هو مملكتي السرية الصغيرة .. تلك الفكرة التي غيرت كوريا الجنوبيةواليابان وألمانيا الغربية من دول دمرتها الحرب والجوع إلى أعظم أمم عرفها تاريخ الإنسان. لذلك كان لكلام السيدة إيدي وقع خاص جدا في نفسي. "أريدك يا سيد الحلوي أن تشارك معنا في هذا المشروع الكبير ... أريدك أن تساهم معنا بمداخلة في مؤتمرنا القادم بمداخلة تقول لنا فيها كيف يمكن أن نعيد بناء العلوم الإنسانية بمفاهيم من ثقافتك! .. نريدك أن تمثل منطقتك في مؤتمر التداوليات التحررية" .. لقد أصبحت السيدة إيدي ساشيكو الآن واثقة من أني سأساهم في إغناء فكرة "إعادة بناء العلوم الإنسانية" انطلاقا من الثقافة التي أنا منها! .. فوجهت إلي دعوة رسمية لتقديم مداخلة أعبر بها عن هذه المساهمة في جامعة طوكيو! مشاركة لبيت دعوة إيدي وانطلقت إلى مدينة طوكيو في ربيع سنة 2010 لأشارك في الندوة التي جمعت 12 عالما من مناطق مختلفة من العالم: إيدي نفسها ممثلة لليابان كانت تمثل اليابان بمعية فيلسوف ياباني معروف باليابان، بالإضافة إلى الأنتروپولوجي اللساني الأمريكي ويليام هانكز ووعلماء بارزين من من التايلاند وابريطانيا والصين ... كان أصغر الحاضرين وأحدثهم في المشروع رجل عمره 39 سنة من شمال إفريقيا اسمه عبدالله الحلوي. لم تكن آسيا شيئا جديدا بالنسبة لي، فقد زرت كوريا الجنوبية والصين قبل زيارتي لليابان. ما كان مثيرا ومخيفا شيئا ما هو أن 11 عالما كنت أسمع عنهم فقط سيأتون من فنادقهم الفخمة التي كانوا يقيمون بها وسيجتمعون حولي بمعية طلبة الدوكتوراه في جامعة طوكيو ليستمعوا ل"نظرية جديدة" استلهمتها من الثقافة التي أنتمي إليها! كان الأمر مخيفا بالفعل. في اليوم الثاني من المؤتمر، طُلب مني أن أقدم مداخلتي أمام جمع من الأكاديميين لا يعرفون المغرب جيدا ولا يعرفون بماذا يمكن أن يساهم رجل من هذا البلد الغامض البعيد. بالصدفة وجدت على طاولة كانت موضوعة أمام المنصة منشورا ورقيا (يبدو أنه كان جزءا من كتاب) كتبت عليه باللغتين الإنجليزية واليابانية بعض العبارات متعلقة الثقافة البوذية اليابانية، منها العبارة التالية: "عندما تبحث في الأشياء، فإنك تجدها فارغة من الداخل". فتوجهت إلى الحضور قائلا: "أيتها السيدات والسادة، لقد جئت من بلد بعيد، المغرب، لأؤكد لكم هذا الذي تؤمنون به هنا في اليابان: "أن الأشياء فارغة من الداخل". لكنني سأضيف إلى ذلك فكرة تعلمتها من أبي وإنسان شمال إفريقيا وهي أن أننا نستطيع أن نملأ هذا الفراغ بأشياء جميلة ومدهشة. لقد جئت عندكم لأبين لكم بأن نظرية السيد شومسكي خاطئة ... وبأنه ليس هناك أي نحو يمكن أن نكتشفه ... لكن في داخلنا "خالقا" صغيرا يعيد "خلق" العالم باستعمال آاليات بسيطة وفعالة". كانت السيدة إيدي وطالبة الدوكتوراه التي خصصت لمرافقتي طوال فترة المؤتمر تنظران إلي بأعين مشرقة لأنهما كانتا تعلمان أني سأصدم الحاضرين وبأن كلامي قد يغضب البعض. كان عنوان مداخلتي: "نحو تخريج جذري للغة" towards a radical externalization of language بينت فيها بشكل تقني بأن النحو الكلي مجرد وهم وبأن ما يعتقد شومسكي بأنه نحو كلي هو مجد آليتين للخلق والإبداع غايتهما مصالحة إكراهات الطابع الزمني للغة مع الطابع غير الزمني للإبداع والإبتكار اللغوي. بينت أيضا أن ما يسميه شومسكي ب"الإبداع اللغوي" هو فهم جد سطحي للإبداع التي تمارسه هاتين الآليتين. هنأني الجميع على "عمق" الطرح وغناه! .. لكن ما كان يهمني أكثر هو رأي إدي وويليام هانكز .. ترى ما رأيهما؟ .. اقتناع في حفل العشاء لتلك الليلة، جلست إدي بجانبي وقالت لي ونحن بصدد تناول العشاء:" لقد قال لي السيد هانكز بأن مداخلتك كانت ذكية ومذهلة وهو يأمل أن تنشرها كاملة عندنا!" .. كلام جميل، ولكني أريد أن أسمعه من هانكز نفسه. في اليوم الختامي للمؤتمر، قدم هانكز عرضا مفصلا صاغ فيها تقييمه لأعمال المؤتمر، وذكر مداخلتي قائلا: "لقد أبهرنا السيد الحلوي بفكرته عن خارجية اللغة، وأعطانا أملا لنفهم اللغة بصفتها أداة نعيد بها ابتكار العالم. شكرا الأستاذ الحلوي على فكرتك اللامعة brilliant". اصطنعت عدم التأثر كما يفعل كل الأكاديميين، وهززت رأسي بشكل أعبر به عن شكري للسيد هانكز على جميل كلامه. كان احساسي الحقيقي خليطا من النشوة والرغبة في الصراخ بنفس الشكل الذي يصرخ به الجنود بعد انتصارهم في معركة طاحنة. لقد اقتنعت بعد مؤتمر طوكيو أن اليابانيين والأمريكيين يتفقون معي بأن جوهر الإنسان هو أنه كائن يبتكر. كنت أدرس الكتب التي تتحدث عن المظاهر المختلفة للسلوك المبتكر لأن ذلك مرتبط بتخصصي الضيق، أما الآن فقد أصبحت أدرسها لأني جددت فهمي لطبيعة الإنسان ..! عدت من اليابان إلى المغرب بحلم واحد وهو أن أبدأ برنامجا أستعمل فيه كل ما اكتشفه الأخصائيون عن الإبتكار في إطار برنامج أصوغه بنفسي وأطوره بنفسي انطلاقا من احتياجات بلدي وثقافة أهل بلدي. وهذا عين ما فعلته رفقة طلبتي انطلاقا من سنة 2012. مزيد من الإقتناع سنة 2014، قُدّر لي أنا وممثلة لوزارة الشبيبة والرياضة أن وزارة الخارجية الأمريكية اختارتنا في إطار برنامج تكويني يسمى ببرنامج "الزائر الدولي". سافرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية مع السيدة الممثلة لوزارة الشبية والرياضة وأنا أحمل سؤالا قررت أن لا أعود إلا بجواب واضح عنه: ماذا يفعل الأمريكيون ليبتكروا المعرفة؟ كيف يفعلون ذلك بواسطة مكتباتهم وجامعاتهم؟ ... زرنا جامعات مختلفة ومكتبات مختلفة في خمس ولايات أمريكية، كنت أطرح فيها سؤالي على المسؤولين الذين التقي بهم، فوصلت إلى نتيجة مفادها أن الثقافة الإبتكارية تأتي إلى المكتبات والجامعات مما يفعله الأمريكيون في المدارس الإبتدائية ... الإبتكار ثقافة "تُعمق" و"تنتشر" لقد أصبحت "رؤية الثقافة الإبتكارية" واضحة في ذهني الآن. إنها ليست مجرد مشكلة تربوية أو ثقافية، بل مشكلة وجودية. إنها بعد من أبعاد إنسيّتنا فقدناه، فأصبحنا مهددين بالنزول إلى ما دون مستوى الإنسانية! فكيف نستعيده؟ كيف يمكن لهذه الحضارة العظيمة التي نسميها تامازغا والتي أسس لها أجدادنا منذ أكثر من 5000 سنة في شمال إفريقيا أن تستعيد هذا البعد الأنتروپولوجي لوجودنا الحضاري؟ هذا هو أحد الأسئلة المحورية التي أسعى بكل ما أستطيع إلى المساهمة في الإجابة عنها نظريا وعمليا. [email protected]