حينما أسترجع من محطات بعيدة صفحات السنين ودهشة الكتابة ومسافاتها المستبدة بالكيان، أستحضر جريدة "العلم" وصفحة "الباب المفتوح" في بداية التسعينات وهي تحتضن نصّي الأول.. لتتوثق الصلة بين الجريدة عبر صفحة "حوار" ثم الملحق الثقافي.. ولأجدني أنسج خيوطاً أخرى وفي يدي أحلامي تجاه العمل الصحافي: حوارات، استطلاعات، مراسلات، كتابات فنية وإبداعية لشهور عديدة، دون أن تكون لي صلة مباشرة مع كل طاقم التحرير باستثناء المبدعين العزيزين: نجيب خداري ومحمد بشكار. وأكثر ما كان يشغلني في هذا الطريق الممتد والمتطلع على ضفاف "العلم"، اللقاء برئيس تحريرها الأديب والإعلامي الرائد الأستاذ الراحل عبد الجبار السحيمي (1938/2012)، هذا الاسم شديد الدلالة الذي له مُتّسع في المعنى وصاحب الصّوت المتطلع والمسار المعرفي المغاير، بعدما تركت كتاباته غير المتوقعة في نفسي ما يتركه ضوء خلاب من سحر وعنفوان لا يوصفان، أنا الكائن الطريّ القادم على جسر مختلف مغموراً ببساطتي.. فيقابلني الرجل بلكنته الرباطية المُشرقة بخفة القلب التي بدّدت شيئا من رهبتي وهو منغمس بكامل وجدانه بين الأوراق: كيف هي أحوال "الشاون؟". عبد الجبار السحيمي الطّائر الحرّ الذي ارتفع فسيحاً وبعيداً بالسؤال، كان جناحه صوته وكانت حلقات مشروعه الإعلامي المنشدّة للتحديث والتغيير ومواقفه السياسية والاجتماعية والثقافية تكبر وتتجدّد في العمق وبالانتماء إلى الفعل.. في هواء المدن والقرى وفي سحنات المقهورين والمنسيين بين أوراق الغبار وأثقال الفقر.. وفي المنعطفات العصيبة، منسجماً بهذا مع موقفه الأخلاقي، الذي نبّه عبره وانتقد ورفض، مستحضراً وقائع الحياة اليومية وقضايا عصرنا، فكان بارعاً ومقنعاً ومؤثّراً. لقد كانت صوره الإنسانية متّحدة الجوهر وهي تصوغ مسارها وتخلق تقابلا مستمراً في مواجهة مصاريع الظلمة، عبر كتابات شكلت بانعطافاتها توقداً جديداً في الأسلوب الصحافي وفي فعله وصداه، وفي تأثيراته التي تفيض فيضاً وتنمو وتتأكد وتحقق الوعي وتتخطى الاحتمالات؛ حيث يشدّنا بروعة القول ويجعلنا نستعيد مذاق الأشياء وسجالات أيّامنا، معتمداً في ذلك على شرارة جمالية متصلة بفروع الحاضر والمستقبل وبخيارات ورؤى تنفذ إلى العقل وأعماق النّفس وتستغور قرارة الأذهان. ولم يكن كل هذا بغريب على الرجل الذي كان تأثيره حاسماً، والذي اختار من قسمته التسامي في كبريائه وفي خيمته الإعلامية التي حصّنها من كل تطفل أو وهم، رفقة رفيقي دربه الأديبين المرموقين: محمد العربي المساري وعبد الكريم غلاب وغيرهما، وجعل منها أرضاً للحوار والتعدّد ونبضاً ينتصر للفكرة ويؤسس لنضج ثقافي وإعلامي، فكان كما أراد منها صوتاً مفتوحاً لا يحدّه خوف، يعمّق الحس بالقضايا والانتظارات، محللا نسيج المجتمعات وفاهماَ لتفاعلاتها الداخلية، في احتداماتها وتناقضاتها، جاعلا من خطّ يده أسلوباً خاصاً يتجدّد في كل مرّة، ينطق بعباءة لغته ويتغلغل في كنه الوطن والإنسان، وفي جغرافيات أشدّ حساسية، معيداً بذلك تكوين الواقع والإسهام في تغييره ونقد السّيطرة، بلمسته وبوحه وهوائه الطّلق. وها هو عبد الجبار سليل الإبداع الذي كان يستجير بالبحر والقصبة وبأمل الأفق ومناخات العزلة، ليحكي لهم شجونه، كلما ضاقت به (مرايا الوجوه).. وها هو صاحب أعمال: "مولاي" و"سيدة المرايا" و"الممكن من المستحيل" …الذي جعله ممكناً، يباغتنا برحابة أشمل وبقدرة السّهل الممتنع فيقول: "الليل يُولّد الصّمت، وفي الصّمت تصبح تكتكات الساعة أفاعي تتلوى في فراشك، تدخل رأسك تحت الوسادة، لكن تكتكات الساعة تقوى... وتمنعك من النوم، لن تنام إذا لم يولد الصّمت كاملا..."، (قصص الممكن من المستحيل ص: 45) في الصمت أحيانا حكمة الكبار، نتخطى به الحياة الضاجة بأصواتنا ونستوحي منه الصلة الملتبسة بين الغابة والرّحيق، بحثاً عن مساحات من الحرية.. وفي الكلام كذلك كشف عن دواخلنا الغامضة وامتداداتنا في الطريق، التي قد تحجبنا بوصلتها في غفلة منّا، فنكون مجرد عابرين نرفع الأيدي بالتصفيق.. لكن الأهم، كيف نصير شهوداً على العصر وحقيقته؟ وكيف نركب الضفّة بدون مجاديف المحاباة؟ وكيف نجعل من الوقت حداً نقطع به ظلال الخمول ونواجه به طواحين القسوة.. وننحت منه ربيعاً مرتقباً؟ وهذا شأن الفذّ عبد الجبار السحيمي، الذي جعل من شِريانه مِحبرة وزهرة تمشي إلى بلادها..