تحتفي الطبقات العمالية و عموم الأجراء عبر ربوع المعمور بعيد العمال العالمي الذي يتم تخليده في الفاتح من مايو/ أيار من كل سنة,غير أن الواقع الذي أضحى يميز العقود الأخيرة هو حجم التغيرات الكبيرة التي شهدتها الأنظمة الاقتصادية التي تتبناها دول عديدة و مدى علاقتها بسوق الشغل وبالتالي انعكاساتها على ظروف العمل ،الشيء الذي انعكس في المحصلة على موازين القوى بين الحركات العمالية باعتبارها كتنظيمات تمثل المأجورين من جهة،و أرباب العمل وممثلي الجهات المشغلة من جهة أخرى. تأثير النظام الاقتصادي و إذا ما أخذنا الأمر في سياقه العام، فإن هذه العلاقة المختلة لا تعدو أن تكون انعكاسا طبيعيا لأزمة الحركات اليسارية بصفة عامة، و التي تفاقمت منذ انهيار جدار برلين و تفكك المعسكر الشيوعي وتبني دول اشتراكية سابقة لاقتصاد السوق،كروسيا أو الصين أو دول أوروبا الشرقية،وبداية التخلي التدريجي عن شعارات "كالدفاع عن البروليتاريا والطبقات الكادحة" و "التقسيم العادل للثروات" و"محاربة الامبريالية"،في مقابل هيمنة النظام الأحادي القطبية الذي تزعمته الولاياتالمتحدةالأمريكية،وبالتالي سيادة نمطها الرأسمالي \ الليبرالي الذي لطالما شكل إحدى أهم مرتكزات الحرب الباردة ; بالموازاة مع ذلك نذكر تعاظم تأثير مؤسسات مالية دولية كصندوق النقد الدولي و البنك الدولي ودورهما في رسم معالم القرار الاقتصادي و السياسي للكثير من الدول لاسيما النامية منها بحجة المحافظة على "التوازنات الماكرو-اقتصادية" عبر حثها على تقليص كتلة الأجور و الرفع التدريجي ليد الدولة عن قطاعات اجتماعية كالتعليم و الصحة في مقابل فتح المجال أمام دور أكبر للقطاع الخاص. أما النماذج اليسارية التي يمكن وصفها بالناجحة أو التي لازالت تقاوم هذه المعادلة الجديدة على مستوى أمريكا اللاتينية فهي تجد نفسها في مواجهة معارضة شرسة،منها من نجح فعليا في إسقاط رموز يسارية بارزة ونموذجها الاقتصادي الواعد كرئيسة البرازيل السابقة "ديلما روسيف"،ومنها من لا زالت قائمة كالحركات الاحتجاجية ضد ما يعرف " بالثورة البوليفارية" في فنزويلا،أو التي لازالت تعاني من العزلة ككوبا. واقع تفرضه العولمة أضحت ظاهرة العولمة كواقع يفرض نفسه إن على المستوى المالي أو المعلوماتي أو الاقتصادي العالمي،وتمليه أيضا الحاجة إلى التدفق السلس و الحر لرؤوس الأموال و السلع و الخدمات،وتغذيه الرغبة الجامحة في استشراف آفاق أوسع للربح و تحقيق رهان الريادة و الجودة و تخفيض كلفة الإنتاج و الاعتماد على "الروبوتات" عوضا عن اليد العاملة و السعي إلى غزو أسواق جديدة، يأتي كل ذلك في سياق التنافسية الكبيرة التي تعرفها الأسواق العالمية،لا سيما بين من تتوفر منها على سياسات اقتصادية مرنة و قوانين و أنظمة ضريبية محفزة للاستثمار و يد عاملة مؤهلة و رخيصة كدول جنوب شرق آسيا،و أسواق لا زالت تعرف ضغطا ضريبيا مرتفعا و نفقات اجتماعية أكبر كدول أوروبا الغربية و الولاياتالمتحدة،الشيء الذي يفسر ارتفاع مستوى البطالة و الركود الاقتصادي، وهي عوامل تستغلها تيارات سياسية يمينية و شعبوية في دعايتها ضد المهاجرين الأجانب محملة إياهم القسط الأوفر من المسؤولية في ذلك،و مطالبة بترحيلهم نحو دولهم الأصلية كالجبهة الوطنية في فرنسا و حزب الحرية في هولندا. بل ونجد هذه المطالب أكثر جرأة لدى إدارة ترامب حينما تنادي بمراجعة اتفاق التجارة الحرة مع الصين وسعيها الدؤوب إلى إلغاء اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) واتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ،بل و لا تخفي اعتزامها تبني سياسات اقتصادية انعزالية و "حمائية" بغية دعم المنتج الوطني و امتصاص حجم البطالة الداخلية بالموازاة مع تقييد حركة الهجرة نحو أمريكا. هيئات نقابية ضعيفة ومستقبل مبهم هذا الواقع الاقتصادي الجديد كان لا بد له من أن يلقي بثقله على مبدأ الاستقرار واستمرارية العمل وتعويضه بمبدأ العقود المحددة الآجال أو المؤقتة أو القصيرة المدى،وفي كثير من الأحيان العمل بمبدأ "المناولة" عوض التعاقد المباشر مع الجهة المشغلة و إقرار قوانين لتمديد سنوات التقاعد أو تخفيض الأجور،الشيء الذي أضعف إلى حد كبير البنيات التنظيمية للنقابات العمالية في العديد من الدول و من مدى قدرتها على تأطير منخرطيها و تحقيق أفضل المكاسب لفائدتهم،و هو واقع تعكسه أيضا النسب المتدنية للمنخرطين في النقابات المهنية،و حد من القدرة التفاوضية لتلك للهيئات و من هامش المناورة لديها حيث أصبح الهاجس الأكبر هو الحفاظ على مناصب الشغل القائمة و تجنب الوقوع في شبح عمليات تسريح واسعة النطاق في صفوف العمال كما حدث في دول أوروبية عديدة،و أصبحت بالكاد تناضل من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من الحقوق و الكرامة الإنسانية داخل مؤسسات الشغل على الرغم من وجود قوانين و تشريعات متطورة تمت مراكمتها بفضل جهود و نضالات امتدت لعقود من الزمن. إلا أن ذلك قد أصبح يطرح أكثر من سؤال حول مستقبل العمل النقابي برمته و الحاجة إلى إعادة صياغته وفق ما تمليه التحديات العالمية الجديدة و مطلب تحقيق السلم الاجتماعي،و إعادة الاعتبار لمبدأ التضامن الذي سيظل دونما شك السمة السائدة التي تطبع أي عمل نقابي باعتباره إطاراً قانونياَ ومنظماَ لحماية الحد الأدنى من حقوق الطبقات العاملة و ضامنا لكرامتهم الإنسانية،في أفق إعادة التوازن المفقود بين مصالحهم و مصالح أرباب العمل بل و مصالح مجتمعاتهم.