"لست مهرجاً ، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا. متهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً ، أنا منحاز لمن هم “تحت” .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات" ناجي العلي أتعبتُ ربما بعض القراء الأكارم بتطويل غير مقصود في مقالي الأخير، وأنا شاكر للجميع و خاصة من عنّى نفسه بتسطير تعقيب على المقال، و لكن "مشكلتي" مع بعض القراء الكرام أني و إياهم كحال من يقول فيه المثل الأمازيغي، الذي يحلو للوالدة الكريمة ترديده حال امتناع التواصل: "زُنْد ياَنِسَوَلْنْ سْ لَهْلْ نْبَابَاسْ" (كمن يُخاطب زوجة أبيه)، و قصد كلماتي في أحايين عدة يُجسِّد تعليق ما أذهب إليه من سوء فهم لدلالة حركة العشرين، تحدَّث بعض القراء الأكارم عن أجندة مخفية أو ظاهرة لمكونات هذه الحركة قد تُهدد مستقبل البلاد و ذهبوا إلى المفاضلة بين "العشرين" و المخزن، و اختاروا الأخير عن الفتنة في الدين أو في اللائكية، بل و "استطاع" البعض اكتشاف توجه الكاتب و فضح ميوله الإسلاموية، دع عنك منْ تَوَسَّل تمثيلا بلاغيا قابَلَ فيه بين الكلب و حركة العشرين من جهة و الذئب و المخزن من جهة أخرى و الشعب و قطيع الغنم من جهة ثالثة و لا أعتقد مدافعا عن وجوب بقاء حركة العشرين يأتي بأبلغ من هذا، أليس وجود الكلب ضرورة لحماية القطيع؟!!. ما نريده بالضبط هو ألا نبقى قطيعا يستفرد به المخزن و"يرعاه"، لأننا بشر أكرمه الله و لا أن نرى من يحمينا من هذا المصير كلبا لأنهم بشر و شرفاء و شجعان، يُذَكِّروننا بمن نكون بعد أن كانت هذه مهمةَ اضطلع بها الفلسطينيون الأشاوس لسنوات طوال. قبل استئناف القول في المسألة أودُّ بيانَ حقيقةٍ بشأن الكاتب، فهو لم يُخف يوما "إسلاميته" و ما على المكتشفين الأفاضل إلا الرجوع إلى ما كتبته في هذا الموقع و غيره منذ سنوات و اسألوا إن شئتم السيد "غوغل"!، أما أنَّ توجهي يفضح عدم موضوعيتي فتلك مشكلة معرفية لا سياسية، لا يوجد في دنيا الناس موضوعية، ومن شاء أن يكون موضوعيا فعليه أن يلزم بيته و حتى ذلك الموقف يُمكن التشكيك في حياديته بَلْهَ موضوعيته ، سيدي القارئ الكريم، ما أن تفتح موقعا دون آخر أو تقرأ مقالا دون أخر أو تتحدث عن موضوع دون آخر أو تستعمل مفردة دون أخرى أو تبدأ بجملة دون غيرها أو تتوسل منهجا دون غيره أو "تنتقي" من مجال النظر ظاهرة للملاحظة و الدراسة دون غيرها أو التعليق على مقال دون غيره حتى تَكون خارج ملكوت الموضوعية. سيطول بي المقام إذا أردتُ تفصِيلَ القول في المسألة، وسأكتفي (1) بما سطرت لأقول أن ذلك لا يعني عدم إمكان التواصل بين الناس لأن الأخير ينبني على الحوار و الحجة و التراضي و ليس على امتلاك الحقيقة الموضوعية، وكيف لحقيقة أن تكون كذلك و مُتعلَّقُها هو معاش الناس و مصالحهم وما توافقوا عليه، دع عنك شرطَ اللغة بما يسكنها من مواضعة من مُضمرٍ و اقتضاءٍ، و شرطَ التاريخ و ما يُشَكِّله من خلفية تَهب المعنى و تشرُط الاجتماع، و كل ذلك كان قبل أن نكون حتى أجنة في بطون أمهاتنا و سيبقى بعده. أكتب ما انتهى إليه نظري، و لي قناعة بأن مشكلتنا في اللغة كما في الممارسة. لا أرى أن الحداثة ركبُ علينا اللحاق به في "راس الدرب"، كما رسَّخ التكرارُ ذلك في أذهاننا، فبِتْنَا نعتقد في حقيقته اعتقادَنا في جدوى ركوب قطار للوصول إلى وجهة نريدها، كما لا أرى أن الخلافة "قادمة" و ما علينا سوى انتظارها كما ننتظر الحافلة في محطتها، و المسألة ليست لغوية هامشية و لكنها استعارات تضع الإطار لما سيتلوها من قول أو فعل، كما هي وظيفةُ التصميم الهندسي قبل أن تَمتدَّ إليه يدُ البَنَّاء، و المشكلة ليست في الاستعارات نفسها لأنها جزءُ ماهيةِ اللغة، على عكس ما اعتقد فيلسوفنا الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله، و لكن لأن هذه الاستعارات بعينها لا تستطيع الإحاطة بتعقيد الاجتماع البشري، لاستنادها على المكانية في أمر يتعلق بحركية تنِدُّ عن الحشر في قوالب "الرحلات". من يعترض على حركة العشرين بوجود أجندات عند "أصحابها" يعتقد مُخطئا في وجود هؤلاء الأصحاب أساسا، كما يعتقد في أن الحركة مُحفَّظةٌ في ملكية "العدل و الإحسان" أو اليسار "الراديكالي" أو غيرهما، و أننا على أبواب انقلاب يُمَكِّنهم من رقاب مُخالفيهم في المعتقد. ذلك تبسيط لسُنن التدافع، لأن أخطر تهديد نواجهه هو غياب كفة ميزان توازن كفة المخزن و ذلك ما سيفتح الباب مستقبلا لمجتمع لن يسري فيه غير قانون المحسوبية و التسوياتِ على قاعدة المال و ليس الحقوق(2)، و ها هو الحزب الحاكم في المغرب: "الداخلية"، يتفضل بدعم جزافي لمن يفتح دكانا و يُسميه حزبا (إلى أن يُصبح عندنا سِتُّون حزبا: النسخة المخزنية)، و لننتظر أن يخرج من هذا الخليط السياسي نظام ديموقراطي يحترمنا باعتبارنا بشرا لا أصواتا يتم حشدها في موسم "الفلاحة" و طردها في موسم الحصاد، و أن يلج الجمل في سمِّ الخياط أقرب من أن تنبعث السياسة الحقة من الجثث السياسية الجاثمة على صدورنا و المصطفة خلف الحزب الحاكم المذكور. أليس من العار أن تلد امرأة في "بهو" مصحة و يلمس الوليد الجديد "الضس"(3) حتَّى قبل المهد وتبقى الوزيرة الضاحكة في مكانها و مكانتها؟!!، أليس من العار أن يدخل صحافي السجن و لا يتوصل المعنيون بملفات الفساد حتى بدعوة لمحضر استماع؟!! أليس من العار أن يكون البائع لأراضي الوطن هو نفسه واهب رُخص بيعها؟!!... من يخاف على البلاد ظرفية بعينها فثَمَّةَ مربط الفرس، لأن من أهل الفساد من يرضع من ضرع قضايا الوطن الكبرى وِمن ثَمَّ لا يريد لها حلا. حركة العشرين هي مشروع كفة الميزان و على من يُريد خيرا بهذه البلاد أن يُساندها، خاصة ممن لا يزال يستطيع حِراكا هربا من رمال المخزنِ المتحركة، لأن فُرَص التاريخ ليس من عادتها طرقُ بابٍ مرتين. و الذين يتعاملون مع الحركة و كأنها بطاقة ائتمان يسحبون بها من "بنك" المخزن مكاسب عابرة من ساسة و نقابيين يحفرون قبورهم بأيديهم لأن الِمنح عابرة و الاستبدادَ لا عهد له و الكرامة ما يدوم، فليتقوا الله في هذا البلد!. الإحالات: (1) لمن شاء شيئا من التوسع في المسألة بغير تطويل و من "سلطة" معرفية فلينظر المقال القيم لعالم فيزياء شهير هو جون زيمان بالمجلة العلمية الأشهر "طبيعة" وهو يتحدث عن الوضوعية في العلوم الصلبة كمثال تصبوا إليه هذه الأخيرة مع اعتراف باستحالة بلوغه، هنا و نص المقال كاملا هنا. أو لمن شاء الاطلاع على استحالتها بالمفهوم الفلسفي للكلمة فلينظر الكتاب العمدة في فلسفة العلم "بنية الثورات العلمية" لتوماس كوهن هنا (أو الأصل الانجليزي)،أو "نظريات العلم" لأَلان شالمرز هنا (أو الأصل الانجليزي نسخة مزيدة ومنقحة)، وإن كان الكثيرون يستعملون الكلمة و يقصدون العدل و الإنصاف في الحكم و الحياد فيه و تلك مهمة القاضي أو الشاهد أو الصحافي عند نقل الخبر ، أما المحلل و الكاتب فليس لك سوى النظر في حججه و دحضها بدل الانشغال بإلقاء مفاهيم شابت رؤوس في تحديد مضمونها بلا نتيجة، كالموضوعية و الحداثة و العقلانية و الحرية،(يُرَاجع حول المفهوم الأخير مقالي: في حرية التعبير) وقد أسفِت لمَّا قرأت من يزعم تحليلا للخطاب و أستاذية فيه ينشغل بترديد هذه المفاهيم بدل الانشغال بتحليل الخطاب. (2) يكفي النظر فيما فعلته القطبية الواحدة فيما يُسمى بالمجتمع الدولي، و كيف أضحت أمريكا دولة مارقة تفتك بالآلاف، و من اعترض يُساوم بحقوق الإنسان الذي هو أبعد الهموم عن السياسة الخارجية للأمريكان ، أو يُعاقَبُ بطرقٍ يعلمونها و يعرفون جيدا خرائط تمريرها. (3) من خلال بعض التعليقات "المُقرفة" التي أقرؤها هنا و هناك أخشى أن يستدرك علي أحدهم بالسؤال عن حقيقة الواقعة أو ربما كان عليَّ أن أسأل الوليد فقد يكون هو من اختار أن يحُطَّ الرحال على "الضس" لشدة الحرارة.