صدر حديثا عن المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، ومطبعة أنفو برانت بفاس، كتاب ""ظاهرة "التبراع" في الشعر النسائي الحساني، دراسة في النسق السوسيوثقافي والجمالي"، للباحث الدكتور عبد الحكيم بوغدا. يقع الكتاب في حوالي 310 صفحات، ويتناول المكانة المتميزة التي أحاط بها المجتمع الصحراوي المرأة، والأدوار الهامة التي اضطلعت بها داخل الأسرة والمجتمع، مستفيدة في ذلك من بعض العادات والتقاليد المرتبطة بالإسلام والمستنبطة من الثقافة العربية الأصيلة، مع تأثير العادات المتوارثة عن القبائل الصنهاجية المستقرة بالمنطقة قبل وصول القبائل العربية إليها. اتخذ الباحث من النسق السوسيوثقافي للمرأة في الصحراء أرضية لأطروحته، وساق مجموعة من الأمثلة المتعلقة بحالات الطلاق. فالمطلقة مثلا لم يشعرها المجتمع بالدونية أو النقص عن مثيلاتها المتزوجات أو الأبكار، كما أنها لم تكن عرضة لأي حيف أو معاملة ناقصة؛ فيما تمتعت المتزوجة بهامش كبير من الثقة، إلى جانب العديد من الأمور الأخرى التي رسمت للمرأة الصحراوية مكانة بارزة في مجتمعها، ولا أدل على ذلك كون شعراء الصحراء أفردوا لها قسطا كبيرا من أشعارهم، ولا يفوتون الفرصة كلما سنحت لهم دون تمجيدها وتبيان خصالها وخصائصها وسرد مناقبها. كما ركزت العديد من الأمثال الشعبية على دور المرأة داخل المجتمع، من قبيل: "لِّي مَاتْ بُوه يْتْوَسَّدْ رَّكْبَه، ولي ماتت مُّو يتوسد لْعَتْبَه". ويضرب هذا المثل في مكانة ومنزلة الأم مقابل مكانة الأب، وشدة تأثير رحيلها على الأبناء مقابل تأثير رحيل الأب. اهتم الباحث بمناقشة شعر "التبراع" وضوابطه الإيقاعية والبنائية وغرضه التغزلي باعتباره إبداعا شفويا نسائيا متميزا، طغت عليه القيم التقليدية المحافظة بالنظر إلى الطبيعة البدوية المتدينة للمجتمع الصحراوي. وتزداد الصورة إثارة كلما أدركنا كيف أن شعر "التبراع" لم يكتف بمعاكسة الرغبة المحافظة للمجتمع فقط، بل تمرد عليها من خلال تحول أشعاره الغزلية العفيفة في أصلها والرمزية في أسلوبها، نحو البوح الإباحي والمباشر أحيانا، في مساجلات ومحاورات شعرية تعبر فيها المرأة عن معاناتها الداخلية كنتاج طبيعي لوضعيتها في منطقة لازالت الحياة البدوية فيها بمعانيها ودلالتها وقيمها الأصيلة تتجلى بأبهى صورها. و"التبراع"، حسب الباحث فن شعري نسائي خالص، يوضح قدرة المرأة الحسانية على الإبداع من جهة، ومن جهة ثانية يبين تمكنها من اللغة وبراعتها في توظيف المحسنات البلاغية والاقتباسات القرآنية والأدبية وتوظيف الأحداث والشخصيات التاريخية، والاستعانة بلغات ولهجات أخرى غير الحسانية، إنه تعبير عن رقة المرأة الصحراوية وقدرتها على إبداع شكل شعري بسيط وقصير، لكنه أكثر الطرق اختصارا لإيصال المعنى، وهو ما أضفى عليه طابع التميز والخصوصية. إن "التبراع" بانتمائه إلى الأدب الشعبي الحساني دليل على غنى الروافد الثقافية الشعبية بالمغرب. والثقافة الشعبية الحسانية بمختلف مكوناتها من أغنى الروافد التي تبرز التنوع الثقافي المغربي. ثقافة أفرزت في دواخلها أصواتا نسائية متعددة برعت في فنون القول المختلفة، من قبيل الحكاية والمثل والشعر، خاصة شعر "التبراع" الذي عُدَّ مشتركا إبداعيا مَيَّزَ الأدب الحساني على امتداد بيئته الجغرافية الممتدة من واد نون شمالا إلى الضفة اليسرى لنهر السنيغال جنوبا. من المؤكد أن البحث في مثل هذا الموضوع جسر للانفتاح على الثقافة والأدب الشعبيين، بوصفه ملمحٌا من ملامح التنوع الثقافي الكبير الذي ميز المجتمع المغربي، ما من شأنه أن يُساهم في تأسيس الدرس الأدبي المغربي، ونشر الاهتمام بالتراث المغربي بمختلف أصنافه جمعا وتحقيقا ودراسة، وإخراجه من غياهب النسيان، وجعله في مصاف الآداب العربية والإسلامية والعالمية. كل ذلك من أجل كتابة تاريخ أدبي مغربي شامل وجامع، يعطي لكل منطقة من المناطق دورها الحقيقي المسهم في ازدهار الفكر المغربي وتطوره، عبر مختلف الفترات التاريخية. واعتبر المؤلف أن الكتابة في هذا الموضوع إسهام منهُ في التعريف بتراث منطقة ظلت إلى عهد قريب مجهولة لأبناء باقي المناطق المغربية، ما يساعد على توسيع دائرة الفهم والمعرفة بأهم المضامين والأشكال الثقافية والأدبية المختزنة في الصحراء المغربية، خصوصا أمام ما تطرحه ثقافة وأدب الصحراء من قضايا هامة شكلا ومضمونا. وتطرق المؤلف إلى العديد من الإشكالات، منها موقع المرأة ومكانتها الاجتماعية والعلمية داخل مجتمع الصحراء، وأبرز العادات والتقاليد المرتبطة بها، وكيف تُصور الذهنية العامية الصحراوية المرأة، وما مدى اقتصار تلك النظرة على المجتمع الصحراوي دون غيره، وطبيعة المرأة ومفهوم المرأة/الأنثى في ثقافة الصحراء، هل هي صفة أم جوهر؟ مفهوم ثقافي مكتسب أم معنى إنساني مركب؟ مصدر للغواية أم للتعقل؟. وفي شق "التبراع" طرح الباحث عددا من الإشكالات، منها ما هو مرتبط بروافده ومضامينه، ومنها ما تعلق بملامحه التعبيرية وسماته الفنية والجمالية، ثم أهم خصائصه الإبداعية شكلا ومضمونا، ولماذا هذه السرية التي أحاطت بها النساء إبداعهن الشعري؟ وسبب التسمية، فضلا عن النسق الإبداعي للشاعرة الصحراوية، وعلاقته بالنسق الإبداعي الرجولي، وأخيرا تموقع الإنتاج الإبداعي النسائي في الصحراء داخل الوعي الجماعي. يعيد الكاتب طرح الإشكالات التي طرحها المتن المدروس، فقد جمع ما يزيد عن ستمائة بيت من أشعار "التبراع"، ويُسائلنا عن حجم التراكم المتحقق لهذا المتن، وعن مدى امتلاكه خصوصيات تربطه بتربته المحلية، ومن ثم الوطنية فالعالمية. كما أن الطبيعة الشفوية لهذا المتن تطرح أمامنا إشكالية جمعه بعيدا عن الاعتبارات الذاتية والعرقية والإيديولوجية. هذا الجمع تعترضه العديد من التعقيدات، لأسباب منها أن المتن يحدد هوية الإنسان الصحراوي، ومن ثم يجب تناوله من داخله دون تسلط لقراءات قد تُخرجه عن واقعه، وإنما دراسته بوسائله الثقافية ومقوماته الخاصة التي يتضمنها هو نفسه. فبالإضافة إلى كشف مدى غنى وتنوع الثقافة والأدب المغربيين، يمكننا الكتاب من الرد على بعض الآراء التي تنسب مركزية الأدب العربي للمشرق -أو للأندلس في أحسن الأحوال- وتُكرس تبعية المغرب له. انبنى التصور العام الذي وضعه الباحث لمؤلفه على عدة عناصر، أولها مقدمة تم فيها تحديد الموضوع وطرح عناصر الاشتغال عليه، ومدخل حاول حصر الإطار العام للموضوع تجنبا لدخول القارئ في تشعبات يمكن أن يطرحها، ولتقريب فهم ما سيصادفه من قضايا ونصوص، مفترضين عدم معرفته المسبقة بها، وذلك حتى يكون على بينة من كافة المؤثرات المجتمعية والتاريخية والثقافية لمجتمع الدراسة، والتي أترث بشكل أو بآخر على حياة السكان. ويضم الكتاب فصلين؛ تناول الأول تمثل المرأة الصحراوية لذاتها داخل مجتمع الصحراء، ومكانتها ضمن بنية القبيلة في ظل تراتبية اجتماعية صارمة، ثم حضورها العلمي والأدبي الوازن، من خلال نماذج لنساء عُرفن بالأدب والثقافة والعلم والفقه، وأيضا تمثل وتصور الآخر لها، ثم كيف ساهمت كل هذه الأمور في تشكيل مفهوم المرأة والأنثى في الوعي الجمعي للمجتمع الصحراوي. كما عمد الباحث في الفصل ذاته إلى إقامة نوع من التقابل المستفيض بين المرأة الصحراوية والصنهاجية، في ما يخص العادات والتقاليد والمكانة الاجتماعية التي ميزت الثانية وأرخت بظلالها التاريخية على الأولى، بحكم أن التأثير والتأثر بينهما كان جليا، خصوصا بعد وصول القبائل العربية. فيما تناول الفصل الثاني شعر "التبراع" على اعتباره بؤرة الإبداع النسائي في الصحراء كما قال الباحث، والقيمة النوعية والجمالية لهذا الشعر، وأهم المواضيع والتيمات التي تَشكل منها، ثم علاقة المرأة بنفسها وبالآخر مجتمعا كان أم رجلا من خلال "التبراع" دائما. اعتمد الباحث مادة مصدرية جد متنوعة لإغناء بحثه، فالباحث في ميدان الآداب والعلوم الإنسانية لا بد أن تكون مادته المصدرية متنوعة، مقرا بأن كل مجال علمي تُقدم مصادره بشكل أو بآخر معلومات عامة أو خاصة عن الموضوع، ومنها مصادر ومراجع تاريخ ومجتمع وثقافة وأدب الصحراء، وكتب الرِّحلات على اعتبارها من أكثر ما أُلف حول المغرب عموما، فضلا عن الكتابات الاستشراقية التي مهدت في غالبيتها لاستعمار المنطقة وإخضاع مجتمعاتها، فأفرزت مجموعة هامة من الوثائق التاريخية والاجتماعية المتميزة بدقة الوصف وغزارة المعلومات، فضلا عن مجموعة أخرى من المصادر والمراجع من مختلف مجالات المعرفة الإنسانية. وبالتأكيد اعتمد الباحث على الرواية الشفوية، نظرا لطبيعة المتن المدروس والمجتمع المنتج له، رغم كل تحدياتها وما تطرحه من إشكالات. في ختام عمله؛ وبعد إيراده للعديد من نتائج بحثه، أكد الدكتور عبد الحكيم بوغدا أن حركية الأدب والثقافة والشعر في الصحراء عرفت ازدهارا ملفتا رغم حياة البداوة التي عاشها المجتمع، وشبه العزلة عن بقية الأقطار العربية، بفعل العديد من العوامل؛ أبرزها انتشار المحاضر العلمية، فعرفت تلك البقاع الصحراوية نهضة أدبية وثقافية كبيرة على مدى قرون، نهضة لم تغب عنها المرأة، بل سايرت تطور الأدب والشعر في الصحراء، اعتمادا على حضورها الوازن داخل المجتمع؛ فساهمت مكانتها المرموقة داخله في ظهور شاعرات قارعن الرجال في أغراض عدة، والاستئثار بنوع شعري دون الرجل، وفرده لغرض واحد ووحيد هو الغزل.. نوع شعري اصطلح على تسميته ب"التبراع"، استطاعت من خلاله المرأة الصحراوية التعبير عن مشاعرها وأحاسيسها تجاه الآخر.. شعر شكل وثيقة حية تعبر عن المضامين العاطفية والثقافية والاجتماعية وحتى التاريخية المختلفة التي تحصلت لدى المرأة الصحراوية من خلال حركيتها عبر التاريخ. لقد مثلت المرأة الصحراوية حسب الباحث امتدادا موضوعيا للمرأة الصنهاجية. هذه الأخيرة كان لها حضور قوي في المجتمع الصنهاجي، حافظت عليه حتى في ظل التشدد الديني للدولة المرابطية، حيث ظل شكل الأسرة ذات النسب الأمومي صامدا لدى صنهاجة وتعايش وأثَّر في الأسر الأبيسية، ومنها مجتمع الصحراء الذي تَكَوَّن بعد وصول القبائل العربية إلى المنطقة. قدم الباحث عددا من التوصيات، منها ضرورة إعادة الاعتبار لصوت المرأة المغيب في الأدب والثقافة الشعبيين، بجمع ونشر النصوص وتطوير البحث فيها، والنظر إلى تراث الصحراء ليس على أساس الفلكلور، إنما على أساس ثقافة شاملة لها كافة المقومات والأسس، ثم توسيع انفتاح الجامعة المغربية على ثقافة الصحراء، باعتبارها مكونا من مكونات الثقافة المغربية، في علاقة مع باقي المكونات الأخرى، وضرورة خلق قنوات اتصال بينها، وأخيرا تقوية التواصل الثقافي والفكري والحضاري بين كل مناطق المغرب، لخلق اندماج حقيقي وفعال بينها على كافة المستويات، وذلك بتفعيل الإرادة السياسية في هذا السياق؛ فهي الكفيلة بتحقيق الاندماج الثقافي والاقتصادي بين سائر جهات ومناطق المغرب الموحد سياسيا، دينيا، وحضاريا، يقول الباحث. وأهم ما أشار إليه الباحث في معرض تقديمه لتوصياته: ضرورة إعادة قراءة نصوص "التبراع" ليس على أساس كونها ردة فعل من المرأة ضد التزمت والكبت المفروضين عليها عاطفيا انطلاقا من السرية التي أحاطت به، فالعديد من كبار الكتاب اتخذوا من السرية والجنون قناعا لقول ما لا يتقبله المجتمع دون أن يعني ذلك عدم القدرة على الظهور بوجه مكشوف، إنما الحديث من وراء الستار وسيلة للترويح عن الأحاسيس وتفجير الآهات الداخلية وإضفاء لمسة إبداعية على تلك الأشعار؛ فالمجتمع الذي متع حريمه بتلك المكانة المتميزة لا يمكن أن يحرمه من التعبير عن عواطفه تجاه الرجل. يعتبر هذا الكتاب لبنة في توجيه الدرس الأدبي المغربي نحو الاهتمام بمجتمع الصحراء وثقافته، لاسيما الشق النسائي، وتعميق البحث حوله بما من شأنه كشف القوانين والمعايير الاجتماعية والثقافية والأدبية التي حددت نمط العيش داخل مجال الصحراء. كما أنه لامس ماهية وخصائص ومكونات شعر "التبراع" في الشكل والمضمون، وقرَّب نصوص "التبراع" من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظيفه للهجة الحسانية، واعتماده على الثقافة الشعبية، وذلك بتزويده ببعض الآليات التي تمكنه من الولوج إلى أعماق "التبريعة" واكتشاف أسرارها؛ ويروم جمع ما تفرق من تلك الأشعار صونا لها من الضياع، لأننا كما قال الأستاذ عباس الجراري "في حاجة إلى إبرازها أولا وقبل كل شيء".