منذ بداية الربيع العربي وما صاحبه من حراك في شوارع المدن العربية وشعار إسقاط الفساد يدوي في الفضاء ، وتصدح به الحناجر. ويخيل لمن يسمع هذا الشعار أن الفساد يوجد في مكان ما بعيدا عن الذين يرفعون الشعارات ضده وأنه قد تزيل عنهم ، أو أنه لا يعنيهم بل هو فساد أنظمة فقط . والواقع أن الذي يرفع شعار محاربة الفساد لا بد أن يرفعه أولا ضد فساد نفسه الأمارة بالسوء والتي يغفل عن اتهامها وإدانتها بسبب غياب الكياسة فيه . والمعروف شرعا وعرفا ونقلا وعقلا أن فساد القيادات إنما يصنعه فساد القواعد مصداقا للأثر القائل : " كما تكونوا يول عليكم " فبموجب هذا الأثر يكون من المؤكد أن فساد الأنظمة العربية هو نتيجة حتمية لفساد الشعوب العربية . ومعلوم أن الفساد أو الفسود هو نقيض الصلاح ، وهو بهذه الدلالة خروج الأمور عن طبيعتها النافعة إلى طبيعة ضارة ، ومن جدها إلى هزلها ، وليس من قبيل الصدف أن يطلق الفساد على اللهو واللعب وهما نقيضا الجد. ومن الفساد أيضا حيازة ما لا يجوز سواء كان ماديا أم معنويا ، فأخذ المال ظلما يسمى فسادا ، وأخذ المنصب ظلما يسمى فسادا ، والظلم هو وضع الأمور في غير ما وضعت له أصلا. وفساد الأنظمة العربية إنما مصدره أن هذه الأنظمة فاسدت شعوبها بالإساءة إليها ففسدت الشعوب عليها ، وصار ت هذه الشعوب فسدى تحاكي فساد أنظمتها . ولا يخلو قطاع من قطاعات المجتمعات العربية العامة أو الخاصة من داء الفساد ، وهو حجر العثرة التي تقف في طريق تطور هذه المجتمعات . والعجب كل العجب أن نسمع الواحد منا وبدون استثناء يعبر بمرارة عن مناهضته للفساد وكراهيته للمفسدين ، وعندما نسمعه يتحدث عن الفساد بهذا الأسلوب ينال من الاندهاش لدرجة الوعي العالية التي بلغها مناهض الفساد ، وما نكاد نطلع على واقع حاله حتى يزداد اندهاشنا من إنسان يلبس الفساد ويلابسه الفساد .فالمزارع عندنا يطعن في فساد الأنظمة التي تسبب له الخسارة في المحاصيل ، وتضيق عليه بالضرائب وتستغل عرقه ... إلى غير ذلك ، وكل ذلك فساد لا ينكر ، ولكنه يسكت عن فساد تدليسه وغشه عندما يعرض محصوله على من لم يضيق عليه بضرائب ولا هو استغل عرقه بل هو مجرد مستهلك يدفع من مال عرق الجبين للحصول على محصول في مستوى ماله فلا يحصل إلا على محصول مغشوش أفسده فساد المزارع الذي فاسده المسؤولون فنقلوا إليه عدوى الفساد أو الفسود . والموظف عندنا في مختلف القطاعات ناقم على الفساد كأشد ما تكون النقمة حتى أن الإضرابات المناهضة للفساد صارت ديدنا ، وعنها نشأ ما يسمى حراك الشعوب العربية ، ولا تفوته فرصة دون أن يدين بشدة الفساد النازل من المسؤولين وهو فساد صحيح لا ينكره منكر، ولكنه لا يلتفت إلى الفساد الصاعد منه إلى هؤلاء المسؤولين .فالموظف في الإدارة على سبيل المثال عندنا يلتحق متأخرا بعمله بعد أن يوصل أبناءه إلى المؤسسات التربوية أولا ، ويميل صوب المقهى لتصفح جرائد الصباح واحتساء القهوة والشاي وربما اللهو بجزء من شبكات الكلمات المتقاطعة قبل أن يصل إلى إدارته ويلقى التحية على زملائه ، ويخصص لهم جزءا من أحاديثه عن الرياضة والسيارة ، والأبناء ، وغلاء المعيشة ، وفساد الإدارة ... وهلم جرا . وإذا ما التحق بمكتبه تفل بين يدى ملفاته لاعنا وشاتما حظه وعمله ، وصرف من يدخل مكتبه من المواطنين بذرائع واهية وبأساليب تعجيزية لربح المزيد من وقت الراحة والاستجمام في مكتبه وربما أغلق الباب دون مصالح المواطنين ، وأكمل ملء شبكة الكلمات المتقاطعة ،أو اشتغل بالعبث بفأرة حاسوبه وقد فتح نوافذه على العبث واللهو متظاهرا بالانهماك في الشغل ، وقد يفتح المصحف للتبرك بالقراءة ، وقد تعبث أنامله بحبات المسبحة على إيقاع شفتيه بالذكر . وإذا ما سأله مواطن خدمة تذرع بكثرة المشاغل وأشار إلى ظهر حاسوبه المشغول الوجه بالعبث واللهو ، وربما انهمك في مكالمة هاتفية طويلة مع الزوجة أو الأبناء أو مع الأصدقاء والأقارب ، أو مع الخليلة أو حتى بائعة الهوى استعدادا لسهرة الليل المقبلة ، كل ذلك وهو لا يعرف الفساد في تصرفاته وإنما يعرفه في تصرفات المسؤولين فقط . والمدرس عندنا يلتحق متأخرا بفصله وهو يجر رجليه جرا ، وينظر شزرا إلى مدير المؤسسة وهو يتوعده بنظرات حادة إن هو أنكر عليه تأخره وهو يتلكؤ في مشيته . وإذا دخل فصله قضى وقتا طويلا في سب وشتم قدره الذي جعله مدرسا ، وأخرج كتابه المدرسي أو قصاصات أو جذاذات درسه ، وكلف أحد تلاميذه بمسح اللوح ، وكلف آخر بقراءة أوكتابة أو عمل من صميم تخصصه ، وقد يبدأ الدرس بالحديث عن مباراة كرة القدم أو بحكاية من حكايات حياته ، وهي أحاديث تستهوي الناشئة لأنها لا تتطلب مجهودا كما تتطلبه الدروس . وتمضي أيامه الدراسية على هذه الوتيرة من الفساد ، عمل قليل وراحة واستراحة فوق اللازم ، وانتظار للعطل الأسبوعية وعطل المناسبات والعطلة السنوية ، وفي انتظار أيام الإضراب عن العمل احتجاجا على فساد المسؤولين عن قطاع التعليم دون أن يفكر لحظة في فساده الملازم له طيلة أيام الموسم الدراسي . وقد يبالغ في الفساد بتشجيع المتعلمين على الغش أثناء الامتحانات من خلال ترك الحبل على الغارب لحظة الامتحانات ، وهو يعتبر مهمة المراقبة عبارة عن عقوبة تمارسها عليه إدارته ، وقد يغيب ساعة هذه المهمة في ظرف امتحان حاسم دون أن يعتبر ذلك فسادا ، بل قد يزبد ويرغي إذا ما نبه إلى هذا النوع من الفساد . وقياسا على المزارع والموظف في الإدارة والمدرس في الفصل يمكن وصف غيرهم من تجار، وحرفيين ، وعمال ، وحراس أمن ، وجنود .... وهلم جرا فكل هؤلاء يتحدثون عن فساد المسؤولين ولكنهم لا يبالون بفساد يلبسونه ويلابسهم . ويبدو الجميع كالإبل لا يرى الواحد منها سنامه ، ولكنه يرى أسنمة غيره ويعيبها كما يقول المثل العامي . وهذا السلوك لا يستثنى منه أحد إلا من تغمده الله برحمته وشمله بلطفه ،ونبهه إلى فساد نفسه قبل أن ينظر إلى فساد غيره وهذه قلة أو ثلة قليلة في المجتمعات العربية . وأغرب الغرائب أن يصير للفساد أعوان يدافعون عنه في إطار هيئات نقابية لا تتحدث عن فساد منخرطيها أبدا وتشتغل بالتنديد بفساد الإدارات والمسؤولين فقط . وقد يصير كل من ينبه إلى فساد القواعد مستقبحا منبوذا لا يقبل كلامه بل تتواطأ القواعد المطبعة مع الفساد ضده فيصير متهما بأخطر تهمة وهي الجهر بمحاربة فساد الجداول التي تصب في أنهار الفساد الكبرى وتغذيها . وأخيرا أعتقد أن رفع شعار محاربة الفساد يبدأ أولا من فساد الذات النرجسية لأن الكياسة كما جاء في الأثر هي إدانة النفس والعمل لما بعد الموت ، والعجز هو إتباع النفس هواها وتمني الأماني على الله. وعلى كل من حدثته نفسه بإدانة الفساد في غيره ، وهو فريضة تعرف في دين الإسلام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يلتفت إلى فساد نفسه أولا فيسألها عن المهمة أو المكانة التي يتبوأها ، والمنصب الذي يحتله ، والامتيازات التي يستفيد منها هل يستحقيها بالفعل ؟ أم أنه أدرك كل ذلك عن طريق الفساد وهو طريق المحسوبية والزبونية والوصولية والانتهازية ، والسطو والغلول والرشوة... وكل الطرق غير المشروعة . والمسؤول من راعي الغنم إلى راعي البشر وما بينهما الذي تقلد مسؤولية ليس أهلا لها ولا هو كفؤ لها يجب أن يخجل من الحديث عن محاربة الفساد ، وهو يتبوأ منصبه ومسؤوليته عن طريق الفساد . وهذا هو حال الأمة العربية مع الفساد ، فالكل ينادي بإسقاط الفساد ،وفي نفس الوقت الكل يمارس الفساد بامتياز، وعجبا لأمرنا مع محاربة فساد نحن نصنعه صناعة في جداولنا ليصب في أنهار كبرى نريد تجفيفها.