قبل شهر، اتصلت بموظف يشتغل في السفارة الأمريكية لكي أطلب منه معلومات حول شروط الحصول على التأشيرة، فقال لي مازحا إنني أصبحت أسكن معهم في السفارة. فقلت له إنني لا أعتقد أنني غيرت عنوان سكناي، فأجاب بأنه لا يقصدني شخصيا وإنما يقصد عمودي. فأول شيء يصنعونه في الصباح هو ترجمته ووضعه فوق مكتب سعادة السفير. بعدها بأسبوع، اتصل بي زميل في الحرفة وقال لي إنه تعشى مع سفير دولة أوربية مقربة من المغرب، وإنهما بالإضافة إلى أكل لحم الدجاج المشرمل أكلا شيئا من لحمي أيضا بالنميمة. فسألته حول فحوى النميمة التي دارت حولي، فقال إن سعادة السفير يقرأ عمودي كل صباح بعد ترجمته، وإنه يسأل عن الجهة التي تقف ورائي، وعن الخط التحريري للجريدة. سفراء آخرون كثيرون ودبلوماسيون أجانب يبعثون إلي بدعوات إلى العشاء بمناسبة أعيادهم الوطنية أو بمناسبة حفلات خاصة تحضرها شخصيات معدودة على رؤوس الأصابع. وجميعهم يستغربون كيف أنني لا ألبي أية واحدة من هذه الدعوات. ليس تكبرا، معاذ الله، ولكن لأنني أريد أن أحافظ على مسافة بيني وبين هؤلاء السادة. هذا لا يعني أنني أقاطع هذا العالم المخملي الذي يمكن أن تصادف فيه المخبرين المتنكرين في لباس الدبلوماسيين والدبلوماسيين المتنكرين في لباس المتعاونين، بل بالعكس، فأخبار هذا العالم تصلني بانتظام عبر مصادري الخاصة. ولعل السؤال الذي يتردد اليوم في كل مكان، سواء داخل أسوار السفارات والتمثيليات الدبلوماسية أو داخل المقاهي في الأحياء الراقية والشعبية أو داخل البيوت أو المؤسسات الحكومية والرسمية والخاصة، هو من أين يأتي صاحب العمود بكل هذه الأخبار والأسرار والقنابل التي يفجرها كل يوم. هل يشتغل مع المخابرات المدنية أو العسكرية؟ هل لديه ارتباطات مع وكالة الاستخبارات الأمريكية أو مع مكتب التحقيق الفيدرالي؟ هل هناك جهة في الدولة تمده بالمعلومات أم إنه يدفع من أجل الحصول على هذه المعلومات؟ «هاذ الشي بزاف على خبارات»، لا بد أن الرجل «خدام مع مالين الوقت». أسئلة كثيرة تطوف بأذهان الجميع، وكلها تريد معرفة مصادر الأخبار، مع أن الجميع يعرف أن الصحافي الحقيقي لا يكشف عن مصادر أخباره حتى ولو علقوه على أعواد المشانق. إحم مصادرك. هذا ما علمتنا إياه هذه الحرفة. إن السؤال الحقيقي والوحيد الذي يجب أن يطرحه الجميع بخصوص الأخبار التي ننشرها هو: هل هذه الأخبار صحيحة أم خاطئة؟ أما: من أين تأتي هذه الأخبار؟ فهذا سؤال ينبغي أن يعرف الجميع أن الصحافي الحقيقي غير معني بالإجابة عنه. «نجيبها حتى من عند الشيطان، المهم تكون صحيحة». هل تعتقدون أن الصحافي الأمريكي الذي فضح مأساة أبو غريب ونشر تلك الصور الفظيعة كان سيستطيع صنع ذلك لو لم تكن له مصادر داخل الجيش الأمريكي. ومع ذلك، ورفعا لكل لبس وغموض، أعتقد أنه من الضروري تذكير الجميع بنبذة من سيرتي الذاتية، فربما تنفع في توضيح علاقاتي ومصادري «الخطيرة». كثير من القراء يريدون أن يعرفوا إلى أي تيار أنتمي. هل أنا شيوعي لأنني أنادي باقتسام الثروة بين الفقراء والأغنياء، أم إنني اشتراكي لأنني أدافع عن الطبقات العاملة، أم إنني إسلامي لأنني أطالب بحق المحجبات في الشغل، أم إنني ثوري لأنني أتمرد بالكتابة على الوضع السائد، أم إنني رأسمالي لأنني بدأت من الأسفل وأصبحت على رأس شركة يتعدى عدد مستخدميها المائة والخمسين. كثير من القراء يطالبونني بأن أؤسس حزبا وأفتحه في وجه المنخرطين، وأن أترشح للانتخابات لكي أنتهي نائبا، أو نائما، في البرلمان، أو وزيرا في حكومة لا يفتح وزراؤها أفواههم إلا عند طبيب الأسنان. لذلك قررت، وتعميما للفائدة، إعطاء نبذة عني وعن قناعاتي السياسية والإيديولوجية التي أعتنقها وأدافع عنها. أنا لست في أول العمر ولست في آخره. لست مراهقا سياسيا ولست ناضجا. لست متحزبا ولا مستقلا. لست بريئا ولا مجرما. لست كرسي سلطة ولا سلة قمامة. لست ثائرا ولا مخبرا. لست شاعرا ولا متعهد حفلات. لست زعيما ولا رعية. لست زنزانة ولا كرسي اعتراف. أنا لست البوق الذي يحمله الزعيم، ولست السوط الذي يلوح به ليخيف الرعية. ولست شاعر البلاط الذي يمدح لكي يربح وزنه ذهبا، ولا الهجاء الذي يشتم لكي يلوي ذراع الخليفة. أنا الطفل الذي يشير بأصبعه إلى عورة الإمبراطور، ويقول «أنظروا، الإمبراطور الذي ترتجفون خوفا منه عار». أنا بلا عمر تقريبا. شيخ بلا قبيلة. مخرب بأسلحة خفيفة. مناضل طبقي في حزب مقره يوجد في الطابق العلوي من المخيلة. أنا الذي لا يميز بين سقوط حائط برلين وسقوط حائط جارتنا في حي «المسيرة»، ولا يعرف الفرق بين مطرقة وسندان المعسكر الشرقي وبين مطرقة وسندان الحدادين في سوق «حد خميس الزمامرة». جرائمي الصغيرة تحلم بها شاشات السينما. واضح كفاتورة الهاتف. أقبل وأمضي مثل نزلة البرد. أتعافى بالجراثيم ونشرات الطقس. لدي رصيد محترم من أوهام صعبة مسجلة باسمي في بنك سويسري. أنا مصارع الثيران الذي يلوح بقماش أحمر في حلبة الوطن الفارغة. أنا رصاصة من عيار نادر تأكلها الرطوبة في بندقية معلقة إلى الحائط. أنا عاشق وحيد يشغل وقته بتقطيع أوراق الوردة التي اشتراها لامرأة في انتظار إغلاق المقهى. أنا سعيد الحظ الذي ربح التعاسة بعد مقامرة طويلة مع الحياة. أنا الطفل الذي يحمل كسرة الخبز ويقبلها مرتين قبل أن يدسها في شق بالجدار، والجزار قاسي القلب الذي يذبح خروف العائلة في الأعياد بيدين واثقتين. أنا الباحث عن الوردة وسط المزبلة وعن الحب في قطار لا أملك تذكرته. أنا فارس الأحلام الذي يركب رأسه عوض الحصان الأبيض. النجم الذي ما يلبث يتألق حتى يسقط وراء التل مثل حجر طائش. أنا اللص الشريف الذي يخلص المكتبات من دواوين الشعر الرديئة والروايات المملة والكتب التي تبعث على الغثيان. أنا الصعلوك الذي لم يسكر قط، والأمازيغي بلا حاجة إلى كونغرس عالمي. أنا المغربي بلا حاجة إلى معارف في الوزارات. أنا الذي لم يرسب قط في أي امتحان والذي مع ذلك يرتجف عندما يتذكر امتحان السياقة. أنا عدو الوثائق وقاعات الانتظار. أنا الذي ما إن يضع الطبيب يده فوق صدره حتى يرتفع ضغطه، والذي ما إن يقبل يد جدته حتى يشعر بالأمان. أنا الذي يغني فيروز في الحمام والشاب خالد في العمل ويرتل آية الكرسي داخل الفراش قبل النوم. أنا عضو اتحاد كتاب المغرب بلا حاجة إلى كتب. أنا قاطع الطريق الذي يعترض سبيل الجميلات من الأفكار في منتصف الليل بقلم حبر جاف في اليد. أنا الطفل الشقي الذي بمستطاعه أن يضيع موعد حب بسبب حصة للرسوم المتحركة. أنا الغبي الذي استبدل مقعده في قطارات العالم بمقعد ثابت في العمل. أنا المتخلف الوحيد في المغرب الذي مازال يتحدث العربية في القطار. أنا الذي مارس فنون الحرب عوض الفنون التشكيلية، وبناء الأجسام عوض بناء بيت حقيقي يستره. أنا المولود تحت برج الميزان نكاية ببرج الدلو. أنا المناضل الطبقي الذي أضرب أمام مندوبيات الشغل ونام بسبب التأشيرة أمام أبواب السفارات. أنا المتمرد الذي يحب القهوة بالحليب أكثر مما يحب ماركس، والكعك أكثر مما يحب الإضراب عن الطعام. أنا السائح الذي يحمل في حقيبته الجرائد عوض الخرائط، ومفكرة العناوين عوض البطاقات البنكية. أنا لسانكم الطويل الذي تشحذونه في جلساتكم الخاصة. أنا ضميركم غير المستتر، والفعل المبني للمعلوم والذي تقديره دائما أنتم. أنا الجملة الاعتراضية في كل خطاب ثقيل وممل. أنا الفعل المبني دائما على الكسر، والذي عندما يكون مزاجه رائقا يبني نفسه على الضم. أنا واو الجماعة وعلامة الاستفهام ونقط الحذف الأبدية. أنا الممنوع من الصرف، الذي لا يتنازل عن مبادئه ولو قايضوه بأشد العملات صعوبة. خادمكم الذي عينتموه واليا على ديوان مظالم يوجد مقره في «الجيمايل بوان كوم». أنا ابن الشعب الذي يشبهكم، أنا الفتى الذي يقول منذ طفولته ها أنا ذا، وليس ذلك الفتى الذي يقول كان أبي. أرجو أن تكون هذه المعلومات كافية عني، فقد حاولت ألا أنسى شيئا. كما أرجو من رجال المخابرات الذين يتنصتون على هاتفي صباح مساء أن يضيفوها إلى ملفي الذي يحتفظون به عندهم، فربما قد تنفعكم ذات يوم. فهي كما ترون معلومات جد مهمة حول شخصي المتواضع.